كيف نعرف، أو نطمئن على سلامة عبادتنا، وأنها مقبولة من قبل الله تعالى أم لا؟ انه سؤال صعب، كونه يرتبط بالغيب الإلهي، فهو –تعالى- يعطي ويثيب برحمته الواسعة، وهو الذي يعطي \"من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة\"، كما جاء في أدعية شهر رجب الأصبّ...
وقوف الانسان المسلم للصلاة تعبيرٌ صادق من صميم الفطرة بإيمانه بالضعف والحاجة أمام قوة قاهرة كبرى، لذا فهو يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، مكرراً إياها في كل صلاة فريضة، بل وفي كل صلاة مستحبّة ومسنونة.
والعبادة هي الصلة الحقيقية بيننا وبين الله –تعالى-، وهي العلّة الغائية للخلق؛ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، فمن خلال منظومة عبادية متكاملة بينها القرآن الكريم، وأهل بيت رسول الله، صلوات الله عليهم، يتقرّب الانسان الى معرفة ربه، بعد أن يعرف نفسه وحقيقة وجوده في الحياة والى أين يسير، ومن هذه المنظومة؛ صيام شهر رمضان، علماً أن الصيام والإمساك عن الطعام والشراب والملذات سنّه النبي الأكرم لأيام أخرى في السنة من أجل التقرّب الى الله أكثر، على أن يكون العمل والعناء تطوعي وليس فرضاً.
إنما السؤال امامنا: كيف نعرف، أو نطمئن على سلامة عبادتنا، وأنها مقبولة من قبل الله –تعالى- أم لا؟
انه سؤال صعب، كونه يرتبط بالغيب الإلهي، فهو –تعالى- يعطي ويثيب برحمته الواسعة، وهو الذي يعطي "من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة"، كما جاء في أدعية شهر رجب الأصبّ، بيد أن قربنا من الاجابة يقربنا ايضاً من حسن الأعمال ودقة اتقانها في ايام وليالي هذا الشهر الفضيل.
التوبة أو الحنين الى المعصية
جاء في الحديث الشريف عن كيفية معرفة قبول التوبة من الله –تعالى- فقال، عليه السلام: "عندما لا تفكر بالمعصية ثانية" –مضمون الحديث-، فاذا نلقي نظرة خاطفة على الاذكار والأدعية الواردة عن المعصومين، عليهم السلام، في شهر رمضان المبارك، نراها تشبه سائر الأدعية في سائر الشهور، وحتى الصلوات المندوبة التي أوصى بها المعصومون، وتحديداً رسول الله، صلى الله عليه وآله، إنما التميّز في هذا الشهر أنها متزامنة مع فريضة الصيام، وهي تتميز –بدورها- عن سائر الفرائض بانها تبدو "عبادة سرية"، فلا يمكن تمييز الانسان الممسك عن المفطر بشيء اذا كان الاثنان في الشارع، وهو ليس كذلك في سائر الفرائض مثل؛ الصلاة والحج.
هذه الفريضة، بهذه السمة الخاصة تتيح للانسان فرصة مراجعة تصرفاته وأعماله، بقولٍ، أو نظر، او سمع، او حتى الخواطر وما يكنّه الفؤاد من مشاعر وأحاسيس إزاء الآخرين، وهي من أرقى المراتب الايمانية، بأن يصل الانسان الى درجة أن لا يفكر بالذنب اساساً، وما يساعد في نجاح هذه المراجعة؛ التقوى التي رجاها القرآن الكريم من وراء الصوم: {لَعَلّكُم تَتّقونْ}، وهي الصفة والخصلة القابلة للنمو في النفس.
فبالدرجة التي يكون فيها الانسان متقياً، وبعيداً عن المعاصي والموبقات، يكون أقرب الى العبادة الحقيقية لله –تعالى- ولا تخطر على باله المعصية بكل اشكالها ومقاديرها، حتى وإن كانت نظرة خاطئة وسريعة في كل مرة خلال متابعة البرامج من التلفاز، او العودة ثانية الى الكذب والتدليس في التعاملات التجارية وغيرها كثير.
بين التقوى والعُجب خيط رفيع!
من أروع ما نقرأه في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين، عليه السلام، الطلب من الله –تعالى- بأن "وعبّدني لك ولا تُفسد عبادتي بالعُجب"، فالانسان ربما يكون في قمة الورع والتقوى والعبادة لله –تعالى- بيد أنه ربما ينساق من حيث لا يدري الى العُجب بنفسه فينظر الى نفسه وعبادته قبل التحقق من نظرة الله اليه، بل حتى ينسى القاعدة الثابتة في العلاقة بين العبد وربه بأن {إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ}، ولا حاجة له بعبادة أحد من الخلق، وإلا فان ابليس كان أكثر العبّاد لله، ولكن عبادته كانت لنفسه وليس لله، وهذا التصور جرّأه للجدال والتمرد بأن {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، وعند محاولته التملّص للخلاص من الامتحان العسير بأنه يعبد ويسجد بما لم يفعل أحد، جاءه الجواب: "بأني أريدك ان تعبدني كما أريد لا كما تريد أنت".
ولكن كيف يكون هذا الانحراف الغريب والعجيب من انسان عابد لله، الى عابد لنفسه؟!
إنها العبادة الفارغة من المحتوى، وعبادة الظواهر والقشور، والمساجد الضخمة المزينة بأثمن الاثاث وأروع الزخارف، والصفوف المليئة بالمصلين، وملايين الحجيج او الزائرين، وقد كشف الامام الصادق، عليه السلام، عن المبدأ الاساس بقوله: "ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج"، وحتى تكون عبادتنا ذات مصداقية لابد ان تكون ذات بعد اجتماعي كما اراده الله –تعالى- وكما بين لنا رسول الله في خطبته الرائعة في استقبال شهر رمضان، فكان جوابه على سائل عن تكاليف إفطار الصائمين، قال: "اتقوا الله بشقّ تمرة"، فالعبرة ليست بطول الموائد، واصناف الاطعمة، بقدر ما هو بتحكيم الصلة بين المؤمنين، وتذويب الفوارق بين افراد المجتمع المؤمن. فعندما يجد الفقير الساكن في العشوائيات، والذي لم يكسب من قوت يومه ما يسدّ به رمق أطفاله، لاسيما في هذه الظروف الصعبة، من يمد اليه يد العون على أمر معيشته، بأي شكل من الاشكال، فانه يستشعر قيمة الصيام وأثره في نفسه وفي معيشته أكثر من ذي قبل، ولاسيما اذا كانت هذه اليد تُمد في الخفاء، وحتى دون معرفة هوية المعطي، وهو ما ثقفنا عليه أئمة أهل البيت، عليهم السلام، وهذا تحديداً ما كان يزرع في نفوس المسلمين عامة حب الله –تعالى- والايمان، ويجعلهم فخورين كونهم مسلمين.
اضف تعليق