كان الدعم السياسي عاملًا حاسمًا، حتى لو وفَّر «غطاءً» فحسب، وليس تشجيعًا فعَّالًا. وربما كان اقتناع القادة الإداريين بالفكرة أكثر أهمية. فأعضاء الفريق كانوا بحاجة إلى امتلاك الخبرة الفنية، من حيث الإلمام بالعلوم السلوكية وتقنيات التقييم. وفي الوقت نفسه، كانوا يجب أن يكونوا مُقنِعين، وعملِيِّين، ويفهمون كيفية...

تطوَّرَت حركة الرؤى السلوكية في عدة موجاتٍ مُتداخلة؛ محاكاة أولية للنموذج الذي وضعه فريق الرؤى السلوكية؛ تبنِّي المنظمات المُتعددة الأطراف للنموذج والترويج له؛ ثم اعتماده من قبل القطاع الخاص؛ وأخيرًا نمو «بيئة» أوسع تشمل الأوساط الأكاديمية والأفراد.

تألفَت إحدى هذه الموجات من إنشاء «فرق/وحدات للرؤى السلوكية» على غرار فريق الرؤى السلوكية؛ مجموعة صغيرة ماهرة تنشأ داخل القطاع العام، تُجري تجارب وتُحاول التأثير على السياسة. أصبحَت هذه المجموعات «النموذج التنظيمي الأكثر نموذجية» لتطبيق نهج الرؤى السلوكية داخل الحكومة. على سبيل المثال، شكَّلَت الإدارات المختلفة داخل حكومة المملكة المتحدة (بما في ذلك إدارة الدخل الحكومي، والعمل والمعاشات التقاعدية، والصحة، والتعليم) فرقَها الخاصة، التي بدأَت في الاندماج داخل مجتمعٍ نسَّق نفسه من خلال مجموعة عمل.

في الوقت نفسه، بدأَت نتائجُ فريق الرؤى السلوكية في جذب انتباه الحكومات الأخرى، التي بدَورها بدأَت في تشكيل فرقها المتخصِّصة. وكان من الأمثلة البارزة على ذلك الولايات المتحدة التي بدأَت في عام ٢٠١٣ في استكشاف إمكانية إنشاء فريقٍ جديد، ألا وهو «فريق العلوم الاجتماعية والسلوكية» (SBST)، وذلك وسط تكتُّمٍ شديد. كان للفريق قاعدتان، واحدة في البيت الأبيض («مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا») والأخرى في «إدارة الخدمات الحكومية» («مكتب علوم التقييم»). ركَّز الفريق بصورةٍ خاصة على التدخُّلات المنخفضة التكلفة والقابلة للقياس مثل زيادة نسب الحصول على اللقاحات، ورفع معدَّلات مُدخرات التقاعد، وتعزيز الالتحاق بالجامعات. ولكنه تعامل أيضًا مع تحدياتٍ سياسيةٍ أعقد، مثل تلوُّث مياه الشرب في مدينة فلينت بولاية مشيجان.

انعكس نجاح فريق العلوم الاجتماعية والسلوكية في إصدار الأمر التنفيذي رقم ١٣٧٠٧ في عام ٢٠١٥، والذي ينُص على «استخدام نهج الرؤى السلوكية لخدمة الشعب الأمريكي بشكلٍ أفضل». فاستنادًا إلى أنه «من خلال تحسين فاعلية وكفاءة الحكومة، يُمكن لرؤى العلوم السلوكية أن تدعَم مجموعةً من الأولويات الوطنية»، وجَّه هذا الأمرُ التنفيذي الإداراتِ والوكالاتِ لتطبيق هذه الرؤى عمليًّا، وتوظيف خبراء في علم السلوك. تم حلُّ الفريق الخاص بالبيت الأبيض بعد تنصيب دونالد ترامب رئيسًا. غير أن مكتب علوم التقييم لا يزال يواصل عمله في إدارة التجارب العشوائية المضبوطة المستندة إلى علم السلوك، مما أظهر الحكمة من تقسيم الفريق في الأصل بين قاعدةٍ سياسية وقاعدةٍ إدارية.

