{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}.
عجيبٌ أمر هذا النّوع من الناس، انّهم يُراعون الحقّ لأنفسهم ولا يُراعونهُ لغيرِهم.
كلُّ شيء من حقّهم، وليس على الاخرين الا الواجبات!.
انّهم كتلةُ حقوقٍ تمشي على الارض، وغيرهم كتلةُ واجباتٍ تسيرُ على الارض.
عندما يتكلّمون عن انفسِهم فلا تسمع على لسانهم الا كلمة (حقّي) اما اذا تكلموا عن الاخرين فلا تردّد السنتهم سوى كلمة (واجبهم)!.
يُسهِبون في الحديث عن حقوقهم، اما الآخرين فيُسهبون في الحديث عن واجباتهم!.
يقبلون التّبرير لأنفسهم ويرفضون التّبرير من غيرهم!.
مشاعرُهُم رقيقةٌ جداً جداً ينبغي على الناس مداراتها بدقّة عند الحديث معهم وعنهم، او حتّى عند ذكر اسمهم! امّا الناس فيحمِلونَ مشاعِرَ من حديد!.
اذا خاطبهمُ الناس عليهم الالتزام بأخلاقيّات الحوار واخلاقيّات التّماس، كما يحلو للبعض تسميتها، امّا اذا تحدّثوا للناس، فكلّموهم على قدْر عقولهم!.
اذا خصّهُ القرارُ فديكتاتوراً، واذا خصّ غيره فالشورى واجبة!.
يتحدّثون عن كرامتهم عندما ننتقدَهم، امّا الاخرون فلا كرامةَ لهم ابداً اذا تحدّثوا عنهم!.
يتوقّعون من الناس ان يصغوا لهم اذا تحدّثوا، اما اذا تحدّث الآخرون فلا قيمة لحديثهم عندهم!.
اذا ذكرتَ رمزهم فعليك ان تذكُره بكلّ احترام وتقدير حدِّ العبوديّة، ولكنّهم اذا تحدّثوا عن رموزِ الاخرين فلم يوفروا صفةً ذميمةً او مصطلحاً قبيحاً الا وقدّموه بين يدي من يتحدّثون عنه!.
يريدونَ من النّاس ان يحترموا رموزهم وعقائدهم وكلّ ما يتعلّق بهم، اما اذا تكلّموا عن الاخرين فلا قيمة عندهم لرمزٍ او معتقدٍ او ايّ شيء!.
انهم ينتظرونَ من النّاس ان يصدّقونهم في كلّ ما يقولون، ولكنّهم يكذّبونَ كلّ مَنْ يتحدّث مِن الناس!.
يحرّمون الغيبة على الاخرين ويحللونها لأنفسهم، ويحرّمون الكذب على الاخرين ويحلّلونه لأنفسهم، ويحضرون سوءَ الظّن على الاخرين ويحلّلونهُ لأنفسهم، ويحرّمون التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول على الاخرين ويبيحونهُ لأنفسهم، وهكذا!.
رموزُهم مقدّسة ورموزُ غيرهم لا قيمةَ لها، ورأيهم لا يحتمل الخطأ ورأي غيرهم لا يحتمل الصواب! وإنجازاتهم لا جدال فيها لدقّتها وانجازات غيرهم لا قيمة لها لعبثيّتها!.
كلّ ما يقولونه ويصرّحون به ويفعلونه ويدعون له في محلّه تقطرُ منه الحكمة، اما غيرهم فقولُهم وفعلُهم فوضى ليست في محلّها!.
هم وطنيّون وغيرهم عملاء، هم اصلاء وغيرهم دخلاء، هم علماء وغيرهم عوام!.
وتتعاظم المصيبة عندما يَكُونُ هذا النوعُ من النّاس هو كلّ المجتمع، فلا يعترفَ احدٌ بأحدٍ، لا برمزٍ ولا بمعتقدٍ ولا برأيٍ ولا بمنجزٍ ولا بأيّ شيء آخر، فكلُّ واحدٍ يتخندق خلفَ ما يعتقد به فقط مقاتلاً من اجل تسقيط الاخرين، رموزهم وعقائدهم وآراءهم وإنجازاتهم وكلّ شيء يتعلّق بهم!.
