لم ينكشف لي بوضوح تمثليه إلا بعد أن استنزفني وأنهكني تنكره وتشكيه وتأففه المزمن. كان يمارس كلَّ ذلك بوعي كامل، ويؤسّس علاقاته ويديرها باحتراف ومهارة. لا ينجذب لبناء علاقات مع البؤساء على الرغم من تباكيه على بؤسهم، ينتقي الأشخاص بعناية بالغة، لا تهمه إلا العلاقات النوعية، بمَن يدرك جيدًا أنهم حساسون نفسيًا وعصبيًا...

عندما كنت طالبًا ببغداد سنة 1973 تعرفت على زميل من جيلي. هذا الزميل غريب الأطوار، فائق الذكاء، كان من الأوائل في المرحلة الثانوية على العراق، صامت قلما يتكلم، لو تكلم كلماته قليلة مركزة، تارة يتحدث بلغة قديس، وأخرى يتحدث بلغة شرير، لا تدري من هو الحقيقي في داخله ومن هو الزائف. أظن أن كليهما حقيقي، الطبيعة الإنسانية لا تتنكر للقاء الشخصيات المتضادّة داخل إنسان واحد، الإنسان لا ينجو من تناقض مختبئ بداخله، غير أن الإنسان السوي يمكنه التحكم بمواقفه وكلماته إلى حد معقول، إلا في حالات الغضب والانفعال الحاد فأحيانا يغلبه غضبُه.

غرابة هذا الزميل في تعبيره عن مواقفه المتضادّة في العلن، في أوقات متقاربة أو متزامنة، وهو في حالة هادئة، بلا أن يتعرض لأيّ مثير خارجي، وبلا أن يظهر عليه أيّ توتر أو اضطراب أو سخط، ففي الوقت الذي يعلن فيه الشفقة يعلن أماني متعطشة لنكبات تبيد البلاد والعباد. ينجذب إلى هذا الطالب زملاؤه العاطفيون من أبناء القرى أكثر من أبناء المدن، يوم كانت المدينة مدينية والقرية ريفية. 

بهرني بمهارته ومقدرته على التمثيل المدهش، في إخضاع مجموعة من الطلاب، وأنا أولهم، لعبودية طوعيّة بتلبية ما يرغب، ولو بإشارة يلوّح بها من بعيد، تواصل انصياعنا له باختيارنا عدة سنين. كان حين يظهر الشفقة على البؤساء والمعذبين، يكرّر التمني بحدوث زلزال مهول يفني كلَّ إنسان في الأرض. لحظة يظهر الشفقة والتفجع على البؤساء لا يسعف بؤسهم بشيء سوى الكلمات الشحيحة الحلوة. 

ظلّ يهدّد أحدَ الأصدقاء، عاش معه لمدة أنه سينتحر، يحلو له أن يثير هذا التهديد كلّ ليلة قبيل النوم، ما يضطرّ الرجل الذي يسكن الغرفة ذاتها لحراسته ليلًا، يلبث زميله يتجرع النعاس والإرهاق لئلا يباغته بانتحاره، وهو كما يقول زميله ينام فورًا حتى الصباح بلا قلق أو أرق أو ارهاق.

كنت والأصدقاء الذين يعطفون عليه نقدّم له كلَّ شيء بحوزتنا يمكننا تقديمه في ذلك الوقت، وهو صامت لا يكرمنا حتى بكلمة امتنان، ربما يكسر صمته بكلمة تشي بالتذمر والآهات من الحياة والبشر. واصل إخفاء مواقفه بوجهه الباكي وإعلانه الشفقة على الجياع في الأرض، وإظهار التقوى بممارسات توهم من يراه بقداسته، وكان لإظهار فرط ورعه يبالغ في التطهر كما يتطهر المصاب بوسواس قهري. 

المفارقة أنه في حين يبدي شفقة على البؤساء، يعلن حنقه وكراهيته لكلّ إنسان يعرفه أو لا يعرفه. لبثت بضع سنوات أتجرّع بمرارة مواقفه المتضادّة، أخيرًا عندما تأملت تناقضاته، وتذمره وتأففه ومرواغاته، شعرت بأني كنت ضحية شخصيّة ماكرة. 