وعلى نحوٍ تقريبي للغاية، استمرت هذه الموجة الأولى من تبنِّي النهج حتى حوالي عام ٢٠١٤، حين أنشأَت ٥١ دولة على الأقل برنامجًا مُوجهًا مركزيًّا للرؤى السلوكية. ثم أعطت المنظماتُ البارزة المُتعددة الأطراف هذا النهج دفعةً أخرى. فقد دعمَت التقارير الرئيسية الصادرة عن البنك الدولي (٢٠١٥) ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (٢٠١٥ و٢٠١٧) والمفوضية الأوروبية (٢٠١٦) والأمم المتحدة (٢٠١٧) الرؤى السلوكية باعتباره نهجًا جديدًا ذا أهمية، بل ذهب البعض إلى حدِّ وصفه بأنه «نقلةٌ نوعية» في الإدارة العامة. وقد دُعِمَت هذه التقارير بالأفعال. فقد أنشأَت كل منظمةٍ من هذه المنظمات وحداتها الخاصة أو فرقًا مُخصَّصة لتطبيق نهج الرؤى السلوكية للنهوض بالأهداف المؤسَّسية (على سبيل المثال، «وحدة الرؤية المستقبلية والسلوكية» التابعة للمفوضية الأوروبية). كان التركيز على الأدلة والتقييم في مجال الرؤى السلوكية جذابًا بصورةٍ واضحة لهذه الجهات الفاعلة، التي توحَّدَت بدافعٍ تكنوقراطي لتحسين أسلوب عمل الحكومة.

أضفى الدعم من هذه النوعيات من المنظمات مزيدًا من الشرعية على الرؤى السلوكية، جاعلًا النهج يبدو أقرب إلى ممارسةٍ واعدة يجب على أي حكومةٍ تجربتُه ولو مرةً واحدة على الأقل. ومن ثَم التَحَق المزيد من البلدان بالرَّكب، وآخرها الهند، التي بدأَت في إنشاء «وحدة دفع» مركزية في سبتمبر ٢٠١٩. ووفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن ٢٠٢ من الكيانات العامَّة حول العالم كانت تطبِّق الرؤى السلوكية على عملها بحلول نوفمبر ٢٠١٨. ونتيجةً لذلك، «لم يعُد من الممكن اعتبار الرؤى السلوكية هجمةً عصرية قصيرة المدى تتبنَّاها الهيئات العامة. فقد ترسَّخَت تلك الرؤي بطرقٍ كثيرة عَبْر العديد من البلدان حول العالَم، وعَبْر مجموعةٍ واسعةٍ من القطاعات ومجالات السياسة.»

عند النظر إلى نمو هذه الوحدات، تُوجَد بعض النقاط الجديرة بالذكر. لم يكن هذا اتجاهًا مقتصرًا على البلدان المُتقدمة اقتصاديًّا فحسب؛ فقد تبنَّى كثيرٌ من البلدان النامية في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا هذا النهج. وعلى الرغم من أن نموذج فريق الرؤى السلوكية لوحدةٍ مركزيةٍ رائدة ربما كان الأكثر انتشارًا، فقد جُرِّب كثير من الهياكل الأخرى. على سبيل المثال، لم تؤِّسس هولندا كيانًا مركزيًّا أبدًا، بل قامت بتوزيع الخبراء الذين جُمِّعوا في شبكات المعرفة ومجموعات العمل. ولم تكن الحكومات الوطنية وحدَها هي التي أجرت هذه التغييرات؛ فقد أُنشِئَت أيضًا فرقٌ على المستويات المحلية والإقليمية ودون الوطنية، مثل «مجموعة الرؤى السلوكية» في مقاطعة كولومبيا البريطانية بكندا.

أخيرًا، لم تكن كل هذه المبادرات ناجحة. فقد كانت هناك حاجةٌ إلى كثير من العناصر المختلفة، بالإضافة إلى بعض الحظ. كان الدعم السياسي عاملًا حاسمًا، حتى لو وفَّر «غطاءً» فحسب، وليس تشجيعًا فعَّالًا. وربما كان اقتناع القادة الإداريين بالفكرة أكثر أهمية. فأعضاء الفريق كانوا بحاجة إلى امتلاك الخبرة الفنية، من حيث الإلمام بالعلوم السلوكية وتقنيات التقييم. وفي الوقت نفسه، كانوا يجب أن يكونوا مُقنِعين، وعملِيِّين، ويفهمون كيفية إنجاز الأمور وتنفيذها في الأنظمة البيروقراطية. وغالبًا ما كان من الصعب العثور على المسئولين الذين يمتلِكون المعرفة اللازمة والأفضلية العملية في الوقت ذاته.

ظهور «بيئة حاضنة» لنهج الرؤى السلوكية

في ظاهر الأمر، كان القطاع الخاص أبطأ في تبنِّي نهج الرؤى السلوكية. والحقيقة هي أن المنظمات التجارية كانت تَستخدِم جوانبَ مختلفة من نهج الرؤى السلوكية؛ ولكنهم فقط لم يجنُوا ثمار الجمع بينها.

