السعي وراء الأملاك المادية لا يؤدي إلى السعادة. في واقع الأمر، الناس المهتمة اهتمامًا بالغًا بشراء الأشياء المادية التي غالبًا ما يريدون بها أن يشعر الآخرون بمنزلتهم ووجاهتهم يعانون تعاسةً أكبرَ في علاقاتهم ومشكلاتٍ نفسية أكثر. ومشاعر الحرمان النِّسبي تُبدِّد الشعورَ بالسعادة حتى على مستوى الدول...
تُسهم المعلومات عن مخاطر المقارنة في تفسيرِ ظاهرةٍ ملحَّة لكن محيِّرة: لماذا لا تُؤدي زيادة المال بالضرورة إلى زيادة السعادة. دائمًا ما نتوقَّع أن يُؤدي المزيد من المال إلى قدرٍ أكبر من السعادة. فالمال هو ما يشتري لنا الأشياء التي يُفترض أن تجعلنا سعداء على كل حال.
مع أن الدخل المُطلق، وهو إجمالي المال الذي نملكه، مرتبِط بمقدار السعادة، فإن الدخل النسبي، أي ما إن كان دخلنا أكثر ممَّن حولنا أو أقل، في نفس أهميته، وربما أكثر أهميةً في تحديد درجة شعورنا بالرضا. لماذا؟ لأن مشاعرنا إزاء ما نَجنيه من مال لا تتوقَّف على ثروتنا الفعلية فحسب، وإنما على المقارنة بين ثروتنا وثروة مَن هم في المجموعة التي نقارن أنفسنا بها.
في دراسةٍ ذكية لتقييم أهمية الدخل النسبي، جعل الباحثون الناسَ يختارون أحدَ خيارين:
الخيار أ: أن يكون دخلك السنوي الحالي ٥٠ ألف دولار؛ ودخل الآخرين ٢٥ ألف دولار.
الخيار ب: أن يكون دخلك السنوي الحالي ١٠٠ ألف دولار؛ ودخل الآخرين ٢٠٠ ألف دولار.
يتيح تصميم هذه التجربة خيارًا واضحًا - هل تفضِّل أن تجني المزيد من المال عامةً (الخيار ب)، أم تفضِّل أن تجني مالًا أكثر ممن حولك (الخيار أ)؟ تبدو الإجابة واضحة نوعًا ما - أقصد أننا جميعًا سنفضِّل أن نكسب المزيد من المال بطبيعة الحال، أليس كذلك؟
من المدهش ربما أن أكثر من نصف المشاركين في الدراسة اختاروا الخيار أ؛ أي إنهم يُفضِّلون أن يكسبوا مالًا أقل عامةً، ما داموا سيكسبون مالًا أكثر من الآخرين. هذا المثال يُثبت كم نُدرك أن المقارنة التي نعقِدها تؤثِّر تأثيرًا بالغًا على ما نشعر به.
إنَّ نتيجةَ دَورِ المقارنات في التأثيرِ على سعادتنا تساعد في تفسيرِ لماذا يشعر الناسُ المقيمون في أحياءٍ ثرية بقدرٍ أقلَّ من السعادة.
طلب الباحثون في دراسةٍ أخرى من نحو ثلاثة آلاف شخص في أنحاء البلد أن يحدِّدوا درجةَ رغبتهم بشكلٍ عام في الممتلكات المادية، مستخدمين عباراتٍ مثل العبارات التالية:
يعجبني الناس الذين يمتلكون منازلَ وسيارات وملابس غالية.
أحب أن يكون في حياتي الكثير من مظاهر الترف.
أحب امتلاك الأشياء التي تبهر الناس.
ستكون حياتي أفضل إن امتلكت أشياءَ محدَّدة ليست لدي.
صُنِّفت هذه العبارات على مقياسٍ من ١ (الاعتراض الشديد) حتى ٥ (الموافقة التامة)، ثم جُمِعت النقاط بحيث يدُلُّ المجموع الأعلى على رغبةٍ أكبر في امتلاك الأشياء المادية. كما أنهم قيَّموا إجمالي دخل الأسرة للناس وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية عامة في الأحياء التي يسكنونها بتحرِّي كلٍّ من إجمالي الدخل ومعدَّل الفقر في مناطقهم.
في اتساق مع الأبحاث السابقة، وجد الباحثون أن الناس الذين كانوا يجنون مالًا أكثرَ كانوا أقلَّ اهتمامًا بشراء الأشياء المادية. وهذه النتيجة منطقية؛ لأنَّ الناس الذين يتمتعون بمستوى معيشة رغيد لا بد أن يولوا اهتمامًا أقلَّ للحاجة إلى امتلاك المزيد من الأشياء.
