من المناسبات الدينية المهمة التي يجب أن يستعد لها الإنسان قبل وقتها، ويتهيأ نفسياً ورحياً وعقلياً لها هي: استقبال شهر رمضان المبارك، لأن هذا الشهر الكريم هو شهر عظيم، وهو شهر مبارك، وهو سيد الشهور، وهو فرصة ثمينة يجب الحرص على استثماره على أحسن وجه...
من المناسبات الدينية المهمة التي يجب أن يستعد لها الإنسان قبل وقتها، ويتهيأ نفسياً ورحياً وعقلياً لها هي: استقبال شهر رمضان المبارك، لأن هذا الشهر الكريم هو شهر عظيم، وهو شهر مبارك، وهو سيد الشهور، وهو فرصة ثمينة يجب الحرص على استثماره على أحسن وجه وبأفضل صورة. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: «لَو يَعلَمُ العَبدُ ما في رَمَضانَ لَوَدَّ أن يكونَ رَمَضانُ السَّنَةَ»[1] .
والإنسان الجاد في حياته هو من يتهيأ ويستعد ويخطط لاستقبال كل أمر هام في حياته، أو منعطف أساس في مسيرة أيامه، بخلاف الإنسان غير المبالي، والمسترسل في أموره دون تخطيط أو استعداد أو تهيؤ، وينطبق ذلك على مختلف شؤون الحياة، فالأول يوفق وينجح في أعماله، بينما الثاني يفشل ولا يحقق أي تقدم في حياته.
ومن صفات الإنسان الجاد في حياته هو التهيؤ لاستقبال شهر رمضان، وإعداد ما يلزم من مقدمات ومتطلبات قبل دخوله حتى لمّا يدخل عليه شهر رمضان المبارك يكون قد فتح صفحة جديدة في حياته، وفعل ما يؤدي إلى قبول أعماله وطاعاته في شهر الصيام.
وقد حثّ النبي (صلى الله عليه وآله) الناس على التهيؤ لاستقبال شهر رمضان، فقد خَطَبَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله الناسَ آخِرَ يَومٍ مِن شَعبانَ فقال: «أيُّها الناسُ، قد أظَلَّكُم شَهرٌ عَظيمٌ، شَهرٌ مُبارَكٌ، شَهرٌ فيهِ ليلةٌ العَمَلُ فيها خَيرٌ مِن العَمَلِ في ألفِ شَهرٍ ... هُو شَهرٌ أوَّلُهُ رَحمَةٌ وأوسَطُهُ مَغفِرَةٌ، وآخِرُهُ عِتقٌ مِنَ النارِ»[5] .
وروى الإمامُ الباقرُ عليه السلام فقال: «خَطَبَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله الناسَ في آخِرِ جُمُعَةٍ مِن شَعبانَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى علَيهِ ثُمّ قالَ: أيُّها الناسُ، إنّهُ قد أظَلَّكُم شَهرٌ فيهِ ليلةٌ خَيرٌ مِن ألفِ شَهرٍ وهُو شَهرُ رَمَضانَ، فَرَضَ اللَّهُ صِيامَهُ وجَعَلَ قِيامَ ليلةٍ فيهِ بتَطَوُّعِ صلاةٍ كَمَن تَطَوَّعَ بصلاةِ سَبعينَ ليلةً فيما سِواهُ مِن الشُّهورِ»[3] .
وعنه عليه السلام أيضاً قال: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله لَمّا حَضَرَ شَهرُ رَمَضانَ وذلكَ لثَلاثٍ بَقِينَ مِن شَعبانَ، قالَ لبِلالٍ: نادِ في الناسِ، فَجَمعَ الناسُ ثُمّ صَعِدَ المِنبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى علَيهِ، ثُمّ قالَ: «أيُّها الناسَ، إنَّ هذا الشَّهرَ قد حَضَرَكُم وهُو سَيِّدُ الشُّهُورِ، فيهِ ليلةٌ خَيرٌ مِن ألفِ شَهرٍ، تُغلَقُ فيهِ أبوابُ النِّيرانِ، وتُفتَحُ فيهِ أبوابُ الجِنانِ، فَمَن أدرَكَهُ فلَم يُغفَرْ لهُ فَأبعَدَهُ اللَّهُ»[4] .
