{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}.
وفي آيةٍ أُخرى يقول تعالى {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
الناس، اذن، على نوعين، الاول؛ هو الذي يخلط الأشياء، والثاني؛ هو الذي يخلط الاعمال، بما فيها النوايا والدوافع والأفكار، وكلاهما يهدف الى خلط الامور، او ما يسمى بخلط الاوراق، ليضلّل الناس ويتصيّد بالماء العكر، وبالتالي يضيّع الحقائق للحيلولة دون فرز الامور.
والخلطُ هنا، هو بغيٌ وعدوان، اوّلُهُ وآخرُهُ ووسطُهُ.
ومن أسلحة هذا النوع من الناس التّعميم والتهرّب من الحوار من خلال ادخال عنوانٍ بآخر، بالإضافة الى سلاح الغشّ الذي يلجأ اليه كلّما وجد نَفْسَهُ في زاويةٍ حرجةٍ لا يتمكّن من الهرب منها.
والخُلطاء، تارةً يخلطون حقاً وباطلاً لتضييع الأمر على الناس، وتارةً يخلطون حقاً وشبهةً، لتبرير أفعالهم المنحرفة وأعمالهم الخطأ، كما كان يفعل معاوية مع اهل الشّام، على حدّ وصف امير المؤمنين (ع)
{أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وَعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ} اي ابهمهُ عليهم وجعلهُ مظلماً، وثالثة يخلطون الرؤية ليشوّشون على الحقائق، ورابعة يخلطون الحدث او الواقع والخبر بالتفسير والتحليل لتضليل الراي العام كذلك، وخامسةً يخلُطون ليجاملون، وهؤلاء من اخطر الخُلطاء في رايي.
النوع الثاني من الخلط يتجلى كثيراً عند المسؤول، فتراه يلجأ الى آيةٍ متشابهة او رواية حمّالة اوجه لتبرير افعاله الشنيعة، خاصة ما يخصّ حقوق الناس والمال العام، فيخلط مثلاً ببن مفاهيم الهديّة والرشوة لشرعنة سرقة المال العام والتعدّي على حقوق الناس، وهي الطريقة القديمة الجديدة التي ظلّ يستخدمها المسؤول خاصة اذا كان (متديّناً) او متلفّعاً بالدين او يحكم باسم الله وعناوين السماء! فتراهُ يعمد الى خلط الحق بالباطل، والحق بالشُّبهة موظِّفاً الآيات والروايات والتاريخ ليشرعن دَجَلَهُ ولصوصيّتهُ وتجاوزه على المال العام.
ولقد تصدّى أمير المؤمنين (ع) لهذه الظاهرة الخطيرة بعد ان استفحلت وتوطّنت في المجتمع في عهد الخليفة الثالث على وجه التحديد، والتي تجلّت في ظاهرة الفساد المالي والاداري، فقال عليه السلام يصفها بقوله:
{وَأَعْجَبُ مِنْ ذلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفَوفَة فِي وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَة شَنِئْتُهَا، كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِريقِ حَيَّة أَوْ قَيْئِهَا، فَقُلْتُ: أَصِلَةٌ، أَمْ زَكَاةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَذلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ! فَقَالَ: لاَ ذَا وَلاَ ذَاكَ، وَلكِنَّهَا هَدِيَّةٌ، فَقُلْتُ: هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ! أَعَنْ دِينِ اللهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي؟ أَمُخْتَبِطٌ أَنْتَ أَمْ ذُو جِنَّة، أَمْ تَهْجُرُ؟}.
اما النّوع الاول فيلجأ اليه الخُلطاء لتضييع الحق والتهرّب من الاستحقاقات، فتراهم يبالغون في المجاملات على حساب ايّ شيء، في مسعى منهم لحماية مصالحهم، حتى اذا كانت المجاملة على حساب الدّم والنّفس والرّوح، كما يجري اليوم في بلادنا، وخاصة في العراق، الذي ابتُلي بالارهاب بشكلٍ فظيع.
فعلى الرغم من وضوح الدّوافع الطائفيّة لهذا الارهاب ومن يقف خلفهُ من فكرٍ وفتوى واعلام ومال، وعلى الرغم من اعتراف حتى الارهابيّين بدوافعهم الطائفية، وعلى الرغم من إعلانهم عن المتبنّيات الفكريّة التي يستندون عليها لشرعنة جرائمهم، والتي تنتمي كلّها، بلا استثناء، الى مدرسة الخلفاء! على الرغم من كلّ ذلك، لازال هناك البعض الذي يُجامل ويخلط الاوراق لدفع الحقيقة عن الواقع وتضليل الراي العام!.
