وبإمعان النظر في عبادة الصوم والتأمل في كيفيتها الصحيحة يتضح، من منظور علم النفس المعرفي والسلوكي، أنها بالفعل تدريب فاعل على التغيير النفسي والسلوكي، لكونها ليست فقط ضبطا لرغبة الاستهلاك، بل تتجاوزه إلى ضبط الانفعالات أيضا، وان الصوم برنامج ارتقائي بالإنسان يأخذ بمختلف أبعاده وملكاته...
يرى الكثير من علماء النفس والأطباء النفسانيين في اميركا وانجلترا واوروبا، ان بقاء الانسان على نفس الروتين والايقاع في عمل الجسم، يؤدي الى الكسل والخدر والموت قبل الآوان، فيما التغيير يؤدي الى تنشيط البدن ويمنحه حيوية تطيل من عمره.
نبدأ بما قاله الحائز على جائزة نوبل في الطب الدكتور ألكسيس كاريك بكتابه (الإنسان ذلك المجهول) ما نصه: (إن كثرة وجبات الطعام وانتظامها ووفرتها تعطّل وظيفة أدت دورا عظيما في بقاء الأجناس البشرية، وهي وظيفة التكيف على قلّة الطعام).بمعنى ان الصوم يدرّب جسم الانسان على التكيّف في الأزمات الأقتصادية.
وعلى وفق ما يراه هذا الطبيب فان خلف الشعور بالجوع تحدث ظاهرة اهم هي ان سكر الكبد سيتحرك، وتتحرك معه أيضا الدهون المخزونة تحت الجلد، وبروتينات العضل والغدد وخلايا الكبد.. لتحقق في النهاية الوصول الى كمال الوسيط الوظيفي للاعضاء، ويخلص الى القول بأن الصوم ينظّف ويبدل أنسجتنا ويضمن سلامة القلب.
وفي السياق ذاته توصل آخرون الى ان الصوم ينمّي قدرة الانسان على التحكّم في الذات، ويدرّبه على ترك عادات سيئة، ويمنحه الفرصة على اكتساب ضوابط جديدة في السلوك تنعكس ايجابيا على شخصيته هو كانسان وعلى المجتمع الذي ينتمي اليه.مثال ذلك ،ان الصائم يمتنع عن التدخين في نهار كان يدخّن فيه علبة كاملة، وأن تدرّبه على هذا الامتناع قد يدفع به الى تركه.. وقل الشيء ذاته عن آخر اعتاد على ان يغتاب او يكذب ودرّبه صيامه على الامتناع عنهما شهرا لا يوما او اسبوعا.. وهذا ينطبق عليه قانون نفسي، هو: ان كثرة التدريب على سلوك جديد يؤدي الى ثباته.
ولقد كشفت دراسات الأطباء النفسانيين في السنوات الأخيرة أن حرمان المريض المصاب بالاكتئاب النفسي من النوم ليلة كاملة، وعدم السماح له بالنوم حتى مساء اليوم التالي، له فعل عجيب في تخفيف اكتئابه النفسي وتحسين مزاجه حتى لو كان من الحالات التي لم تنفع فيها الأدوية المضادة للاكتئاب. ثم أجريت دراسات أخرى ـ في باكستان تحديدا ـ فوجدوا أنه لا داعي لحرمان المريض من النوم ليلة كاملة كي يتحسن مزاجه، إنما يكفي حرمانه من نوم النصف الثاني من الليل، ليحصل على القدر نفسه من التحسن في حالته النفسية، وهنالك من يرى ان الصيام له تأثيره المخفف لحدة المعاناة والآلام في كثير من الحالات النفسية والعقلية.
وفي مراجعتنا للأدبيات والدراسات العربية والاجنبية وجدنا ان الصوم يدرّب الانسان على التقليل من النزعة الاستهلاكية التي اصبحت هي السائدة في نمط العيش الحديث، فلقد اشارت كتابات ايريك فروم وهربرت ماركيوز الى سلبية خطيرة تنخر نفسية الانسان تتمثل في طغيان رغبات التملك والاستهلاك المصحوبة بالقلق النفسي. ومن منظور سيكولوجي أكدت أبحاث الدكتور (كانمان) الأستاذ في جامعة برنستون الأميركية أن ارتفاع معدلات الاكتئاب يتناسب مع ارتفاع وتعدد الاختيارات الاستهلاكية، وعدم قدرة الناس على ضبط رغباتهم وكبحها، وهذا عكس الظن الشائع الذي يحسب أن تعدد الاختيارات والانسياق نحو الاستهلاك يسعد الإنسان. وفي السياق ذاته تخلص دراسة الدكتور (باري شوارتز) إلى ذات النتيجة، وهي أن نفسية الاكتئاب والإحباط قرينة للإفراط في الانسياق مع تيار الاستهلاك الجارف، ولهذا نصحت الكثير من الأبحاث بالتدريب على كبح الشهوات الغريزية والسيطرة على الرغبات عن طريق الصوم.
