كما يحرص الواحد منّا على استثمار أيام وليالي وساعات شهر رمضان المبارك في عملية تجديد لطريقة تعاملنا مع الله –تعالى- ومع محيطنا الاجتماعي، فان اطفالنا لهم الحق ايضاً في الاستفادة من هذه التجديد فيما يتلقوه من أنماط التعامل معهم؛ فعندما يؤثر الصيام على سلوك وتفكير الأب والأم وافراد الأسرة...
"وقّروا كِبارَكُم وارحموا صِغارَكم". (رسول الله، صلى الله عليه وآله، في خطبة استقبال شهر رمضان المبارك).
كما يحرص الواحد منّا على استثمار أيام وليالي وساعات شهر رمضان المبارك في عملية تجديد لطريقة تعاملنا مع الله –تعالى- ومع محيطنا الاجتماعي، فان اطفالنا لهم الحق ايضاً في الاستفادة من هذه التجديد فيما يتلقوه من أنماط التعامل معهم؛ فعندما يؤثر الصيام على سلوك وتفكير الأب والأم وافراد الأسرة –الكبار في السن- وسائر افراد المجتمع، فيما يتعلق بعلاقتهم بالله –تعالى- من خلال الارتباط روحياً، وايضاً؛ فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية من خلال بعث روح جديدة في المفاهيم الاخلاقية والانسانية، فلابد ان يكون لهذا التأثير حصة في تعامل الكبار مع الصغار من خلال تجديد نمط التعامل، وتنشيط الجانب العاطفي على اساس من القيم والآداب تعمق مشاعر الحب والودّ في ظل هذا الشهر الفضيل.
وما يعجل الطلب في بلورة صورة متجددة لهذا التعامل، ما نعيشه من تحديات مختلفة منها؛ الثقافية، ومنها المعيشية والاقتصادية، الى جانب التحديات السياسية ومسائل الإدارة والحكم التي لا تبرح تلقي بظلالها الكثيفة على حاضر ومستقبل الطفل، ليس أقلها التعليم. فقد تقل ساعات التقاء الكبار بالصغار في شهر رمضان لاسباب واضحة، فالاب وقته موزع بين الالتزام بالدوام الرسمي، او الحضور في مكان عمله، وبين الركون الى الراحة والنوم في ساعات مختلفة تخفيفاً من أثار الصوم، وإن كانت ثمة فسحة من الوقت، فان الكثير يفضلون الخروج من البيت لقضاء جلسات سمر مع الاصدقاء، او التنقل بين المجالس الرمضانية –في أحسن الافتراضات-، أما الأم فهي الاخرى يتراجع أوقات اتصالها بالطفل عندما تجد نفسها حبيسة المطبخ نهاراً لاعداد وجبة الإفطار، ومساءً لإعداد وجبة الأسحار، وبين هذا وذاك، فهي تحتاج ايضاً لقسط من الراحة والنوم، الى جانب القيام بالتسوّق احياناً لتوفير ما يلزم من المواد الغذائية والاساسية للبيت.
يبقى الصديق الوحيد للطفل –كما يعده هو- هو التلفاز ثم الالعاب الالكترونية، وهو ما يجده متوفراً طوال ساعات اليوم يملأ فيها فراغ الأبوين، والأخوة والأخوات، وقد كتب الخبراء والعلماء كثيراً في مخاطر سقوط الطفل في براثن هاتين الشاشتين، وما له من آثار سلبية على سلوكه وطريقة تفكيره وتعامله مع محيطه الاجتماعي، إنما المهم بلورة رؤية ايجابية إزاء توجه الطفل لقضاء وقته بشكل بريء وغير مقصود في غياب الخيارات الاخرى.
جرعة وعي
من الواضح أن لا القنوات الفضائية، ولا الموبايل والاجهزة اللوحية وما فيها من مثيرات، مسؤولة عن تعليم الاطفال توقير الكبير، او التكلّم بصوت منخفض، او احترام المحيطين بهم، بينما تطالب الأسرة بكل هذه الآداب والاخلاق والسلوك الحسن من اطفالهم، لاسيما في مجتمعاتنا المحافظة، وتحديداً في العراق، حيث ينشأ الطفل في محيط اجتماعي متديّن بنسبة كبيرة، واذا ما بدر تصرف او سلوك شائن وعمل غير مقبول، فان رد الفعل سيكون عنيفاً وسريعاً، وهو ما ينعكس سلباً على نفسية الطفل، وتولد لديه مشاعر غير طيبة إزاء الكِبار، حتى مع قبح وسوء ما فعله، ثم نشوء جدار عدم الثقة والاحترام والاعتماد على الكِبار، فضلاً عما نطمح اليه من بث نسمات الرحمة والشفقة على قلب الصغير في الأسرة كما أوصانا نبي الرحمة، "ارحموا صغاركم"، فربما تكون هذه من المنسيات.