عند ذلك فسيكون المجتمع آحاداً وافراداً لا يجمع شيء بينهم ابداً، وعندها فسيسهُل على كلّ من هبّ ودبّ ان يضحك عليه ويمرّر أجنداته الفاشلة، لانّه مجتمعٌ ممزّقٌ يُسقِطُ بعضهُ بعضاً!.
أينَ الخلل؟.
إِنَّهُ، برأيي، بما يلي؛
اولاً؛ الانانيّة والتطرّف بحبّ الذّات والاعتداد المطلق بالنفس، والتي يظّن بها المرء انّه لوحدهِ له الحقّ وعلى الاخرين الواجبات فقط، خاصة اذا كان مسؤولاً في الدّولة، وبالذات اذا كان مسؤولاً في سلطة مستبدّة وديكتاتوريّة، فهو سيظنّ انّ له حقوقاً على الرّعية وليس لها الا ان تلتزم بواجباتها! فيبدأ عندها بالتّدقيق في حقوقهِ وواجبات غيره! وكأنّ الله تعالى خلق البشر طبقات، سادةٌ لها الحقوق، كلّ الحقوق، فقط، وعبيدٌ عليها الواجبات، كل الواجبات، فقط!.
امّا أمير المؤمنين (ع) فيقول؛
{أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ، فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الاْشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لاَيَجْرِي لاِحَد إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ لاَِحَد أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذلِكَ خَالِصاً لله سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلكِنَّهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ}.
وهو اوّل حاكم حدّد الحقوق والواجبات المتبادلة بين الرّاعي والرّعية في اوّل خطابٍ القاهُ بعد تسنّمه لمقاليد السّلطة، قائلاً؛
{أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً، وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ:
فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وَتَعْلِيمُكُمْ* كَيْلا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْما تَعْلَمُوا.
وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ: فَالوَفَاءُ بِالبَيْعَةِ، وَالنَّصِيحَةُ في الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ، وَالاِْجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ، وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ}.
وغيره، لا يحدّثنا الا عن حقوقه وواجبات الرعيّة!.
ثانياً؛ عندما لا يجعل المرء من نفسه ميزاناً للحكم على الاخرين، في علاقاته العامة والخاصة وفي الحقوق والواجبات وفي كلّ شيء.
لقد أوصى امير المؤمنين (ع) ولده الحسن المجتبى السبط (ع) بقوله؛
{يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ}.
ينبغي ان يجعلَ كلّ واحدٍ منّا نَفْسَهُ ميزاناً في العلاقة مع الاخرين ليُنصفهم.
ثالثاً؛ وعندما يُعجبُ المرءُ بانجازاته ونجاحاته، فيظنّ انّه صاحبُ الفضل على الناس ولذلك عليهم واجب الطاعة والاحترام والتقدير وله الحق المطلق في ذلك من دون ان يكون لهم عليه ايّ حقٍ!.
عندما يُعْظِم إنجازاته ويقلّل من قيمة إنجازات الاخرين حدّ الاستخفاف.
امّا امير المؤمنين (ع) فقد حلّ هذه المشكلة عندما ذكرها في وصيته لولده الحسن السبط (ع) بقوله؛
{وَاعْلَمْ، أَنَّ الاْعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَآفَةُ الاْلْبَابِ فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ، وَلاَ تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ، وَإِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ}.
انّها قاعدة ذهبيّة يجب ان ننتبه لها دائماً؛
اذا أردتَ ان يحترمك الآخرون فاحترمهم اولاً.
واذا اردت ان يقدّر الآخرون جهدك وتعبك فقدّر انت جُهدهم وتعبهُم اولاً.
واذا تمنّيت لو يحترم الآخرون رمزك الّذي تقدّسهُ، فاحترم رموزهم اولاً.
واذا توقّعت ان يَصغي الى كلامك الآخرون ولا يسيئون الظنّ بك ولا يحاسبونك على النّوايا، فافعل انت الشيء نَفْسَهُ معهم اولاً.
لا تنتظر من الاخرين شيئاً لم تفعله معهم انت اولاً.
احترمْ انت حقوقهم ليحترموا حقوقك، وادّ واجباتك ازاءهم ليؤدّوا واجباتهم ازاءك، وعلى كلّ الاصعدة والمستويات، الشّخصيّة منها والعامّة.