وتشير مجلة (سيكولوجست) الى ظهور عشرات المراكز الطبية في دول العالم المتخصصة في العلاج بالصوم مثل: الجمعية العالمية للصحة، وجمعية الطبيعة والصحة بكندا، والجمعية الأميركية للصحة الطبيعية، واخرى في اليابان والهند والصين، تنطلق من فكرة ضرورة اثارة الانتباه الى فائدة ضبط الشهوات والتحكم بها عن طريق الصوم.
وفضلا عن المراكز والمؤسسات الطبية التي تلجأ إلى الصوم كطريقة علاجية، توجد مئات الكتب والأبحاث التي تناولت الصوم من مختلف الجوانب والأبعاد. ومن بين الأدبيات الكلاسيكية في الموضوع نذكر كتاب هربرت شيلتون "الصوم"، وكتاب نيكولايف بيلوي "الجوع من أجل الصحة"، و"الصوم" لجيسبير بولينغ،". مستندين في ذلك الى ما أكدته أبحاث أنثربولوجيا الأديان أن فعل الصوم يكاد يكون سلوكا مشتركا بين جميع الملل الدينية،وأنه كان وسيلة لفهم الآخر.
وبإمعان النظر في عبادة الصوم والتأمل في كيفيتها الصحيحة يتضح، من منظور علم النفس المعرفي والسلوكي، أنها بالفعل تدريب فاعل على التغيير النفسي والسلوكي، لكونها ليست فقط ضبطا لرغبة الاستهلاك، بل تتجاوزه إلى ضبط الأنفعالات ايضا.
ويرى علماء النفس المعرفيون ان الصوم برنامج ارتقائي بالإنسان يأخذ بمختلف أبعاده وملكاته، بتحليلهم لما أوصى بها النبي بأن يَتَمَثَّلَ المسلم في صومه مجموعةً من الصفات الخُلقية، ويتدرب على ضبط نوازع الشر بداخله: "ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابّك أحد أو جهل عليك فقل: "إني صائم إني صائم"؛ و"رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُب قائم ليس له من قيامه إلا السهر".
وينبه علم النفس المعرفي إلى ان الصوم البيولوجي يعمل على تعديل التفكير في كيفية العيش، ومن ثم يصح القول إن الصوم بمدلوله الإسلامي يجمع البعد النفسي المعرفي بالبعد الجسدي، وهذا هو جوهر أية مقاربة سلوكية فاعلة. بل حتى في الشق المادي للصوم فإن تعديل السلوك الاستهلاكي لا يتأتى فقط بالامتناع البيولوجي، بل لا بد من تعديل رؤية الشخص إلى معنى الحياة ذاتها. ولعلنا لا نحتاج إلى التأكيد على قوة البعد النفسي وعمق تأثيره في كيان الإنسان، فمعلوم أن كثيرا من الأمراض يكون باعثها نفسيا ومعرفيا؛ وهذا ما جعل حقل الطب السيكوسوماتي (النفسي/الجسمي) يأخذ مرتبة معتبرة في مجال السيكولوجيا المعاصرة، وأساس المنهجية السيكوسوماتية هي أن النشاط المعرفي يؤثر جسديا، فالاعتقاد ولو الواهم بالمرض يؤدي إلى الوقوع في المرض، وهذا يؤكد صحة الأثر "لا تتمارضوا فتمرضوا".
المفارقة، ان علماء الغرب اكتشفوا ما اكتشفه الاسلام قبل الف واربعمئة سنة ولم ينصفوه علميا، لكنهم انصفوا النبي محمد (ص) بأن جعلوه يحتل المرتبة الأولى بقائمة المبدعين في التاريخ!.
اضف تعليق