وقبل أن نعرف كيف نزرع هذه الرحمة في نفوس البراعم وسط كل هذه المؤثرات الخارجية ، يجدر بنا الالتفات الى مسألة منهجية، فنحن نطالب الصغار بالتوقير والطاعة الاحترام قبل كل شيء، ودائماً تحدث المشاحنات والنزاعات حول هذه القضية تحديداً، فيصرّ الكبار على مطلبهم، فيما يبدي الصغار عجزهم، ولسان حالهم: "فاقد الشيء لا يعطيه"، لذا ينبغي على الكبار العطاء والضخ والبناء قبل التفكير بالأخذ، ولعل اقتران التوقير بالرحمة في وصية البني الأكرم، تؤكد هذه الحقيقة، فالتوقير لا يتحقق للكبير اذا لم تتحقق الخطوة الثانية؛ الرحمة بالصغير، وجاء في حديث له، صلى الله عليه وآله: "لئن يؤدب أحدكم ولداً خيرٌ له من أن يتصدق بنصف صاع كل يوم".
و يؤكد الخبراء حاجة الطفل "الى الوعي والمراقبة والتدخل في الوقت المناسب"، (الأمن التربوي للطفل- فاطمة الخاقاني)، حيث يكون حينها مدركاً لحسن وقبح الافعال والاشياء امامه فينتهي عنها طواعية، او بتذكير بسيط من الكبار، وهذا يحتاج منهم لأمرين:
الامر الأول: التطبيق من الكبار أولاً
بأن يبدأوا هم بتطبيقات عملية امام الطفل لما يعدونه من حسن السلوك والاخلاق والفضيلة، "فتعليم الطفل في المرحلة الاولى من عمره آداب السلوك لا يأتي عن طريق القاء المحاضرات عليه وإسماعه بجملة من النصائح بقدر ما يأتي عن طريق التزام الوالدين بالسلوك الحسن".
إن معادلة تطابق القول مع العمل، او النظرية مع التطبيق سبق اليها الاسلام وبينها في القرآن الكريم لأول مرة منذ اربعة عشر قرناً لتكون أحد أسس التربية الناجحة، فعندما ينهى الأبوان عن مشاهدة المسلسلات والافلام والمثيرات، عليهما الالتزام بهذا النهي قبل توجيهه الى الابناء، واذا كانا يوصيان بقراءة القرآن، والصلاة في أوقاتها، وتجنب الكذب والغش، عليهما أن يكونا مثالاً في الاسرة لكل هذه الفضائل، وإلا فان النتيجة عكسية قطعاً.
الامر الثاني: تجنب خطاب العنف والغضب
يتصور البعض أن لغة القسوة والغلظة ضرورية لتعليم الاطفال ما يجب، وأن لا فائدة من اللين والكلام الرقيق، وهو ظن نابع من تجارب فاشلة ومشاعر مكنونة في نفوس الكبار عندما كانوا صغاراً، فهم يحاولون تطبيق تجربتهم الماضية منذ سنوات على حياة ابنائهم، بيد أن المعروف أن الانسان يولد وهو غير قادر على التكلّم، ولا يعرف شيئاً من قوانين الحياة، ولكنه قادر على التعلّم، "أما الحيوان فيعجز عن النطق تماماً حتى مع التدريب والتعليم، ولو تركنا صغير الانسان مع صغير الحيوان في غرفة واحدة ووضعنا بجانبهما ناراً تشتعل، نلحظ أن صغير الانسان يتوجه اليها متصوراً أنها لعبة جميلة، بينما يحذرها صغير الحيوان لإدراكه بالفطرة، أما الانسان فيدركها بالتعلم والتجربة، لذا كانت مسؤولية الآباء تعليم ابنائهم شريطة أن يكون بدون غضب وتوتر".