الحوار مفتاح التّعارف
{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
تخيّل كم جادلهم وحاورهم نبي الله نوح عليه السلام حتى ملّوا منه، فهو لم يكتفِ بأسلوبٍ ولا أسلوبين، ولم يكتفِ بوقتٍ محدّدٍ، وانّما استخدم عدّة أساليب للاقناع بالحوار والجدال فقط لا غير، وفي كلّ الأوقات، وقد حدّثنا القران الكريم عن معاناته بلسانهِ بقوله عزّ مَنْ قائل؛
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا* وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}.
وهكذا هم كلّ الرّسل والانبياء؛
اولاً؛ فصاحبُ الرّسالةِ، أباً كان أَمْ أُمّاً ام معلماً او مصلحاً ام فقيهاً ام خطيباً أم سياسيّاً، لا يملّ من الحوار والجدال ابداً، لإقناع الاخر وتغيير قناعاته او لتعليمهِ وتربيتهِ وتزكيتهِ او لردعهِ وتصحيحِ مسارهِ او للاتفاق معه لتجاوزِ او حلِّ المشاكل.
لا ييأس ولا يستسلم بسرعة، ولا يخضع لقول المثبّطين الذين شعارهم دائماً (ميفيد) كلّما سمعوا أحداً يعِضُ او ينصحُ او يجادلُ او يحاور، كما يخبرُنا عنهم القرآن الكريم بقوله {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
الجدالُ، اذن، أقدس الادوات لتبليغ الرسالة.
فعندما ترى احدٌ يصرّ على الحوار فتأكد بانّهُ صاحبُ رسالةٍ، اما الذي يستخدم عضلاته فهو ليس بصاحب رسالة ابداً، انه طاغٍ متجبّر ظالم بشكلٍ او بآخر، همّه فرض ما يدور في مخيّلته على الاخرين، مهما كان الثّمن.
ولانّ امير المؤمنين عليه السلام كان صاحبَ رسالةٍ، فلذلك ظلّ يوظّف الحوار والجدال حتّى مع أعدى اعدائه، معاوية بن ابي سفيان مثلاً او الخوارج.
كذلك سيّد الشهداء الامام الحسين بن علي عليه السلام، فقد كان صاحبَ رسالةٍ، ولذلك ظلّ يوظّف الحوار والجدال الى آخر لحظةٍ قبل ان يبدأَ القوم القتال صبيحة يوم العاشر من المحرّم عام ٦١ للهجرة، فقد دعا قائد جيش البغي عمر بن سعد ليلة عاشوراء ليلتقيه وجهاً لوجه ليحاورهُ ويجادلهُ بعيداً عن اعين المعسكرَين ليحفظ له هيبته كقائدٍ عسكري يمكن ان تاخذه العزّة بالاثم اذا ما حاوره الامام امام عسكره!.
ويخطئ من يظنّ ان الاصرار على الحوار منقصة او علامةُ ضعفٍ ابداً!.
صاحبُ الرّسالة لا ييأس من الحوار فلا يقل (ميفيد) بعد اوّل جولةٍ فاشلةٍ من الحوار، كما يفعلُ البعض، فبمجرّد ان حاورَ الآخر مرّةً او مرّتين فاذا لم يلمس اثراً للحوار تركه قائلاً (ميفيد)! ابداً انّه يظلّ يوظّف الحوار والجدال في كلّ الأوقات فيغيّر الطريقة والاسلوب ويختار أوقاتاً مختلفة للحوار الى ان يلمس تأثيرهُ وأثرهُ.
والحوار مع الاخر، أحياناً، لا يكون هو المقصود به وانما غيرُه، فعندما حاور الحسين (ع) ابن سعد كان على يقينٍ بانّه سوف لن يغيّر من قناعاته في تلك السّاعة بعد ان خيّر نَفْسَهُ بين قتل السبط ومُلك الّري فكان ان اختار الاول، ولكنه عليه السلام سجّل كل حوارات عاشوراء للاجيال القادمة، بعد ان ألقى الحجّة على من حضر في كربلاء يوم عاشوراء، فاقتنع بعضهم بكلامه، كالحرّ بن يزيد الرياحي مثلاً، اما الأغلب الاعم فقد ضرب الله تعالى على عقولهم وقلوبهم وأسماعهم، بعد ان مُلئت بطونهم من الحرام، على حدّ وصف الامام عليه السلام.