لحظة تحسّسَ ما يشي باكتشافنا أنا وقليل من الأصدقاء لزيف شخصيته صار يحذر ويحاول أن يتهرب منا جميعًا لئلا ينفضح أمام الجميع. لم تنقطع به السبل لحظة تحرّرنا منه، إذ كان سرعان ما اصطاد سلسلة بديلة، ممن عواطفهم متعطشة لرعاية الإنسان الذي يوهمهم بأنه ضحية، وهو يجيد تمثيل هذا الدور على المسرح الاجتماعي. 

بعد 51 عامًا من تعرفي عليه سمعت الشهر الماضي 2024، أنه ما زال يواصل تمثيله ومراوغته بذكاء، في بلاد قصية، مع مغفلين من أمثالنا بالأمس. لم ينكشف لي بوضوح تمثليه إلا بعد أن استنزفني وأنهكني تنكره وتشكيه وتأففه المزمن. كان يمارس كلَّ ذلك بوعي كامل، ويؤسّس علاقاته ويديرها باحتراف ومهارة. لا ينجذب لبناء علاقات مع البؤساء على الرغم من تباكيه على بؤسهم، ينتقي الأشخاص بعناية بالغة، لا تهمه إلا العلاقات النوعية، بمَن يدرك جيدًا أنهم حساسون نفسيًا وعصبيًا، يمكن التأثير على عواطفهم وإيقادها بمجموعة كلمات، وتعبيرات مموهة للوجه، ونظرات زائغة للعينين، وحركات تبدو عفوية في غاية البراءة، وإن كانت تخفي تعبيرًا ذكيًا لاستجداء الشفقة. 

يتجنب البخلاء، ينتقي الكرماء لتلبية احتياجاته، يُظهِر لنا أنه ليس متهافتًا على المال، ولا تواقًا للشهرة، وهي مزايا يحرص على كشفها لتعزيز الثقة به. كنت مستعدًا، لفرط قدرته على تنويمي، أن أمضي سنوات أكثر مغفلًا، لولا مراجعتي لمواقفه الغرائبية وعجزي عن تفسيرها استنادا إلى لما تعلمناه من تطبيق مبدأ "حسن الظن" خارج موارده. 

ساعدتني قراءاتي لعلم النفس والتربية والعلوم الإنسانية، وما كان يصلني من معلومات عن كيفية عيشه، من خلال صديقي اليقظ الملاحظة الذي عاش معه لأشهر في غرفة واحدة. يقول عنه: أنه في كلّ ليلة قبل أن ينام يكرّر أمنيته بأن يستفيق على زلزال مدمّر يفني الأرض ومَن عليها. 

وقعت ضحية عواطفي الحارة وشفقتي الشديدة بالتضامن مع الإنسان الذي يبدو لي سلوكه معذبًا، كان هذا الشعور العميق وما زال يباغتني، وهو شعور تسلّل منه أكثر من واحد من الطفيلين لحياتي الخاصة، واستهلك وقتي الثمين، وأتعبتني نفسيًا مخاتلاته. 

هذه الحالة كما أنها أحد ثغرات شخصيتي، أعرف أنها واحدة من مزاياها، فلولا الشفقة على الإنسان والعواطف النقية تفتقر الحياة لأحد معانيها الملهِمة، وإن كانت الشّفقة الطاغية ثغرة يترصدها الصعاليك الطفيليون بذكاء فيصطادون صاحبها.

لا أتحدث عن ضرورة تأمين احتياجات المساكين والبؤساء والضحايا الذين يفرض علينا الضمير الأخلاقي رعايتهم، أتحدث عن الصعاليك والشخصيات الطفيليَّة في زماننا وليس في العصور السابقة. الصعاليك في عصرنا هم الطفيليون المتسكعون الذين يعتاشون على غيرهم، ويعلنون اغترابهم ونفورهم من الإنسان، والأشياء الجميلة من حولهم، ويكرهون العالم الذي يعيشون فيه، بل يكرهون حتى أنفسهم. 