إلا أن الأشخاص الذين كانوا يعيشون في مناطقَ أكثر ثراءً كانوا أشد اهتمامًا بشراء الأشياء المادية. كذلك بدَوا أكثر إقبالًا على الشراء دون تروٍّ وأقل ميلًا للادخار. يعتقد الباحثون أن التعرُّض المستمر لمظاهر الثراء في بيئة الفرد يُولِّد شعورًا بالحرمان النسبي. ومن ثمَّ فإنهم يستجيبون لذلك الشعور بزيادةٍ في رغبتها في امتلاك أشياء مادية، في محاولة على ما يبدو للحفاظ على الوضع الاجتماعي.
إلا أن السعي وراء الأملاك المادية لا يؤدي إلى السعادة. في واقع الأمر، الناس المهتمة اهتمامًا بالغًا بشراء الأشياء المادية - التي غالبًا ما يريدون بها أن يشعر الآخرون بمنزلتهم ووجاهتهم - يعانون تعاسةً أكبرَ في علاقاتهم ومشكلاتٍ نفسية أكثر.
ومشاعر الحرمان النِّسبي تُبدِّد الشعورَ بالسعادة حتى على مستوى الدول. فقد تحرَّت إحدى الدراسات الواسعة النطاق مشاعرَ الرضا عن الحياة والحالة المزاجية اليومية لدى أكثر من ٨٠٠ ألف شخص يعيشون في ١٥٨ بلدًا مختلفًا. رغم أن كسْبَ مالٍ أكثرَ لطالَما ارتبط بسعادة أكبر، فإن الأشخاص المقيمين في دولٍ أغنى أعربوا عن مستوياتٍ أعلى من القلق والغضب. فقد تكون وتيرة الحياة أسرعَ في الدول الأغنى والتحوُّل نحو الصناعة أكبر - وفرص قضاء الوقت في الطبيعة أقل - وهي كلها عوامل قد ينجم عنها مستوياتٌ أعلى من التأثير السلبي.
بالإضافة إلى ذلك، لدى الناس الذين يعيشون في الدول الغنية ميلٌ أكبر للانخراط في المقارنات الاجتماعية التي تضرُّ بصفائهم. فحين يعيش الناس في دولٍ غنية، يشعرون بما يُسمَّى فجوة التطلعات، وهو التباين بين ما لديهم وما يتوقون إليه. وكما قد تتوقَّعون، كلما زادت هذه الفجوة، تفاقم الشعور بالاستياء.
ليسوا سعداء كما تظنُّهم
دُعيتُ ذاتَ مرة لإلقاء محاضرة على مجموعة صغيرة من خريجي إحدى الكليات. وصلت إلى منزل المضيِّف، فوجدته بديعًا من الداخل والخارج - من سجاد وأثاث وسجاد ونوافذ مزينة منتقاة بحرفية؛ وحديقة شُذِّبت على نحوٍ جميل؛ وطاقم من مُتعهِّدي المناسبات يطوفون بالمشروبات والطعام على صوانٍ فضية. وكانت الأسرة بنفس الروعة: زوج وزوجة جذابان وطفلان مهندمان ومهذَّبان. كانت الأمسية مبهجة، وحين دلفت إلى سيارتي في نهاية المناسبة، حدَّثت نفسي قائلة: «لا بد أن هذه الأسرة تعيش حياةً مثالية.»
بكل صراحة، قارنت بين هذه الحياة المثالية التي شهدتها وحياتي الأقل من مثالية بكثير: منزلي الفوضوي وحديقتي غير المُشذَّبة وأبنائي الكالحون. لذلك جعلت أقول لنفسي إن هذه الأسرة تعيش حياةً مثالية، ولا يمكن لحياتي أن تُقارن بها أبدًا.
في اليوم التالي، ذكرت حضوري هذا الحدث لصديق، فسألني إن كنت أعلم بتاريخ هذه الأسرة؛ بالطبع لم أكن أعلم به. عرفت عندئذٍ أن هذه الزيجة كانت الأولى للزوج لكنها الثانية للزوجة. كانت قد تزوَّجت صديقها في الجامعة بعد التخرُّج ببضع سنوات؛ وبعد أقل من شهر من زفافهما، مات في الحال حين اصطدمت طائرة بمكتبه في البرج الشمالي لمركز التجارة العالمي. حتى إنه لم يرَ قطُّ صورَ زفافهما.
لقد تعلَّمت درسًا مهمًّا عن المنطق المغلوط المتأصِّل في عقْد المقارنات، وهو أننا لا نعرف أبدًا القصة الحقيقية لحياة الآخرين. تقوم مقارناتنا على الحقيقة الخارجية التي يقدِّمونها، أو التي يختارون تقديمها في بعض الحالات. وكما يشير عالِم الاقتصاد سيث ستيفينز ديفيدوفيتز، يقضي الناس في غسيل الصحون ستة أضعاف الوقت الذي يقضونه في لعب الجولف، لكن التغريدات التي نجدها على «تويتر» عن لعب الجولف تكاد تبلغ ضعفَ تلك التي عن غسيل الصحون. بالمثل، رغم أن فندق سيركس سيركس الاقتصادي وفندق بيلاجيو الفاخر في لاس فيجاس بهما نفس عدد الحجرات تقريبًا؛ فالأشخاص الذين يعلنون عن نزولهم في فندق بيلاجيو على «فيسبوك» أكثرُ بثلاث مرات.
