{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ* إِنْ هَٰذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ}.
لماذا يرفض بعض الناس الاصغاء الى النصيحة والموعظة؟ لماذا يرفض ان يتعلّم او ان ينبّهه احدٌ الى خطئهِ مثلاً؟ لماذا لا يقبل ان يدلّه احد على الطريق الصحيح؟ او يشير عليه بفكرة او رأي؟.
لماذا يتعامل البعض حتى مع كلام الله تعالى بأسلوب الاستهزاء والسخرية فيقول مستهزءاً اذا سمع رسول الله (ص) يقرأ القران {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا}؟ او قوله {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا}؟.
وقبل كلّ ذلك، هل يمكن ان نتصور إنساناً لا يحتاج الى كلّ هذا؟!.
بالتاكيد لا، فكلّ انسانٍ، مهما بلغ من عقل وحكمة ورأي، ومهما كسبَ من عبقريّة في التخطيط والادارة، فهو يظل بحاجة الى من يرشدهُ ويدلّه ويعلّمه، لان الله تعالى لم يخلق الكمال في الانسان ابداً، ولذلك وردت الكثير من الآيات والروايات عن رسول الله (ص) وائمة اهل البيت عليهم السلام تتحدّث عن المشورة والموعظة والذكرى والتنبيه وما الى ذلك من المفاهيم التي يظلّ الانسان بحاجة اليها وهي ضالّته مهما زاد علمه وكبُر عقله وتقدّم في العمر.
والذين يرفضون التنبيه والتذكير، لواحد او اكثر من الأسباب التالية؛
فامّا انه يائس من التأثير والتغيير، كما حدّثنا عنه تعالى بقوله {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} ولسانُ حالهِ {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}.
او انّه رجعي لا يحبّ ان يتغير ابداً، ولذلك لا يُحب ان يصغي لموعظة او لذكرى خوفاً من تغيير الحال الذي تعوّد عليه والذي ورثه من ابائه وأجداده، او من القرون التي خلت، مثلما تحدثنا الكثير من القصص القرآنية عن نماذج من حال الامم السالفة، كما في قوله تعالى {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}.
او انّه مستفيد من الوضع القائم، ولذلك تراه يتصدّى لايّة محاولة تغيير، حتى اذا تطلّب الامر استخدام القوّة، وهؤلاء هم عادة بِطانة السلطان وحاشية الحاكم.
او انّهُ مُعتزٌ بنفسه حدّ الغرور، عندما يظنّ انه وصل الى حدّ الكمال فماذا تعني النّصيحة بالنسبة له؟ وماذا عساها ان تضيف له؟ هل هو لا يفهم ليحتاج الى التعليم؟ ام انّه غافلٌ فيحتاج الى من ينبّهه؟ ام ماذا؟.
او ان يكونَ ممّن يخجل ان يتعلّم، معتبراً التذكير والتنبيه منقصة لا ينبغي لمثله ان يسمعها ابداً، او يسمح لاحدٍ بها، لانّ ذلك يُقلّل من شأنه في اعين الناس!.
وتزداد نسبة كل هذه الأسباب وتتراكم عندما يكون هذا الانسان مسؤولاً في الدّولة، وتزداد اكثر عندما يحوم حوله ويتّخذ له بطانةً فاسدةً تهوّل رايه وتضخّم انجازه وتنفخ فيه حتى يركب السحاب، مصدّقاً انّه وصل الى حدٍّ لا يحقُّ لاحدٍ ان ينبهه الى امرٍ او يذكّره بشيء!.
ان احد اسوأ الأدوار لبطانة السّوء من المصلحيّين والوصوليّين والأبواق التي تعتاش عادةً على تضخّم شخصيّة القائد الضرورة والزعيم الأوحد، هو فصله عن الناس من خلال صناعة سياج حديدي يحول دون اتّصال الناس به او تواصله معهم، وبذلك فسيخسر الرّأي والمشورة واتجاهات الراي العام التي لا يسمعها، عادة، من بطانة السوء وانما من الشارع حصراً، ولذلك حذّر امير المؤمنين عليه السلام مالك الأشتر عندما ولّاه مصر من مغبة الانقطاع عن الناس وإطالة مدة الغياب عن المجتمع، قائلا له في عهده اليه؛
{فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْم بِالاُْمُورِ، وَالاِْحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دوُنَهُ فَيَصْغُرُ عِندَهُمْ الْكَبِيرُ، وَيَعْظَمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ، وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ}.