فمن ناحية، كان ثمَّة تاريخٌ طويل من الشركات التي تستخدِم علم النفس لتسويق منتجاتها. وفي عام ١٩٥٧، ذهب كتاب فانس باكارد «مُقْنِعون خفيُّون»، الذي حَظِي بشعبيةٍ كبيرة، إلى أن الشركات كانت تستخدم التلاعُب النفسي على نطاقٍ واسع لزيادة المبيعات (على الرغم من أن نهجهم كان مختلفًا تمامًا عن نظريات المعالجة المزدوجة). ومن ناحيةٍ أخرى، لم يكن القطاع الخاص غريبًا عن إجراء تجاربَ عشوائية أو، كما يُسمُّونها غالبًا، «اختبارات أ/ب». فقد كانت التجارب مع المراسلات المباشرة مُستمرة منذ عقود؛ إذ في عام ٢٠٠٠، أجرت شركة «كابيتال وان» للبطاقات الائتمانية ٦٠ ألف تجربةٍ عشوائيةٍ منضبطة. (ولكننا نحتاج أيضًا إلى توخِّي الحذَر حتى لا نُبالغ في تقدير انتشار اختبار أ/ب في القطاع الخاص. على سبيل المثال، تُظهِر دراسةٌ حديثة أن ٨ إلى ١٧ في المائة فقط من الشركات الناشئة تستخدم تقنية اختبار أ/ب). المشكلة هي أن هاتَين الممارستَين ظلتا منفصلتَين في كثيرٍ من الأحيان. لم تُختبَر تطبيقات علم النفس دائمًا بشكلٍ قوي، في حين أن الاختبارات القوية غالبًا ما كانت تفتقر إلى البنية والنظرية، وبدلًا من ذلك تدخُل في تجاربَ عشوائية وترى قَدْر النجاح الذي ستُصيبه. وكانت النتيجة أنْ كان مِن الصعب البناء على النتائج السابقة على نحوٍ مُتَّسقٍ وثابت.

عندما بدأ القطاع الخاص في الالتفات إلى نهج الرؤى السلوكية -لا سيما التي رُوِّجَ لها في كتبٍ مثل «الدَّفْعَة»- صارت مزايا عديدة له واضحةً ومفهومة. فقد قدَّمَت نظرياتُ العمليات المزدوجة إطارًا تنظيميًّا كان بسيطًا بما يكفي لاستخدامه وفهمه بسهولة، مع توفير توقعاتٍ مُفيدة بشأن السلوك البشري في الوقت ذاته. كانت التجارب مُقنعة و«علمية»، ولكنها قدَّمَت أيضًا أفكارًا مثيرةً للاهتمام وغيرَ متوقَّعة حول «ما يُحرِّك الناس». وكان التحوُّل إلى البيئات الرقمية يعني أن الشركات لديها مجالاتٌ جديدة وسريعة التوسُّع لإجراء اختباراتها الخاصة، واكتشاف العائد المُحتمَل على الاستثمار.

كانت النتيجة طفرةً ضخمة في عدد الشركات التي تُقدِّم رؤًى سلوكية للأعمال. وكانت هذه الشركات إما شركاتٍ استشاريةً صغيرة مُتخصِّصة أو أقسامًا وإداراتٍ جديدة داخل شركاتٍ قائمة. وبالمقارنة مع فِرَق القطاع العام، مالت هذه الشركات إلى التركيز بصورةٍ أكبر على «الجمع بين الفهم العلمي للسلوك وقوة الإبداع»، على حدِّ ما ورد في صيغة استراتيجيةِ ممارسة «التغيير» التي تتبعها «وكالة أوجليفي آند ماذر أوجليفي». وقرَّرَت بعض الشركات الكبيرة - مثل «إيه آي جي» (AIG) وجوجل وأمازون وولمارت وجونسون آند جونسون - إنشاء فرقٍ مُخصَّصة لها. وقامت شركاتٌ أخرى بتعيين «كبير لمسئولي السلوكية» للتأكُّد من أن الأدلة المتعلقة بالسلوك البشري قد أُدْمِجَت في المحادثات الاستراتيجية على أعلى مستوًى، وليست مجرد فكرةٍ ثانويةٍ مهمَلة.