ورغم أن هذه الصور مُبهرة، فإننا لا نعلم أبدًا ما يعايشه الآخرون في الواقع. فكما يقول إيفان إيفانوفيتش بطل قصة تشيخوف: «نرى أولئك الذين يذهبون إلى السوق ليشتروا الطعام، الذين يأكلون نهارًا وينامون ليلًا، الذين يُثرثرون مبتهجين … لكننا لا نسمع ولا نرى أولئك الذين يعانون؛ فالأشياء الفظيعة في الحياة تحدُث في الكواليس.»
وثمَّة دليلٌ قوي على رؤية تشيخوف الثاقبة. فقد سأل الباحثون في سلسلة من الدراسات طلابًا جامعيين عن عدد المرات التي تعرَّضوا فيها لأحداثٍ سلبية مختلفة (مثل الحصول على تقديرٍ منخفض أو الإعراض عن رفيقٍ كان يود الارتباط به) وأحداث إيجابية (مثل حضور حفلٍ ممتع والخروج مع أصدقاء) خلال الأسبوعين المنصرمين. كذلك طُلب منهم تخمينُ تَكرار حدوث نفس الأحداث للطلاب الآخرين.
هل تستطيعون تخمينَ النتائج؟ عند كل حدث سلبي، كان الطلاب يعتقدون أنهم يتعرَّضون لهذه الأحداث أكثرَ من أقرانهم. فعلى سبيل المثال، رغم أن ٦٠ في المائة من الطلاب كانوا قد حصلوا على درجاتٍ سيئة خلال الأسبوعين السابقين، فقد ظنوا أن ٤٤ في المائة فقط من زملائهم تعرَّضوا لهذه التجربة. في المقابل، ظن الطلاب كذلك أن زملاءهم يمرون بأحداثٍ إيجابية أكثرَ مما يمرون هم به. فمثلًا، رغم أن ٤١ في المائة فقط من الطلاب قد أقروا بحضور حفلة ترفيهية خلال الأسبوعين المنصرمين، فقد اعتقدوا أن ٦٢ في المائة من زملائهم قد مرُّوا بهذه التجربة.
المؤسِف أن الإحساس بتلك الفروق - حتى وهي خاطئة - يَقترن بتبعاتٍ سلبية. فالطلاب الذين كان تقديرهم مُقلِّلًا من أهمية الأحداث السلبية التي يتعرض لها زملاؤهم في حين بالغوا في تقدير الأحداث الإيجابية التي يمر بها زملاؤهم أفادوا عن شعور أشد بالوحدة ورضًا أقل عن الحياة.
يحاول العديد من الكليات والجامعات حاليًّا مواجهةَ التبعات السلبية لمثل تلك الاعتقادات الخاطئة بتشجيع الناس على الإفصاح عن إخفاقاتهم. فجامعة سميث كوليدج في نورثامبتون في ولاية ماساتشوستس مثلًا شرعت في برنامجٍ باسم «الفشل الموفَّق»، حيث يحكي الطلاب والأساتذة تجاربهم من الفشل الشخصي والعملي في محاولةٍ لخلق وعي بالأحداث السلبية التي نُواجهها كلنا. وتبنَّت جامعاتٌ أخرى برامجَ مشابهة، منها مشروع «التأقلم» لدى جامعة ستانفورد، ومشروع «النجاح والفشل» التابع لدى جامعة هارفارد، ومشروع «وجوه بنسلفانيا» لدى جامعة بنسلفانيا.
يوهانس هاوسهوفر، أستاذ علم النفس والشئون العامة في جامعة برينستون، ألَّف «سيرة ذاتية للإخفاقات» تسرُد كلَّ المواقف التي لاقى فيها الرفض خلال مسيرته الأكاديمية. تضم هذه القائمة برامجَ دراسات عليا نبذته، ومناصب أكاديمية رفضته، ومنحًا لم يحصل عليها. كان دافعه لكتابة هذه السيرة الذاتية وعيه بأن نجاح الناس دائمًا ما يكون جليًّا، أما إخفاقاتهم فليست كذلك. فكما صرَّح هاوسهوفر: «أقابل الفشل في أغلب محاولاتي، لكن غالبًا ما تكون هذه الإخفاقات خفية، في حين تكون النجاحات ظاهرة. وقد لاحظت أن هذا أحيانًا يُعطي الناس انطباعًا بأنني موفَّق في أغلب أموري … هذه السيرة الذاتية للإخفاقات محاولةٌ لخلق توازنٍ وإطْلاع الناس على الأمر من منظور آخر.»
بوسعنا جميعًا أن نجد سعادةً أكبر بأن نظلَّ متذكِّرين أن ما يُبديه الناس أمام الآخرين لا يخبر أبدًا بالقصة الحقيقية لما يمرُّون به. وكما تقول الكاتبة آن لاموت: «لا تُحاول أن تقارن بين بواطنك وظواهر الناس.»
اضف تعليق