هذه المدارس الثلاث الرئيسة تتفق في أن مصدر الاضطراب يكمن وراء وعي المريض وأنه يفعل فِعله فيه دون علمه ودرايته. وهذا ما جعلها تتفق أيضًا في الغض من شأن الوعي... أعني التصورات الواعية للمريض، أفكاره الخاصة، وخيالاته. ولكن ماذا لو كانت هذه المدارس كلها على باطل في هذا الشأن؟...
حظِيت الاضطرابات الانفعالية في السنوات الأخيرة باهتمام كبير ولقيت رواجًا عظيمًا بين عامة الناس؛ فالكتب التي تتناول هذه الاضطرابات أضحت في قوائم الكتب الأكثر مبيعًا. ولا تكاد تخلو مجلة من المجلات العامة من مقالات تتناول هذا الصنف من الأمراض. ومن اللافت للنظر أيضًا تزايد الاهتمام بمقررات علم النفس المرضي في الجامعات، وتزايد أعداد الأطباء النفسيين والأخصائيين الإكلينيكيين وغيرهم من العاملين في مجال الصحة النفسية. لقد تدفقت الاعتمادات المالية، سواء من الموارد العامة أو الإسهامات الخاصة، وأدَّت إلى توسع هائل في إنشاء المراكز الأهلية للصحة النفسية وغيرها من الخدمات المرتبطة بالطب النفسي.
غير أن الأمر لا يخلو من مفارقة مؤسفة؛ ففي الوقت الذي تحظى فيه الاضطرابات الانفعالية بهذا الاهتمام العام، وتُبذَل فيه الجهود الضخمة لتعميم الخدمات النفسية المتخصصة على أوسع نطاق، نجد أن أهل هذا التخصص في شقاق حاد، يتنازعون فيما بينهم حول طبيعة هذه الأمراض وحول العلاج الأمثل لها. وما تكادُ نظرية جديدة تستأثر بالساحة وتخلب ألباب العامة والخاصة حتى يجفَّ رواؤها وتُدرَج في زوايا النسيان. وتظهر نظريات أخرى وعلاجات جديدة فما تلبث أن يلحقها نفس المصير.
ويتكرر هذا المشهد باطراد عجيب. وما تزال الخلافات باقية حتى بين أرسخ النظريات قدَمًا وأكثرها صمودًا، وأعني بها: الطب النفسي العصبي neuropsychiatry ومدرسة التحليل النفسي psychoanalysis ومدرسة العلاج السلوكي behavior therapy، تلك النظريات التي اضطلعت بدراسة الاضطرابات الانفعالية وعلاجها وما تزال على شقاقها القديم سواء فيما يتعلق بالبناء النظري أو المدخل التجريبي والإكلينيكي.
تتفق هذه النظريات السائدة، رغم تباينها الواضح، في افتراض أساسي هو أن الشخص المصاب باضطراب انفعالي هو ضحية قُوًى ومؤثرات لا يتبينُها ولا يملك التحكم فيها.
أما مدرسة الطب النفسي العصبي التقليدية، وهي التي انبثقت من النزعة الفيزيائية للقرن التاسع عشر physicalism، فتبحث عن أسباب بيولوجية للاضطراب الانفعالي كأن يكون هناك تغيرات كيميائية أو عصبية قد أدت إليه، وبالتالي فهي تستعين بالوسائل الطبية من أدوية وغيرها لإزالة هذا الاضطراب.
وأما مدرسة التحليل النفسي، وتستند أيضًا إلى فلسفات القرن التاسع عشر، فترى أن في الأمر عُصابًا شخصيًّا تعزوه إلى عوامل لا شعورية (لا واعية). وأن عناصرَ اللاشعور (اللاوعي) هذه شيء مكنون خُتِم عليه بأختام منيعةٍ وضُرِبت دونه حجُب نفسية لا يملك كشفها إلا المحلل النفسي.
وأما المدرسة السلوكية، وجذورها الفلسفية كسابقتيها ترجع إلى القرن التاسع عشر، فلا ترى في الاضطراب الانفعالي أكثرَ من انعكاسات (منعكَسات/ارتكاسات) لا إرادية قائمة على إشراطات قديمة طرأت على المريض في سالف أيامه. هذه الانعكاسات (الأفعال المنعكسة) الشرطية لا يملك المريض تعديلها بمجرد فهمها، فوعي المريض بما يجري لا يُغني عنه شيئًا، وإنما يلزمه إشراط مُضاد يقوم به معالج سلوكي قدير.
يتبين من ذلك أن هذه المدارس الثلاث الرئيسة تتفق في أن مصدر الاضطراب يكمن وراء وعي المريض وأنه يفعل فِعله فيه دون علمه ودرايته. وهذا ما جعلها تتفق أيضًا في الغض من شأن الوعي... أعني التصورات الواعية للمريض، أفكاره الخاصة، وخيالاته.