انّ البديل عن ثقافة الحوار هو ثقافة العضلات، ثقافة العنف والعنتريّات والعصبيّات، الاولى تبني مجتمعاً سليماً وقويماً ومنسجماً ومتفهّماً ومتفاهماً على كل المستويات، اما الثانية فلا تُنتج الا الخلافات المستمرة التي تتوالد هندسياً بمرور الزمن.
ولذلك ينبغي ان نبذل كلّ ما في وسعنا ليكون الحوار والجدال ثقافة في المجتمع، يتميّز بها الأبوين في الاسرة والمعلّم والمدرّس في المدرسة، والقائد والزعيم في الحزب والحركة، والمسؤول في الدولة وهكذا، فكلّما كرّسنا ثقافة الحوار والجدال كلّما قلّلنا من استخدام العضلات في علاقات بعضنا مع البعض الاخر.
ثانياً؛ ان الحوار يحلّ من المشاكل بين الجماعات والافراد ما لم تحلّها الوسائل الاخرى، خاصّة وانّ الكثير من هذه المشاكل سببها جهل الأطراف ببعضها، لاهتمامهم بالنّقل والنّقل المضاد من دون ان يفكّر احدٌ منهم في الجلوس الى الاخر ليسمع منه ويحاوره بدلاً من الاستعانة بطرفٍ ثالثٍ مثلاً.
وعندنا قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} انّما عنى الحوار، فهو مفتاح التّعارف والّذي يُفضي الى التعايش وتالياً الى التعاون والتكامل.
ومن اجل ان يكون الحوار مجزياً وفاعلاً، ينبغي ان نستحضر الأسباب التالية:
١/ ان يكون مبنياً على فكر وثقافة ومنطق حتى لا يكون الحوار من اجل الحوار فذلك هو المِراء بعينه.
٢/ ان لا ندخل حواراً بأحكام مسبقة، او بخلفيّات وقوالب ثابتة وجامدة، فان ذلك يحول دون تغيير القناعات، وعندها سيكون الحوار من نوع حوار الطرشان.
٣/ كما ينبغي ان لا ندخل حواراً الا ونحن مقتنعون به اي مؤمنون بانّه الطريق الاسلم والأفضل لحصد النتائج المرجوّة، اما من يدخل حواراً وقراره افشال نتائجه، مع سبق الاصرار، فسوف لن يُنتج شيئاً ابداً.
بمعنى اخر، ينبغي التسلّح بإرادة الحوار وليس بمظاهرهِ فقط، عندما يكون الحوار للتسويق الاعلامي مثلاً او لإسقاط واجب او اسكات جهة او خداع اخرى، فالحوار بلا إرادة المتحاورين محكومٌ عليه بالفشل مسبقاً.
٤/ كما انّ لاختيار لغة الحوار الاثر البالغ في تحقيق ثماره، ولذلك قال تعالى {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وقوله تعالى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
٥/ كما ان استحضار مبدأ الاحترام المتبادل واحترام الراي والراي الاخر، في ايّ حوارٍ يساهم في إنجاحه والوصول به الى الثّمار المطلوبة.
٦/ كما ينبغي ان يكون الحوار صريحاً وواضحاً وشفافاً بعيداً عن المجاملات التي تقتل جوهره.
لقد شهدنا فشل جلّ الحوارات التي جرت بين الكتل السياسية، وعندما نفتّش عن السّبب نفهم انها المجاملات والمداراة الزائدة عن الحدّ، من جانب، ودوران الأطراف حول حلقات مفرغة يناقشون فيها القضايا التافهة والثانوية بسبب انهم جميعاً يفتقدون الى الشّجاعة التي يحتاجها المتحاورون للولوج في صلب القضايا والمشاكل العالقة، الحقيقيّة والاساسيّة والجوهريّة، ولذلك نسمعهم في كلّ مرّة يتحدّثون عن توصّل اجتماعاتهم لحل ما نسبته (٩٥٪) من المشاكل العالقة ليتبين لنا، فيما بعد، بأنّ كلّ المشاكل الجوهريّة العويصة في الـ (٥٪) المتبقّية! التي لم يجرؤ احدٌ منهم على طرق بابها، وإدراجها في ورقة العمل، حتّى!.