وعن أبي الصّلت الهروي قالَ: دخلت على الإمام الرّضا (عليه السلام) في آخر جمعة مِن شَعبان، فقالَ لي: «يا أبا الصّلت، إنَّ شَعبان قَدْ مضى أكثره، وهذا آخر جمعة فيه، فتداركْ فيما بقي تقصيركَ فيما مضى مِنه، وعليك بالإقبال على ما يعينك، وأكثرْ من الدعاء والاستغفار وتلاوة القران، وتبْ إلى الله مِن ذنوبِكَ ليقبل شَهر رَمَضان إليكَ وأنتَ مخلص لله عزَّ وجلَّ، ولا تدعَنّ أمانة في عنقكَ إلاّ أدّيتها، ولا في قلبكَ حقداً على مؤمِن إلاّ نزعته، ولاذنباً أنتَ مرتكبه إلاّ أقلعت عَنهُ، واتق الله وتوكّل عَليهِ في سرِّ أمركَ وعلانيتكَ، ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾[5]، وأكثر من أن تقول في ما بقي مِن هذا الشّهر: [ اللّهُمَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ غَفَرْتَ لَنا فِيما مَضى مِنْ شَعْبانَ فَاغْفِرْ لَنا فِيما بَقِيَ مِنْهُ ]، فانّ الله تباركَ وتعالى يعتق في هذا الشّهر رقاباً مِن النّار لحرمة شّهر رمضان»[6] .
ومن المؤسف ما نراه لدى قسم من الناس من الاستعداد لشهر رمضان في البعد المادي فقط، حيث تزدحم مراكز التسوق بالمتسوقين لشراء الأطعمة والأشربة استعداداً لشهر رمضان، بينما لا نعطي الاستعداد الروحي والمعنوي أي اهتمام يذكر.
خطوات للتهيؤ لشهر رمضان
يمكن الإشارة إلى عدة نقاط على الصعيد الفردي من أجل التهيؤ لاستقبال دخول شهر رمضان الكريم، وأبرزها ما يلي:
1- محاسبة الذات:
من الخطوات المهمة في التهيؤ والاستعداد لاستقبال شهر رمضان محاسبة الذات، وعمل كشف لأعمال المرء طوال العام المنصرم، والبناء على الأمور الإيجابية، والعمل على التخلص من الأمور السلبية.
فقد روى عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وآله أنه قال: «حاسِبوا أنْفُسَكُم قَبلَ أنْ تُحاسَبوا، وزِنوها قَبلَ أنْ تُوزَنوا، وتَجَهَّزوا للعَرْضِ الأكْبَرِ»[7]، وقال صلى الله عليه وآله -لأبي ذرّ الغفاريّ-: «يا أبا ذرٍّ، حاسِبْ نَفْسَكَ قَبلَ أنْ تُحاسَبَ، فإنَّهُ أهْوَنُ لِحِسابِكَ غَداً، وزِنْ نَفْسَكَ قَبلَ أنْ تُوزَنَ، وتَجَهَّزْ للعَرْضِ الأكْبَرِ يَومَ تُعْرَضُ لا يَخْفى على اللَّهِ خافِيَةٌ»[8] .
وقال الإمامُ عليٌّ عليه السلام: «ما أحَقَّ الإنْسانَ أنْ تَكونَ لَهُ ساعةٌ لا يَشْغَلُهُ شاغِلٌ، يُحاسِبُ فيها نَفْسَهُ، فيَنْظُرُ فيما اكْتَسَبَ لَها وعلَيها في لَيلِها ونَهارِها!»[9]، وقال الإمامُ الكاظمُ عليه السلام: « لَيس مِنّا مَن لَم يُحاسِبْ نَفْسَهُ في كُلِّ يَومٍ، فإنْ عَمِلَ خَيراً اسْتَزادَ اللَّهَ مِنهُ وحَمِدَ اللَّهَ علَيهِ، وإنْ عَمِلَ شَيئاً شَرّاً اسْتَغْفَرَ اللَّهَ وتابَ إلَيهِ»[10] .
