q
البحث في الفصام الشيزوفرينيا مسألة زلقِة لأنه مشكلة يكتنفها الكثير من الغموض. فما يزال الباحثون لا يعرفون الى الآن ما اذا كان الفصام اضطراباً واحداً مفرداً او مجموعة من الاضطرابات، فضلاً عن ان اعراضه كثيرة ومتنوعة، ولا تظهر جميعها في مريض واحد بعينه...

البحث في الفصام (الشيزوفرينيا) مسألة زلقِة لأنه مشكلة يكتنفها الكثير من الغموض. فما يزال الباحثون لا يعرفون الى الآن ما اذا كان الفصام اضطراباً واحداً مفرداً او مجموعة من الاضطرابات، فضلاً عن ان اعراضه كثيرة ومتنوعة، ولا تظهر جميعها في مريض واحد بعينه.

والمشكلة التي رافقت اضطراب الفصام تتعلق بعدم الاتفاق على التشخيص. ففي الدراسات التي اجريت في ستينيات القرن الماضي كانت نسبة الآتفاق بين الاختصاصيين في التشخيص العام للفصام بين 53% الى 74% وينخفض الى 35% و 50% اذا تعلق الأمر بتحديد أصنافه الفرعية (Subcategory).وبالرغم من ذلك فهناك آتفاق على (جوهر Core) اعراض هذا الاضطراب، اذ تفيد الادلة الحديثة بان الفصام يحدث في العالم كله بنسب متقاربة تقريباً وان التباينات عبر الحضاريه راجعة اساساً الى الاختلافات في اساليب التشخيص.

ولأنه لا توجد اختبارات تجريبية للفصام، فأن الاتفاق على التشخيص يبقى مسألة بعيدة المنال لأن المعايير التشخيصية متباينة من بلد الى اخر لاسيما أمريكا وبريطانيا. والمشكلة الاكثر خطورة تكمن في عدم الاتفاق على الاسباب المرضيه للفصام، فالجدل ما يزال محتدماً بخصوص السبب والنتيجة. فهل الانسحاب الاجتماعي،في سبيل المثال، هو السبب الاساس في حدوث الفصام، كما يرى بعض المنظرين، ام ان انسحاب الفصاميين ناجم عن اضطرابات في التفكير تجعل من الصعوبة عليهم التواصل مع الاخرين؟. وهل الاوهام هي العَرض الرئيس ام انها مجرد اسلوب او طريقة يعتمدها الفصامي في تفسير التشوش والاختلاطات الفكرية؟

إن الاجراء العلمي الشائع في تحديد التأثير او النتيجة effect هو اعتماد تصميم المجموعات العشوائية بتحديد مجموعتين عشوائيتين من المفحوصين، احداهما تجريبية يتم تعريضها الى ظرف تجريبي، والاخرى ضابطة لا تتعرض له.. ثم تقارن النتائج لتحديد الاثر effect الذي احدثه الظرف التجريبي.وليس بالمستطاع بطبيعة الحال، اختيار مجموعة من الناس ليكونوا فصاميين. كما لا يمكن تعريضهم الى ظروف تجريبية لاحداث الفصام فيهم. وهذا يعني ان البديل الوحيد المتوافر امام الباحثين هو مقارنة مجموعات من الناس المصابين بالفصام فعلاً مع مجموعات من الافراد العاديين او الاسوياء، بغض النظر عن متغيرات كثيرة من قبيل الخلفية الاجتماعية الاقتصادية والتحصيل الدراسي وما الى ذلك. وواضح ان هذه الطريقة تثير مشكلتين في صعوبة التحديد الواضح في ايهما السبب وايهما النتيجة في هذه العلاقة.

ومع اننا لا نعرف ما اذا كانت هناك علاقة سببية بين متغيرين ارتباطيين، فأن هناك احتمالاً اخر من ان كلا المتغيرين هما نتيجة سبب اخر غير محدّد، يمكن ان نطلق عليه ؛ المتغير الثالث. فأذا افترضنا أن المستوى الاجتماعي الاقتصادي الواطىء والفصام أحدهما سبب والآخر نتيجة، فأن الارتباط القائم بين سوء التكيف النفسي والفصام قد لا تجمع بينهما علاقة سببيه واضحة، لاحتمال أن يكون كلا العاملين ناتجين عن ضغوط نفسية او خلل بايولوجي.

