ما أروع المنزلة التي يعطيها إمامنا، علي بن ابي طالب، عليه السلام، للعلم ونشره...! فهو يقرن العلم بإنفاقه ونشره وايضاً العمل به، كما ينفق المرء ماله في أمور البر والإحسان. ففي الحديث المروي عن وصفه العلم مقابل المال يقول: "...واعلموا أن كثرة المال مفسدة للدين مقساة للقلوب، وأن كثرة العلم والعمل به مصلحة للدين وسبب الى الجنة. والنفقات تنقص المال، والعلم يزكو على إنفاقه، فإنفاقه بثه الى حفظته ورواته".
إنفاق العلم هل يكون "وظيفة رسمية"؟!
كثيرة هي الاحاديث الشريفة التي تدعو الى نشر العلم، منها حديث رسول الله، صلى الله عليه وآله: "زكاة العلم نشره"، وأن لا يكون حكراً على فئة معينة، ويدور في أدمغة أناس معدودين في المجتمع، وللعلم؛ فان هذه الحالة كانت سائدة في اليونان القديمة، التي تباهي العالم بأنها ملهمة الفكر والعلم منذ آلاف السنين، بيد أن هذه العلم كان يُعطى للنبلاء وابناء الطبقة الراقية في المجتمع، كما أن المرأة كانت محرومة من هذا العلم. بينما الاسلام جاء وأتاح فرصة التعلّم والحصول على مختلف العلوم، لجميع المسلمين، بل جعلها النبي الأكرم، "فريضة على كل مسلم ومسلمة".
واذا اردنا ايجاد تطبيقات عملية على مفهوم "نشر العلم" يمكن ان نجده في المدارس والجامعات، فالمدرس والاستاذ الجامعي بامكانه ان يكون تجلّياً لهذا المفهوم الحضاري، عندما يقدم المادة الدراسية للطالب بما يفتح أمامه آفاق بعيدة ويحثّه على اكتشاف المزيد من الحقائق العلمية، سواءً في مادة الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء، وحتى مادة اللغة العربية والتاريخ، فهي كلها تُعد علوم بشقيها الطبيعي والانساني، يحتاجها الطالب لتعينه على تحديد الاختصاص في المستقبل، وتساعده على اكتشاف مواهبه وقدراته في واحدة من هذه المواد العلمية او ربما اكثر. وهذا يحصل ويتحقق متى ما خرج المدرس والاستاذ الجامعي من الإطار الوظيفي كونه يؤدي عملاً وظيفياً يتقاضى مقابله أجراً محدداً من الدولة.
البعض من الكادر التدريسي يشعر أنه أدى مهمته في التعليم بتقديم مستوى معين من الشرح والتوضيح للمادة، وفي حال اضافة شروح أخرى، فانه يكلفه جهداً عضلياً وذهنياً، ويتعلل البعض في تحاشي هذا الخيار، بأن على الطالب الاعتماد على نفسه او على أبويه أو الى المطالعة الخارجية او مصادر اخرى، بهدف إبعاده عن المدرسة والمدرس، بينما نلاحظ أن هذا المدرس بإمكانه تقديم الأكثر والأحسن جودة في شرح المادة الدراسية إن اراد ذلك اذا تحققت له بضع المكاسب المالية...
هذا بالحقيقة يمثل خطراً، ربما غير مرأي وغير منظور على مستوى التدريس والتعليم، لأن الكادر التدريسي الذي ينحصر همّه في الجانب المادي، فانه ليس فقط ينعكس سلباً على مستوى تعليم الطلاب، وإنما على مستواه العلمي هو نفسه، فهو بإمكانه ان يتطور ويتوسع في العلوم التي يدرّسها من خلال مطالعاته وبحوثه، لاسيما ما يتعلق بالعلوم الطبيعية، وعندما ينخرط في مسار العطاء العلمي والجدّ في تقديم المادة العلمية بشكل أكثر ثراءً وحيوية، فانه سيجد المزيد من الآفاق العلمية تفتح أمامه.
طبعاً؛ هذا الجهد يكتمل وينجح مع تظافر جهود المدرسة والجامعة، اضافة الى جهود ودعم المسؤولين المعنيين في الدولة، وحينها نكون قد مهدنا الطريق للمضي في مرقاة التقدم والتطور في جميع مجالات الحياة.
من هم "حفظة العلم"؟
في خطوة ثانية ومكملة لنشر العلم وتفعيله في الواقع العملي، لابد من وجود الارضية الخصبة التي تتلقى عوامل النمو وتنجح فيها الجهود المبذولة، وهذا يتطلب مواصفات خاصة لطالب العلم تمكنه من الاستفادة الصحيحة من العلوم المبذولة، بمعنى أن ثمرة العطاء المادي منه والمعنوي، يكون في وصوله في مكانه الصحيح وفي محله، وهذا ما تدعو اليه السيرة المطهرة حتى لاتتبدد الجهود والامكانات وتتم الاستفادة منها بأفضل ما يكون.
وفي مقدمة المواصفات في طالب العلم التحلّي بالآداب الرفيعة والاخلاق الحسنة، فهي التي تميزه عمن يطلب العلم للجاه والثروة وحب الأنا وتحقيق المكاسب المادية، بل وتبعده عن المهاوي والمآلات الخطيرة التي سقط فيها طلاب هذا النوع من العلم. يكفي أن نقارن بين الشخصية العلمية لأسماء لامعة في تاريخ العلم، من أمثال جابر ابن حيان والشيخ نصير الدين الطوسي والشيخ البهائي والعلامة الحلّي وغيرهم كثير، وبين الشخصيات العلمية لعديد العلماء الموجودين في بلادنا الاسلامية ممن يحملون الشهادات الاكاديمية العليا، فأولئك إنما طلبوا العلم لأهداف سامية أولها طلب مرضاة الله تطبيقاً للحديث الشريف الذي يعد العلم نوعاً من انواع العبادة، ثم نشر القيم والمفاهيم الانسانية والاخلاقية في المجتمع. وهنالك العديد من القصص لعلماء دين كبار قضوا الليالي الطوال في المذاكرة والمدارسة تحت ضوء مصباح بعيد في وقت كانت المصابيح نادرة وقليلة، وآخرون كانوا يكتفون من طعامهم بقطعة من الخبز حتى لا ينفقوا ما عندهم على غير الكتب والمصادر العلمية. فكان كل شيء عندهم يهون، سوى طلب العلم والارتقاء في مدراجه وكمالاته، وهذا ما نلاحظه في حوزاتنا العلمية طيلة قرون متطاولة. هذه الحوزات وفي تلك الظروف الصعبة التي لم يكن فيها أثر للأطعمة اللذيذة في الصالات الخاصة او المنام الوثير في الاقسام الداخلية وسائر الامكانات المادية، هي التي خرجت أبطالاً غيروا مجرى التاريخ وصنعوا مجدّاً لشعوب بكاملها.
اضف تعليق