وكما تقوم الشركات والمؤسسات التجارية بعمل جرد لحساباتها السنوية، كذلك ينبغي للمؤمن أن يقوم بعمل كشف حساب لنفسه، لأن المحاسبة تفصح للإنسان عن نقاط قوته وضعفه، وما أنجزه طوال السنة من أعمال حسنة، وما قصّر في الاتيان به.
إن معرفة الإنسان بذاته، ومراجعة نفسه، مؤشر على الجدية في حياته، والاستعداد الجيد لاستقبال شهر رمضان، فقد جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنه قال: لَمّا حَضَرَ شَهرُ رَمَضانَ: «سُبحانَ اللَّهِ! ماذا تَستَقبِلُونَ؟! وماذا يَستَقبِلُكُم؟! قالَها ثلاثَ مَرّاتٍ»[11] .
2- ترويض النفس:
إن ترويض النفس وتدريبها على فعل الطاعات، وترك المحرمات من النقاط المهمة للتهيؤ لاستقبال شهر رمضان المبارك.
ومن صفات شهر رمضان ومميزاته أنه يحرق الذنوب، فقد قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: «إنّما سُمِّيَ الرَّمَضانُ لأنّهُ يَرمَضُ الذُّنوبَ»[12] .
وعن مجاهدة النفس باجتناب المحرمات قال الإمامُ عليٌّ عليه السلام: «الصِّيامُ اجتِنابُ المَحارِمِ كما يَمتَنِعُ الرجُلُ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ»[13] .
وأشارت النصوص الدينية أيضاً إلى استحباب الصيام في شهري رجب وشعبان، أو صيام بعض منهما للتهيؤ لاستقبال شهر رمضان، فلا يدخل رمضان إلا وقد عوّد نفسه على الصوم. فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «من صام ثلاثة أيام من آخر شعبان ووصلها بشهر رمضان كتب الله له صوم شهرين متتابعين»[14] .
وكما يستعد الإنسان للتهيؤ للصلاة بفعل بعض المقدمات لها كارتداء الملابس المناسبة والوضوء، كذلك عليه أن يستعد للصوم في شهر رمضان بالصوم بعدد ما يستطيع قبله.
3- التوبة النصوح:
كل إنسان معرض للخطأ، وارتكاب بعض المعاصي والذنوب، ولكن من رحمة الله تعالى بعباده أن فتح لهم باب التوبة، ليعودوا إلى الله عز وجل، كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾[15] .
ومن الخطوات المهمة للتهيؤ والاستعداد لاستقبال شهر رمضان هو التوبة النصوح من كل الذنوب والمعاصي ليقبل الإنسان على شهر الله تعالى وهو مخلص النية، وصافي القلب، فقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله: «وتبْ إلى الله مِن ذنوبِكَ ليقبل شَهر رَمَضان إليكَ وأنتَ مخلص لله عزَّ وجلَّ»[16] .
وكان الإمام عَلِيَ بنَ الحُسَينِ عليهما السلام يَدعو بِهذَا الدُّعاءِ في كُلِّ يَومٍ مِن شَهرِ رَمَضانَ:
«اللّهُمَّ إنَّ هذا شَهرُ رَمَضانَ، وهذا شَهرُ الصِّيامِ، وهذا شَهرُ الإِنابَةِ، وهذا شَهرُ التَّوبَةِ، وهذا شَهرُ المَغفِرَةِ وَالرَّحمَةِ، وهذا شَهرُ العِتقِ مِنَ النّارِ وَالفَوزِ بِالجَنَّةِ .... اللّهُمَّ ارزُقني فيهِ الجِدَّ وَالاجتِهادَ وَالقُوَّةَ وَالنَّشاطَ وَالإِنابَةَ وَالتَّوبَةَ »[17] .
وأما إذا جاء شهر رمضان والإنسان غارق في المعاصي والذنوب، فهذا يمنع من قبول الصوم، لأن الله إنما يتقبل من عباده المتقين، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[18] .
4- تصفية القلب:
من النقاط المهمة في استقبال شهر رمضان أيضاً تصفية القلب من الضغائن والأحقاد ضد إخوانك المؤمنين، ونزع كل حقد وضغينة وحسد من قلبك.