وهنالك ثلاث مدارس فكرية اساسية تناولت الاسباب المرضية etiology للفصام.فشيخ النفسانيين(فرويد) الذي يترأس مدرسة التحليل النفسي،يفسرالفصام بانه نكوص مدفوع بقلق نفسي يستحوذ على صاحبه فينكص الى المرحلة الفموية المبكرة التي ينعدم فيها ( الأنا) الذي يتوسط بين الذات والواقع،وبانعدامه يفتقد الشخص الوسيط بينه وبين واقعه وينقطع الاتصال به..فيوصف بأنه مصاب بالشيزوفرينيا.فيما يرى فرويدي جديد (سوليفان) أن سبب قلق الفصامي هو ليس دوافع (الهو) وانما راجع الى ما اصاب علاقة الطفل بأمه من ضرر او أذى. وان الفصام عملية انسحاب تدريجي من الناس الاخرين تبدأ من الطفولة المبكرة، يكون فيها التفاعل مصحوبا بالقلق والعداء بين الطفل ووالديه. وبسبب عدم وجود علاقة مودّة بينه والاخرين، فأنه يهرب الى عالم خاص به من الخيالات يضعه في دائرة مغلقة. فكلما زاد انسحاب الطفل كلما قلت فرصته في تأسيس علاقات وثيقة بالاخرين قائمة على الثقة وتطوير المهارات الضرورية للأتصال بالواقع، مما يقود بالتالي الى المزيد من القلق. وعندما يستمر الطفل في هذه الدائرة فأنه يواجه في مرحلة الرشد المبكرة اوضاعاً جديدة من المتطلبات الاجتماعية المتمثلة بالعمل والزواج وما الى ذلك. ويصبح الفرد مغموراً بالقلق في مواجهة هذه التحديات، فينتهي به الامر الى الانسحاب التام، وتتعطل لديه كل امكاناته العقلية المتعلقة بالاتصال والادراك والتفكير المنطقي، التي تشكل جسور الاتصال بالاخرين والواقع الخارجي..وهذه المرحلة الاخيرة من الانسحاب التام هي ما نسميه بالفصام الناجم اساساً من التراكم التدريجي للانفصال عن العلاقات الانسانية.

ويطرح باحثون آخرون مسألة اخرى يطلقون عليها (الاتصال المزدوج القيد او الرابطة Douple- Bind Comunictation يرون فيها انها تشكل سبباً قوياً في نشوء الفصام. ففي هذا الموقف المزدوج القيد تصدر الامُ الى طفلها رسائل او طلبات متناقضة تتضمن قبول الطفل والعطف عليه المصحوبين بالرفض له أيضاً. ولا تسمح له في الوقت نفسه ان يعبّر عن رأيه ومشاعره بخصوص هذا التناقض. ويمثل نمط الام هذا حالة من الاتصال المزدوج القيد اذ تجد نفسها قريبة من طفلها الذي لا يطاق،ولا تطيق الاعتراف الى نفسها بخطأ هذه الطريقة من الاتصال مع طفلها فتدفع به بعيداً عنها، وعندما ينسحب عنها تتهمه بانه لا يحبها.