اي انّهم، وطوال اكثر من عقد من الزمن، يناقشون المظهر من المشكلة دون الجوهر منها، ولذلك تُستنسخ المشاكل وتتكرّر ذاتها بلا نتيجة تُذكر! الى ان تمدّدت الفقاعة لتحتلّ ثُلث العراق!.
تكريس حالة وثقافة التّواصي
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
ففي زمنِ التّحديات التاريخية العظيمة، لا يكفي ان تأمر الجماعة بالمعروفِ وتنهى عَنِ المنكر، بل يجب ان تتعدّى العلاقة فيما بينهم ذلك الى التّواصي، وكأنّه يحمِلُ بعضهم بعضاً، في الاعتقادات والعمل، من جانب، وفي الصّبر على المعاصي وعلى الطّاعات والبلاء، من جانبٍ آخر.
وانّ من اصعب التّواصي عندما يشمل الشأن العام، السّياسي على وجه الخصوص، لانّ تحدّياته اكبر وأدواته اخطر، ولذلك قلّما تجد جماعةً سياسيّة تتواصى فيما بينها بالحق والصبر.
انّ اغلبها لا تتحمّل مثل هذا التّواصي حتى في داخل صفوفها، ولذلك نجدها تنشقّ دائماً وتتكاثر اميبيّاً، وهذا دليلٌ على انّ الهدف ليس التعاون من اجل الخدمة العامة التي تحتاجُ، في اغلب الأحيان. الى رقابة صارمة وتصحيح وترشيد، ربما بصوت عالٍ وأحياناً عن طريقة الكيّ، وانّما الهدف هو السّلطة والنفوذ، والا ماذا يعني ان يترك احدهم العمل في صفوف حزبه، الذي قضى فيه مدة نصف قرن من حياته، لمجرّد ان قيل له تنحّى عن السلطة؟!.
نعم، فان كل جماعة تتربص بالجماعات الاخرى لفضحِها وكشف سوآتها، في إطار الصراع على السلطة والنفوذ، امّا فيما بينها فترى انّ كلّ واحدٍ فيها يتستّر على رفاقه ويدافع عنهم بالحق وبالباطل، لانّهم عادةً ما يتورّطون بالباطل فيحملُ بعضهُم البعض الاخر.
فمتى تسمع منهم كلمة الحق والصدق؟ عندما يختلِفون فيما بينهم، فيبدأ شرّ الغسيل القذر من على الفضائيّات! فأين كُنتَ، يا ترى، طوال هذه السنين؟ المْ تكنْ جزءاً من الجماعة؟ لماذا أَفَقْتَ الان فقط من سِنَتِك؟ لماذا انّبك ضميرك الان فحسب؟! كما تدّعي لتبرير كلامك ضِدّ جماعتك؟!.
طبعاً، فان السبب الحقيقي لا يتعدّى احد أمرين؛
فامّا انّه خسر الان امتيازاتهُ ومصالحهُ مع الجماعة فيبدأ بفضحها.
او انّه بدأ يشعر بانّ جماعته، او زعيمها، أضحت حصاناً خاسراً لا ينبغي ان يظلّ يُراهنُ عليه، ولابدّ من تغيير الولاء للقادم المحتمل الذي سيُمسك بالسّلطة والقوّة! وينبغي تقديم الولاء له من الآن، ولا يمكن ذلك الا بفضحِ الجماعة ليتأكد القادم المحتمل من انفصالي عنها وبالتالي يقبل ان أكونَ جزءً من جوقتهِ الجديدة.
هذا هو حال مجتمعنا، للاسف الشّديد، تحكمه الانتهازيّة والوصوليّة والمصلحيّة التي تجذّرت بسبب تحوّل السلطة الى محوريّة في كلّ شيء، في الامتيازات وفي الفرص وفي الإمكانيّات وفي الوجاهات وفي التقييم وفي المكانة الاجتماعية وفي كلّ شيء.
اننا بأحوج ما نكون اليوم الى تكريس حالة وثقافة التّواصي فيما بيننا وعلى مختلف المستويات، في الاسرة وفي المدرسة وفي الشّارع وفي العمل الحزبي وفي كل المستويات الاخرى.