يقول الإمامُ عليٌّ عليه السلام: «طَهِّرُوا قُلوبَكُم مِن الحِقدِ؛ فإنّهُ داءٌ مُوبئٌ»[19]، وعنه عليه السلام قال: «قُلوبُ العِبادِ الطاهِرَةُ مَواضِعُ نَظَرِ اللَّهِ سبحانَهُ، فَمَن طَهَّرَ قَلبَهُ نَظَرَ إلَيهِ»[20] . وروي عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: «ولا في قلبكَ حقداً على مؤمِن إلاّ نزعته»[21] .
فالقلب الصافي والنقي والطاهر يقيل على العبادة والصوم بشوق ولهفة ورغبة شديدة، وأما من كان قلبه مملوءاً بالأحقاد والضغائن فلا فائدة ترتجى من عبادته وصيامه.
5- تطهير المال:
من خطوات الاستعداد والتهيؤ لاستقبال شهر رمضان الكريم هو تطهير المال من الحرام، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: «العِبادَةُ مَع أكْلِ الحَرامِ كالبِناءِ على الرَّمْلِ- وقيلَ: على الماءِ-»[22]، وعنه صلى الله عليه وآله قال: «وكلوا الحلال يتم لكم صومكم»[23] . وقال الإمامُ عليٌّ عليه السلام: «بِئْسَ الطَّعامُ الحَرامُ»[24] .
ومن صور تطهير المال إخراج الحقوق الشرعية الواجبة منه كالزكاة والخمس وأداء الديون ورد الأمانات إلى أهلها. يقول الإمام الرضا (عليه السلام): «ولا تدعَنّ أمانة في عنقكَ إلاّ أدّيتها»[25] .
فعلى الإنسان المؤمن أن يطهر أمواله بإخراج حقوق الله وحقوق الناس منه، فإذا طهّر أمواله فإنه يفطر على طعام من مال حلال ونقي وطاهر.
6- مراجعة الأفكار:
ثمة نقطة مهمة للغاية وهي: إن على الإنسان قبل دخول شهر رمضان أن يراجع أفكاره وقناعاته التي يتبناها، فقد يكون الإنسان يتبنى أفكاراً خاطئة، أو أفكاراً سلبية، أو أفكاراً –ليست من الدين في شيء– وقد عفى عليها الزمن ولم تعد صالحة لهذا الزمان.
ومراجعة الأفكار خطوة مهمة للتهيؤ لاستقبال شهر رمضان المبارك، وللأسف الشديد قلّ أن نجد من يقوم بهذه المراجعة الفكرية، مع العلم أن الصوم يساعد على صفاء الذهن، وإنتاج الحكمة، فقد روي في الحديث القدسي: «الصَومُ يُورِثُ الحِكمَةَ، والحِكمَةُ تُورِثُ المَعرِفَةَ، والمَعرِفَةُ تُورِثُ اليَقينَ، فإذا استَيقَنَ العَبدُ لا يُبالِي كيفَ أصبَحَ، بِعُسرٍ أم بِيُسرٍ»[26] .
وبالإضافة إلى أن الصوم يورث العلم والمعرفة والحكمة، فإنه يورث (يقظة عقلية) للكثير من الغافلين عن ذكر اللَّه، وعن الالتزام بأوامره، والاجتناب عن نواهيه، فيكون شهر رمضان بذلك بداية فكرية جديدة في حياة الكثيرين.
وفي شهر رمضان المبارك حيث يكون الإنسان أكثر استعداداً لتغيير أفكاره الخاطئة، والتقرب إلى الله تعالى، والعودة إلى قيم الدين وأخلاقه؛ على كل واحد منا أن يراجع أفكاره بدقة فيتخلى عن الأفكار الخاطئة، ويبقى وينمي ما لديه من أفكار صحيحة حتى يستقبل شهر رمضان بقلب صافٍ، وعقل نظيف، ورأي حصيف.
وليس من العيب أن يتراجع الإنسان عن أفكاره الخاطئة؛ فحتى الفقهاء قد يغيرون بعض فتاواهم أو قناعاتهم عندما يجدون دليلاً أقوى مما كانوا يعتمدون عليه في استنباط الفتوى.
اضف تعليق