انا لا أنكر ضرورة المجاملات أحياناً اذا كانت تدفع ضرراً او تحمي عِرضاً، امّا اذا كانت سبباً لإزهاق الأرواح وإراقة الدماء، فهي جريمة لا ينبغي ارتكابها ابداً، خاصّة في مثل هذه الظروف التي تمرّ بها المنطقة والعراق تحديداً، فلقد ثبت للجميع وبالتجربة المرّة ان خلط الاوراق والتعميم والمجاملات الفارغة ظلّت سبباً للمزيد من اراقة الدماء وانتهاك الأعراض وازهاق الأرواح البريئة.
تخيّل! ان مجاملاتهم تجاوزت المألوف لتدخل في دائرة الهذيان، فماذا يمكنك قوله لمن يجامل الباطل على حساب الحق، فيصرخ بالقول ان (دولة موزة) العظمى ضحيّة الارهاب؟!.
لقد ذكّرتني مجاملته هذه بالّذي اراد ان يجامل صديقه، فسأله عن حال والده! في الاثناء تذكّر انّه متوفّى منذ زمن بعيد، فغيّر السؤال على الفور قائلاً له؛ اقصد؛ هل انّه لازال في نفس القبر؟!.
لقد قيل قديما ان (الزّائد كالناقص) و (كلّ شيء يزيد عن حدّه ينقلب ضدّه) فاذا كانت المجاملة مقبولة في ظرفٍ خاص لهدفٍ محدّد، الا انها لا ينبغي ان تأخذ أوسع من مدياتها المعقولة وفي كل الظروف والأوقات، خاصة عندما تكون الامور واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فعندها ستُسمّى المجاملة نفاقاً او ازدواجية أعاذنا الله تعالى منها ونحن في شهره الفضيل، رمضان المبارك.
كذلك؛ تخيّل مثلاً، ان البعض بذل كلّ جهده المعرفي ودبلوماسيّته وعبقريّته لإقناعنا بان العمل الارهابي الذي شهدته دولة الكويت قبل يومين لم يكن بدافع طائفي! ولتسهيل مهمّته في عملية الاقناع هذه حاول ان يربط بين هذا العمل الارهابي وبين العمل الارهابي الاخر الذي شهدته تونس في نفس اليوم!.
هذا هو الخلطُ بعينه، فما دخل هذه الجريمة بتلك؟.
صحيح انّ الفاعلَ واحدٌ والمسمّيات واحدة والهويّة واحدة والنّتيجة واحدة، الا ان الدوافع تختلف اختلافاً جذرياً، فهي ليست واحدة بتاتاً، فليست كلّ الجرائم التي يرتكبها مجرم لها نفس الدوافع ابداً، ولذلك قيل في القضاء انّ واجب القاضي الاول هو معرفة الدوافع، ليعرف كيف يسمّي الجريمة، فيحدّد طريقة التعامل معها، فهنا في الولايات المتحدة مثلاً، فانّ القضاء يبذل جهداً مضاعفاً للتعرّف على دافع جريمة القتل ابتداءاً، أهي جريمة كراهية ام اقتصادية ام عنصرية ام ماذا؟ فلماذا يُراد للجرائم الإرهابية التي تُرتكب في العراق ودول الخليج، تحديداً، التعتيم عليها وتضييع الدوافع وإضاعة الهويّة وعدم البحث فيها؟ لمصلحة مَنْ يسعى البعض الى إبعاد الدوافع الطائفية عن هذه الجرائم الإرهابية البشعة التي تزهقُ ارواح الصائمين في يوم الجمعة المباركة؟!.
الا يكفي الضحايا ظلماً بالقتل والذبح، لنظلمهم بإخفاء الهوية بالخلط؟!.
واقول بصراحة، فانّ كل من يسعى للتعميم والخلط للحيلولة دون تشخيص الدافع الطائفي لهذه الجرائم فهو يساهم في عملية التّضليل التي يقودها نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربية، بصفته الحاضنة والرّاعي والداعم للارهاب في المنطقة والعالم!.
اضف تعليق