الصعاليك مصطلح ظهر في الجزيرة العربية قبل الإسلام، مثّله شعراء تلك الفترة وما تلاها في العصر الإسلامي المبكر، عرفوا بتنكرهم للتبعية لشيخ القبيلة ولقيمها، وهجاء الأغنياء والأشحاء. كانوا يقومون بغارات أوقات الغفلة فينهبون أموال الأغنياء ويوزعونها على البؤساء. اشتهر من هؤلاء الشَّنْفَرَى. عرفوا بالصبر على مرارات الجوع والحرمان، والهروب والعدو السريع عندما يداهمهم خطر، حتى قيل: "أعدى من الشَّنْفَرَى". 

شخصيات الصعاليك الطفيليَّة متذمّرة، وجوهها باكية، لا تتفاعل مع أيّ شيء، ولا ترضى بأيّ شيء، تتنكر عاجلًا لكلّ ما يقدّمه الإنسان لها. يتميزون ببراعة استثنائية في إشعار الإنسان الذي يتطوع لرعايتهم مجانًا بالخطيئة، مهما قدّم لهم من طعام وشراب ومأوى ومال ورفق وعطف، يرتاحون عندما يظلّ مَن يكرمهم يشعر بالتقصير والألم، بل يتوقون لأن يشعر بذنب عدم الوفاء بحقوقهم المستلبة من الأهل والمجتمع، ومنه شخصيًا حسب توهمهم. 

ينفردون بمقدرة لافتة على الابتزاز العاطفي لمن يتحسّسون سرعة تأجيج مشاعره، إن كان هشًّا عاطفيًا يثيرون مشاعره ويوقدونها بغية الإشفاق عليهم، إلى الحد الذي تصرع عاطفتُه عقلَه فيقع في شباكهم، ويصير فريسة لهم، ولو كان ذكيًا. هم من أشطر الناس باستعمال لغة الجسد، وإتقان تعبيرات الوجه، وتوظيف نوع اللباس وكيفيته، وأساليب الحديث الموجز المقنع. ينجذب شديد العاطفة لهم، ويتفننون في استغفاله لسنوات، استمرار العلاقة بهم تورث الاكتئاب. 

لا يفلت منهم إلا ذوو العقل التساؤلي الذين لديهم خبرة علمية وعملية بهذا النمط من الشخصيات. مثلما يتفق الصعاليك بمشتركات، يختصّ كلّ واحد منهم بعاهاته الشخصية. ليس بالضرورة أن يختلف أو يتفق كليًا في المشتركات العامة هؤلاء الصعاليك في عصرنا مع صعاليك عاشوا في الجزيرة العربية قديمًا، بل كلّ واحد منهم تنفرد شخصيته بما لا يشبه غيره من البشر، حتى من أمثاله الصعاليك. 

كانت علاقاتي قبل أكثر من 40 سنة واسعة متنوعة عشوائيَّة، ‏حاكمت نفسي أكثر من مرة بصرامة على هذه الفوضى في العلاقات، غير المنتِجة روحيًا وأخلاقيًا ومعرفيًا، فقمت بشذيبها منذ ذلك الوقت بالتدريج من الصعاليك والشخصيات الطفيليَّة، التي كانت تستنزف وقتي وطاقتي، وتعكر مزاجي بتوهمها أني وغيري مخلوقون لخدمتها مجانًا. 

منذ ذلك التاريخ لم أعد أتحمس لبناء أية علاقة جديدة بأيّ إنسان من هؤلاء، إلا إذا كان هذا الإنسان شخصيّة أخلاقيّة، يتميز بعواطفه الصادقة وذوقه وتهذيبه ومعرفته. العلاقات بالصعاليك والشخصيات الطفيليَّة كنت أتورط فيها بشبابي فتورطني، تستنزف وقتي وتشتّت ذهني وتعطلني عن أعمالي. بمرور الزمن أصبحت إرادتي أصلب وشجاعتي تتغلب على خوفي من الناس وتوهمي أن المجتمع يعاقبني عندما أكون حازمًا أحمي ذاتي من اختراق هؤلاء المتسكعين. لم تعد أية علاقة بأيّ إنسان من أمثال هؤلاء تغويني، وفشلت محاولات المتطفلين والمشغولين بالثرثرة في مصادرة حياتي.

اضف تعليق