ومن اجل تحقيق ذلك، ينبغي ان نتسلّح بما يلي؛
١/ ان نتميّز بأرقى مراحل سعة الصدر، فلا نضيق من ملاحظة ولا ننتفض من كلمة تناقضت مع رأينا او نثور من موعظة.
٢/ ان نتذكّر بأننا في مركبٍ واحدٍ ينبغي ان لا نسمحَ لاحدٍ ان يخرقهُ، لأنّنا سنغرق جميعاً وليس لوحده، ولذلك يجب علينا جميعاً ان نروّض انفسنا على الاصغاء للرّاي الاخر وإِن كان مراً او لا ينسجم مع ما نعتقد به.
٣/ ان نفعلَ المستحيل من اجل خلق الأجواء الآمنة للراي الاخر ليتجرأ الجميع على قول رايه متواصياً بِالْحَقِّ والصبر، فلا يُطردَ احدٌ بسبب رأيٍ او يُحاصر آخر بسبب سؤالٍ او يُقاطع ثالثٌ بسبب ملاحظة، او يُقطع راتب رابعٍ بسبب نقدٍ، فان اجواء الخوف والارهاب في وسط الجماعة تُساعدُ في نموّ حالات الانتهازيّة والوصوليّة وفي نفس الوقت تقلّل من فرص التواصي بكلّ اشكاله.
٤/ والمسؤول يتحمل الثقل الأكبر من المسؤولية من بين الاخرين، صحيح انّ التّواصي مسؤولية تشاركيّة وهي ممارسة متبادلة بين الأعضاء، الا انّ الرأس في الجماعة، الاب في الاسرة والمدير في المدرسة والوزير في الوزارة والزعيم في الكتلة البرلمانية او في الحزب والتيار، انّهُ يتحمّل القسط الأكبر من المسؤولية، وعليه ان يُعلّم الجميع قول الحق وعدم المجاملة فيه وهو المسؤول على خلق اجواء الحريّة والأمن للجماعة للتّواصي فيما بينهم.
٥/ كذلك، يلزمنا ان نتسلّح بثقافة الحب المسؤول وليس الحُبّ المنفلت او الحُبّ المصلحي، وانّ الفرق بينهما، هو انّ الاول يحثّك على النّقد والرّقابة والإسراع في تصحيح الخطأ لأنك تحبّ الجماعة، وحبّك لها حبٌّ مسؤول، تكره ان تراها تنزلق في مهاوي الخطأ، امّا الثاني فيدفعك للتستّر على الخطأ والسّكوت على الانحراف، مداراةً لمشاعر هذا او ذاك، انّه الحُبّ الذي يُفسد الجماعة، ويقودها للتّهلكة.
ولأنّك تُحب الجماعة، فيجب ان تتواصى بِالْحَقِّ والصّبر، لأنك تخشى عليها من الانحراف والانزلاق والفشل، اما الحب الذي يحثّك على السكوت عن الخطأ، فهو في الحقيقة ليس حباً وانّما هو بغضٌ في جوهره لانّ نتائجهُ عادةً ما تكون مدمّرة وكارثيّة.
ان ّمن يتصور في الجماعة انّ كلّ نقدٍ، مثلاً، او تنبيه، هو دليل عدم الحب فهو واهم، والعكس هو الصحيح، فاذا رايتَ احدٌ يسكت على خطأ وانت تعرف انّهُ خطأٌ، فتأكّد بانّهُ إِمّا وصولي او انتهازي او انّهُ متربصٌ بكَ الدوائر ينتظر ان تكرّر الخطأ المرّة تلو الاخرى لتسقط والى الأبد، وقديماً قيل (لا تمشي وراءَ الذي يُضحكُكَ، وانّما إمْشِي وراءَ الذي يُبكيك) وكذلك قيل (صديقُكَ مَنْ صَدَّقَكَ لا من صَدَقَكَ) فاذا رايتَ احدٌ يؤيّدك وانت تقول باطلاً فتأكّد بانّهُ ليسَ صديقٌ لكَ وانمّا هو عدوٌّ حتى اذا حلفَ لكَ بأغلظِ الأَيمان!.
اضف تعليق