ان ذلك احد اخطر الأمراض التي اصابت المسؤول عندنا في العراق، والذي انقطعَ عن الشارع فابتعدَ عن هموم الناس وآلامها وآمالها، تارة بسبب الأسيجة الحديديّة التي صنعها لنفسه بالحمايات المسلّحة وما أشبه، وتارة بإقامته في المنطقة الخضراء المحاطة من كلّ جانبٍ فلا يصلها المواطن العادي، فكيف سيصل الى المسؤول؟!.
ان الكثير من المسؤولين اليوم تخيّلوا انّهم يعرفون كلّ شيء ولذلك فهم ليسوا بحاجة الى مَن يعلّمهم اكثر من هذا، فيرفضون المشورة ولا يقبلون نصيحةً من أحدٍ، يزيّن لهم ذلك جوقة الطّبّالين والمزمّرين الذين شغلهم الشاغل ارضاء المسؤول بالكلام المعسول الذي يحبّه وتطرب أذنيه عليه، فهم لا يُسمعونهُ الكلام الذي يجب ان يسمعهُ ابداً وانّما الكلام الذي يُحبّ ان يسمعهُ حتى اذا كان باطلاً وخطأ ولا أساس له من الصحة بتاتاً!.
انصح كلّ مسؤول ان يجتمع، بين الفينة والأخرى، بأصحاب الرأي والاختصاص وبأصحاب اهل الحل والعقد، يسمع منهم ويناقشهم ويتبادل معهم الآراء والأفكار والرؤى، في جو من الاخوة والصداقة والصراحة والشفّافية، بعيداً عن عيون الحرّاس وبنادق الحرس وعدسات الكاميرات، ليسمع منهم افضل الآراء ويقولون له افضل ما عندهم.
يصنع لهم جوّاً آمناً ليقولوا له ما يعتقدون بصحّته.
ليس كلّ اصحاب الراي والخبرة والتجربة ينافسون المسؤول على الموقع! وليس كلّهم يطمعون بالمال والمنصب! ولذلك فلا ينبغي على المسؤول ان يخاف منهم كما يوحي بطانته اليه بذلك، فأغلبهم يحرص على الصالح العام ويهمّه حاضر البلاد ومستقبلها، فلا داعي للخوف من الاصغاء اليهم ابداً، فعندهم الكثير من الآراء والأفكار والنظريّات والرؤى الراقية التي يمكن ان تساهم في انتشال البلد من ورطته، كلٌّ حسب اختصاصه وخبرته وتجربته، وفيهم كنوز عظيمة أضاعها البلد لحدّ الان، وللأسف الشديد، بسبب الرّوح الحزبيّة الضيّقة التي تخيّم على الجوّ العام في العراق، وبسبب الجهل المركّب الذي يعيشه الكثير من المسؤولين والذي اخذ بتلابيبهم، فلا هم قادرون على انتاج الرّؤية المطلوبة للحل، ولا هم يمتلكون الشجاعة التي تمكّنهم من الاصغاء الى الاخرين ذوي الاختصاص خوف الفضيحة! فليس كلّ الناس يمتلكون مثل هذه الشجاعة المطلوبة ليبادروا بالجلوس الى ذوي الاختصاص والتعلّم منهم!.
ان المسؤول في العراق بحاجةٍ الى مثل هذه الشجاعة لينظّم مثل هذه الاجتماعات الحقيقيّة وليست الاستعراضية التي نظّمها البعض منهم فيما سبق للتسويق الدعائي والاعلامي لتوظيفها في اقرب انتخابات نيابية!.
اضف تعليق