تشير هذه النقطة الأخيرة إلى أن الشركات لم تكن تسعى فقط إلى تعظيم المبيعات. فقد رأَوا أيضًا إمكانية استخدام نهج الرؤى السلوكية لإعادة تشكيل الطريقة التي كانت تعمل بها المؤسسات. فكان بالإمكان إعادة تصميم العمليات والمعايير لمساعدة الموظفين على التمتُّع بصحةٍ أفضل والعمل بكفاءةٍ أكبر. 6 وفي غرف اجتماعات مجالس الإدارات، لجأ المديرون التنفيذيون إلى العلوم السلوكية لتقليل التمييز على أساس العرق والجنس، بينما روَّجَت شركات الاستشارات الإدارية لفوائد «الاستراتيجية السلوكية» التي تتجنَّب الانحيازات المعرفية الشائعة. كذلك أدركَت الشركاتُ الحاجة إلى «الدفع توجيهًا نحو الأفضل»؛ نظرًا لأن الأهداف العامة والخاصة تتوافَق في بعض الأحيان. 

على سبيل المثال، اعتمد الطيارون في شركة «فيرجن أتلانتيك» إجراءاتِ طيرانٍ أكثر كفاءةً في استهلاك الوقود بعد أن طوَّر الأكاديميون ملاحظاتٍ تقييميةً سريعة وموجَّهة وتدخُّلاتٍ للرصد والمراقبة. وفَّرَت الشركة المال وزادت من الرضا الوظيفي للموظفين، بل منعَت أيضًا ما يقرب من ٢٥ ألف طنٍّ من ثاني أكسيد الكربون من دخول الغلاف الجوي.

يمكن توجيهُ كثيرٍ من الانتقادات هنا بلا شك. ففي كثيرٍ من الأحيان، لم يكن ممارسو القطاع الخاص يخضعون للمستوى نفسه من التدقيق مثل العاملين في القطاع العام، حيث تكون دوافع الشفافية أضعف. ويعترف الكثيرون في مجال الإعلان والتسويق بأنهم كافحوا لغرس ثقافةٍ تقوم على التقييم القوي والدقيق لسلوكيات المُستهلك. وبعض هذه السلوكيات التي يتم تشجيعها قد يكون لها سلبياتٌ للأفراد المستهدَفين.

نوقشَت مثل هذه القضايا المتعلقة بهذا الموضوع على نحوٍ متزايد في شبكات الممارسين والمفكرين. وبدأ الأكاديميون في الانخراط بصورةٍ أكبر في القضايا العملية والسياسية التي نشأَت من خلال تطبيق العلوم السلوكية على أرض الواقع، بالإضافة إلى تطوير هذا العلم نفسه. أنشأَت جامعة هارفارد «مجموعة الرؤى السلوكية» لخلق خبراء المستقبل، وخلقَت «جمعية العلوم والسياسات السلوكية» الجديدة حلقةَ اتصالٍ بين الجمعيات الحالية، وفعلَت سلسلةٌ من المؤتمرات الدولية الجديدة الشيءَ نفسه؛ وأُنْشِئَت دورياتٌ مثل «بيهافيورال بابليك بوليسي» ودورية «جورنال أوف بيهافيورال بابليك أدمنيستريشن» لرصد هذه التغييرات ونقدِها.

ثمَّة مجموعةٌ أخيرة في هذه البيئة الناشئة للرؤى السلوكية لا يُمكن إهمالها، ألا وهي: غير الخبراء. كما ذكرنا في سياق التوعية الغذائية، يُمكن للأفراد والمجموعات غير الرسمية أخذ النظريات والرؤى من العلوم السلوكية واستخدامها لتحقيق أهدافهم الخاصة على نحوٍ أكثر فاعلية. على سبيل المثال، يشعُر كثيرٌ من الناس بالقلق قبل أداء مهمةٍ عليهم أداؤها، مثل التحدُّث أمام جمهور، أو المشاركة في اجتماعٍ مُهم. يُجرِّب معظم الناس استراتيجيةً لمحاولة تهدئة أنفسهم كي يتعاملوا مع هذا القلق. ولكن تُوجَد طريقةٌ بديلة تتمثَّل في إعادة تفسير هذا القلق على أنه إثارة وحماس. ووجَدَت إحدى الدراسات أنه عندما يستخدم الناس هذا التكتيك، فإنهم يؤدُّون أداءً أفضل في المهام المُسبِّبة للقلق. وهذا هو نوع التكتيك المُفيد السهل، والمستنِد إلى علم السلوك، الذي يمكن للناس تطبيقه في حياتهم اليومية.

* مقتطف من كتاب (الرؤى السلوكية)، للمؤلفين مايكل هالزوورث وإلزبِث كيركمان، ونشر مؤسسة هنداوي

اضف تعليق