"شهر رمضان ربيع القرآن"، هكذا قال الإمام الباقر، عليه السلام، وهو بذلك يعزز العلاقة المعنوية بين شهر الصيام وأجواء العبادة والتضرّع الى الله تعالى، وبين كتاب الله المجيد، حيث تتلاقى منطلقات الصيام والإمساك عن بعض الشهوات والغرائز، مع مبادئ هذا الكتاب العظيم، عندما يضئ للصائم، بل وللناس جميعاً، طريق التكامل الاخلاقي والانساني، وبالنتيجة؛ من يكون صائماً، يشعر أنه استفاد من صومه ومن عبادته.
إن العلاقة الجميلة التي جاءت في الحديث الشريف بين هذا الشهر الفضيل والقرآن الكريم، كناية عن الفرصة المحدودة للاستفادة ما أمكن من هذا التلاقي والتلاقح – إن صح التعبير- في واحة خضراء فسيحة يتنفس فيها الانسان عبق الحياة.
وعندما نجد الاعداد الغفيرة من الصائمين يشكلون حلقات كبيرة في محافل ضخمة لتلاوة القرآن الكريم، كما نجد الحرص من لدن شريحة واسعة بختم القرآن خلال أيام الشهر، واحياناً بذل مزيد من الجهد لختمه أكثر من مرة خلال الايام الثلاثين، وايضاً حمله على الرؤوس في ليالي القدر. كل ذلك وغيره، يدل على التسابق لاغتنام هذه الفرصة في ظل الاجواء الروحانية والعبادية.
حاجتنا المتزايدة والدائمة
الضغوط التي يواجهها كلّ واحد منّا في حياته، تدفعه او تحثّه للبحث عن مخرج وايجاد حل او اكثر لما يعيشه من تحديات في حياته اليومية، سواءً ما يخصّه كفرد، وما يتعلق بعلاقاته مع سائر افراد المجتمع. وهذا ما يدعونا الى التفكير لأن تمتد علاقتنا بالقرآن الكريم الى ما بعد شهر رمضان المبارك، فنحن نتذكر التكافل الاجتماعي، والتعاون على البرّ والتقوى، والتقوى والورع، وغيرها من الصفات الاخلاقية والسجايا الانسانية خلال تلاوتنا الكتاب في ليالي هذا الشهر. وبكلمة؛ فان النظام المتكامل للحياة الاجتماعية والاقتصادية يمكن ان نجده في خلال هذه الليالي، لاننا – ببساطة- نكون أقرب من أي شهر آخر الى كتاب الله المجيد.
والسؤال هنا؛ هل تنتهي مشاكلنا وهمومنا في هذا الشهر؟!
قطعاً انها مستمرة، بل وفي تزايد، مما يجعلنا في حاجة مستمرة ودائمة الى هذا المنبع الإلهي، ليكون خير شفاء لما في الصدور، وخير معين على مشاكلنا وأزماتنا اليومية، وهذا لن يتحقق إلا عندما نعرف أن مشوارنا مع القرآن الكريم خلال هذا الشهر الكريم – ونحن نقضي أيامه الاخيرة- كان قائماً على التفهّم و"التدبّر"، فعندما نفهم من الآيات الكريمة التي تتحدث عن المسؤولية إزاء المجموع، وليس الذات وحدها، تحت عناوين "الجهاد" و"التكافل الاجتماعي" و"الإصلاح الاجتماعي"، التي نقرأها بألفاظ "الامر بالمعروف والنهي عن المنكر"، و"الإحسان" و"العفو" وغيرها، فانها تفتح لنا آفاقاً واسعة لحلول مستقبلية ليس لما بعد شهر رمضان، إنما لسنين قادمة.
إن هنالك ظواهر سلبية عديدة نواجهها على صعيد الدولة، مثل الفساد الإداري والمالي في بعض البلاد، وعلى صعيد المجتمع؛ مثل حالة التمزق والتجاوز على حقوق الآخرين، وغير كثير من الظواهر، يعالجها القرآن الكريم برؤية حضارية بعيدة المدى، وهناك آيات عديدة تدعو بشكل مباشر وصريح للتآلف والتقارب والمودة، فالآية الكريمة: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، تهدف لحل المشكلة الكبرى المتعقلة بالأمة، بينما الآية الكريمة الاخرى: {ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه وليٌ حميم}، تهدف الى حل المشكلة الناشبة بين افراد المجتمع.
مراجعة سنوية
عندما نكون على وشك توديع شهر رمضان المبارك، فهذا يدعونا الى اجراء مراجعة شاملة لما اكتسبناه من الكتاب المجيد، وحجم هذه المكسب، ثم البحث في العقبات أمام الاستفادة الكاملة والحقيقية. فربما تكون هنالك اسباب تتعلق بذات الانسان، واخرى تتعلق بالظروف الخارجية وما تعيشه الامة والمجتمع. وبما أن القرآن الكريم هو – بالحقيقة- عبارة عن ينبوع لا نهاية له، وهو نور متجدد في الحياة على مر الاجيال، فان البحث في الطرق المثلى والسبل الاقرب والأصوب للاستفادة واستثمار هذا الينبوع العظيم، يمثل استحقاقاً أكيداً لنا، في وقت تحتوشنا المشاكل والازمات من كل حدب وصوب.
مثال ذلك؛ إجراء مطابقة بين ما نعتمده من افكار وسلوكيات وقوانين في شتى الميادين، وبين ما يبشّر به الكتاب المجيد من أنظمة وقوانين للانسان والحياة والكون، بما يجعل الجميع يعيشون بسلام وأمان وازدهار، ولا يحدث أي خلل كالذي نشهده فيما بيننا، نحن البشر، وفيما بيننا وبين الطبيعة، حتى نكاد نكون مهددين بكوارث بيئية بسبب ما يسمى بـ "الاحتباس الحراري"، وانتشار الأوبئة المعدية والغريبة التي ثبت علمياً أن نشأتها من سوء تصرف الانسان، سواء في سلوكه او مأكله او مشربه.
وما يدرينا؛ ربما في حالة المراجعة المستمرة كل عام، وإجراء ما يشبه الجرد السنوي لحجم استفادتنا من القرآن الكريم، نكون قد رفعنا منسوب معرفتنا وفهمنا واكتشافنا لعديد الحقائق الإلهية والانسانية المخبوءة في هذا الكتاب العظيم، وهو ما يسهل علينا مهمة ايجاد الحلول لمشاكلنا، والاهم من ذلك تلمّس طريق التقدم والنمو والتطور، وطيّ مرحلة التخلف والتبعية التي نعيشها.
اضف تعليق