ولكن ماذا لو كانت هذه المدارس كلها على باطل في هذا الشأن؟ ماذا لو أن الوعي هو مصدر الاضطراب؟ ولنَحدِس معًا الآن ماذا يكون الأمر لو أن وعي الشخص هو الذي ينطوي على العناصر المسئولة عن اختلال انفعالاته وتفكيره ولجوئه من ثَم إلى طلب العون، وماذا يكون الأمر لو أن جعبة هذا الشخص كانت في واقع الحال ملأى بالوسائل المنطقية الكفيلة بتعديل هذه المكونات الواعية فيما لو حظِي بالتوجيه السليم.
من الواضح أنه لو صحَّت هذه الافتراضات لشُقَّ أمام اضطرابات الانفعال طريق علاجي جديد مختلف تمامًا عن الطرق الثلاثة الأخرى، يقوم على أن الإنسان لديه كل المفاتيح اللازمة لفهم اضطراباته النفسية وحلها دون أن ينِدَّ عن نطاق وعيه قيدَ شبر. فبمقدور الإنسان أن يصحح أوهامه التي أورثته هذا الاختلال الانفعالي بنفس الجهاز العقلي الذي اعتاد استخدامه في حل المشكلات طوال مراحل نموه.
تتلاقى هذه الافتراضات لتكوِّن منهجًا جديدًا نسبيًّا في فهم الاضطرابات الانفعالية. هذا المنهج الجديد يقوم في الحقيقة على دعائم فلسفية ليست جديدة، بل هي موغلة في القدم، وتعود إلى زمن الرواقيين stoics. لقد اعتبر الفلاسفة الرواقيون أن فكرة الإنسان عن الأحداث، وليست الأحداث ذاتها، هي المسئولة عن اختلاله الانفعالي. إلى هذا المنطق الرواقي يستند هذا العلاج الجديد -العلاج المعرفي- فالمشكلات النفسية ترجع بالدرجة الأساس إلى أن الفرد يقوم بتحريف الواقع ولَيِّ الحقائق بناءً على مقدمات مغلوطة وافتراضات خاطئة. وتنشأ هذه الأوهام عن تعلُّم خاطئ حدث له أثناء مراحل نموه المعرفي. وبصرف النظر عن منشأ الأوهام؛ فإن صيغة العلاج تُفصح عن نفسها ببساطة؛ فعلى المعالج أن يساعد المريض على كشف مغالطاته الفكرية وتعلُّم طرائق بديلة أكثر واقعية لصياغة خبراته.
هكذا نرى أن المنهج المعرفي يجعل فهم الاضطرابات الانفعالية وعلاجها أكثر اتصالًا بخبرات الحياة اليومية للمريض. وللمريض إذ ذاك أن يطمئن إلى أن اضطرابه لا يعدو أن يكون ضربًا من ضروب سوء الفهم التي كثيرًا ما مرَّ بمثلها في حياته السابقة وكثيرًا ما نجح في تصحيحها حين توافرت له المعلومات الصحيحة أو حين تكشَّفت له المغالطة الكامنة.
بهذا الاقتراب من الخبرات السابقة للمريض يقترب العلاج المعرفي من فهمه ولا يستغلق عليه. وهو يمده بالثقة في قدرته على أن يصحح أوهامه الحالية قياسًا على نجاحاته السابقة. ومن البديهي أن هذا الاقتراب وهذا الوضوح، بالإضافة إلى استخدام الطرق المألوفة لحل المشكلات، كل أولئك من شأنه أن يمد جسور التواصل بين المريض والطبيب بسرعة هائلة.
ومن حق السائل أن يسأل بطبيعة الحال عن مدى صدق validity هذه الطريقة العلاجية في علاج ما تدَّعي علاجه. ومن حُسن الحظ أن الظاهرة المعرفية قابلة للملاحظة المباشرة من جانب المريض عن طريق الاستبطان introspection، وأنها -بعكس تجريدات التحليل النفسي- قابلة للاختبار التجريبي. وهناك بالفعل أعداد متزايدة من الدراسات المنهجية قد أثبتت صحة الأسس التي يقوم عليها علم النفس المعرفي، وهناك تجارب بحثية علاجية قد برهنت على فعالية العلاج المعرفي.
من شأن هذا المدخل الجديد في فهم اضطرابات الانفعال أن يغير نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى مشاكله. فالإنسان ليس رهين تفاعلات كيميائية أو نزوات عمياء أو انعكاسات آلية، بل هو كائن عُرضة للتعلم الخاطئ وللأفكار الانهزامية ولديه القدرة أيضًا على تصحيحها. وهو حين يضع يده على مواطن المغالطة في تفكيره ويُجري عليها التصحيح اللازم؛ فإنه يجعل حياته أكثر امتلاءً وإرضاءً له وتحقيقًا لذاته.
اضف تعليق