ومن جميل خلق وتكوين الانسان، أن الطفل لن يقبل مطلقاً اسلوب العنف والقوة لتعلم أي شيء، فهو يبدي رفضه على شكل بكاء في السنين الاولى، ثم تتطور الحالة الى التمرد والمعارضة في السبع الثانية من العمر، مما يعني أن دعوة النبي الأكرم بأن "ارحموا صغاركم" تبدو انها تذكيرية بما فطر الله الانسان عليه، فالرحمة بالصغار تتجسد في لغة اللين والود والحب لتعليم الطفل مكامن الخطر، وما يجب فعله، وما لا يجب.
معظم حالات العنف التي يتعرض لها الاطفال في كل مكان منشأها الأوامر التعسفية بلغة عنيفة، حتى وإن كانت الاوامر باتجاه الحق والفضيلة، كالاجبار على لبس الحجاب، او إطفاء جهاز التلفاز او إخفاء الاجهزة اللوحية بدعوى الحدّ من التأثر بالالعاب والبرامج السيئة، بيد أن النتائج جميعاً تأتي سيئة وغير مرضية.
العقوبة والنتيجة العكسية
من أكثر ما نحتاجه لتجديد النظر في ملف التربية الأسرية خلال شهر رمضان المبارك؛ عملية العقوبة التي يلجأ اليها معظم الآباء والأمهات ظناً منهم أنها الوسيلة الاكثر ردعاً لأخطاء ابنائهم، حتى تحول الأمر الى ثقافة عامة في معظم بلادنا الاسلامية، لاسيما العراق، مما يكشف عن عجز واضح في البديل الافضل، وفشل أوضح في رسم الطريق الصحيح الذي يبعد الابناء عن ارتكاب الخطأ والمعصية، علماً أن الامام الصادق رسم لنا خارطة طريق رائعة ومتدرجة للتعامل بشكل علمي مع الابناء: "دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدب سبعاً، وألزمه نفنسك سبع سنين".
و أكثر حالات العقوبة يقع ضحيتها اصحاب المرحلة الاولى لكثرة ارتكابهم الخطأ غير المقصود، كأن يكون ابن السنتين او الثلاث، وهو يعبر عن مشاعره الغريزية في الفضول والحركة وتفحص الاشياء مما يثير غضب وتوتر الكبار، لاسيما اذا لامس الصغير أشياء ثمينة في البيت، او تسبب في كسرها او تلفها، لذا نجد علماء التربية يعدون العقوبة تحميل مسؤولية كبيرة لطفل صغير، بينما يفترض بهم "توضيح الخطأ للطفل، وبعض الآباء يعاقبون ابنائهم دون أن يعرفوا ما الذي ارتكبوه او أن الأم تنظر الى طفلها فلا تمنعه من عمل خاطئ يمارسه، وفي وقت آخر يتعرض للعقوبة بسبب الفعل نفسه، وهذا ما يسبب للطفل حالة تشوش ذهني فلا يميز بين الخطأ والصواب". (الأمن التربوي للطفل في الاسلام).
واذا راجعنا العلاقات المختلّة والمعقدة بين الابوين والابناء نجد معظم جذورها في اعتماد العقوبة وسيلة للتنبيه والردع على الخطأ، سواءً تكون العقوبة جسدية عنيفة، او تكون نفسية لفظية بتوجيه كلمات الشتم والتحقير مما يحطم شخصية الطفل من الداخل بشكل يجعله ينمو ويطوي مراحل عمره وهو يحمل شخصية مهشّمة ومشوهة مليئة بالعقد والنتوءات يعبر عنها في مرحلة الشباب والرجولة بشكل مريع وبشع، لاسيما عندما يتحول هو الى أب بعد الزواج، أو تتحول الفتاة الى أم، او يندمج في المجتمع فتحصل الكوارث والويلات كما هو الحال اليوم، بمعنى؛ اذا لم يجد الابناء الفرصة للرد على عقوبة الابوين، فانهم سيجدون هذه الفرصة، بل يبحثون عنها في علاقاتهم الاجتماعية في محيط الدراسة والعمل.
كل ما مرّ يكشف لنا مدى أهمية التعامل الرحماني للأبوين إزاء ابنائهم، بل يمكننا توسيع هذه الدائرة الى خارج الأسرة، فالجميع معنيون بهذا التعامل الانساني الرفيع إزاء أي طفل في الحي السكني او في الطريق، او في الاسواق، واذا كانت هذه الحالة اكثر تجلياً في شهر رمضان، فان مشاعر الفخر والاعتزاز ستغمر الطفل في أي مكان بأنه عضوٌ محترم من قبل الكبار في المجتمع، كما يدرك قيمة هذا الشهر و دوره الحضاري في صيانة شخصيته وكرامته.
اضف تعليق