ويرى علماء النفس السلوكيون أن الناس يواجهون درجات متباينة من الاثارة النفسية والاضطرابات الفكرية والمعلومات المتدفقة بغزارة،لكنها تتباين في حدتها،وان نوع التعزيزات المادية والنفسية وانقطاعها أو تذبذبها،ومدى كفاءة الفرد في مواجهة الضغوط البيئية او ضعفه وعجزه،تؤثر في مسار الشيزوفرينا وتطورها. فالشخص الذي يكون مهدداً باعراض الفصام هو ذلك الذي تنخفض كفاءته في التصرف بفاعلية في عدد من الميادين الحياتية المهمة.وهم ينظرون الى الفصام على انه سلوك متعلَّم يتضمن مشكلات انتباهية. فالفصاميون هم، ببساطة، اولئك الافراد الذين لم يتعلموا كيف يستجيبون من خلال التعزيز الى التنبيهات الاجتماعية بنفس الطريقة التي تستجيب غالبيتنا لها، بسبب حياتهم الاسرية المضطربة او اية اسباب بيئية اخرى. او انهم ربما كانوا قد تعرضوا الى نماذج تستجيب للتنبيهات الاجتماعية بطريقة تختلف عن استجابات غالبية الناس، فتعلموا ذلك منهم. ونتيجة لذلك فأنهم يميلون الى ان يصبحوا موضوعات لأفعال انضباطية صارمة ورفض اجتماعي تؤدي بالتالي الى مشاعر اضافية من الاغتراب Alination واعتقاد يتولد لديهم بأنهم اصبحوا (خارج) الجماعة، وعندها يصبح سلوكهم اكثر شذوذاً وغرابة. وعندما يكافئون او تتعزز لديهم هذه الاستجابات الغريبة، من خلال الانتباه اليهم والتعاطف معهم وتحريرهم من المسؤولية، وهذا ما يحصل عادة، فأن استجاباتهم الشاذة هذه تميل الى ان تصبح تعوديه (Habitual).

واذا كانت وجهة نظر علماء النفس السلوكيين تتلخص بأن الفصام ناجم عن توقف تعزيزات مادية او معنوية،وتعلم مهارات اجتماعية خاطئة وتصرفات سخيفة أو شاذة،فان لعلماء النفس الوجوديين وجهة نظر تبدو غريبة..اذ ترى ان الفصام ماهو إلا إستراتيجية سلوكية يتخذها الفرد المصاب به كوسيلة للهرب من واقع لا يمكن العيش فيه لاسيما الضغوط النفسية الحادة التي افرزتها الحضارة،في واقع يبدو فيه الجميع وكأنهم في حفلة تنكرية يخفون فيها ذواتهم الحقيقية. ولأنهم لا يطيقون لبس هذاالقناع التنكري (اي الذات المزيفة) فأنهم يسعون الى اعادة ذاتهم الحقيقية. وعلى هذا فأن الفصام ليس حالة من الجنون، بقدر ما هي رحلة فوق العقلانية (Hypersanity) من واقع مجنون الى واقع آخر في البحث الوجودي عن الهوية الأصليه!

ومنذ عام 1966 طرح شيف Scheff افتراضاً مفاده ان الفصام ماهو الا دور اجتماعي تم تعلمه ً Learned social role. وقد عرف هذا الموقف ايضاً بنظرية الدلالة او العنونه أو النعت (Labeling Theory). وهو موقف لا يهتم اساساً بالاسباب المرضيه للاضطراب، ويقف بالضد من الافتراضات التي يطرحها العلاج النفسي التقليدي بشأن الفصام. واطلق على هذا الموقف ايضاً : الحركة المضاده للعلاج النفسي antipsychiatric movment، ضمَّ مجموعة من المنظرين بينهم ساز szasz الذي جادل بقوله إن ما يصفه الناس بحالة الجنون او انعدام العقل (insanity) هو ببساطه، اسم او صفة او عنوان فبركه المجتمع بغرض تبرير استغلاله لذلك الشخص الذي يضفي عليه تلك الصفه او العنوان او الدلاله. وطبقاً لهؤلاء المنظرين فأنهم يصفون المعالجين النفسانيين بأنهم ليسوا اكثر من مجموعة صغيره من جهاز الشرطه في المجتمع، يفرضون بالقوة الاذعان للمعايير الاجتماعيه، ويحجزون في المستشفيات العقليه اولئك الافراد الذين يخرجون على تقاليد المجتمع ومعاييره.

والواقع،ان المنظور الانساني- الوجودي قدم خدمة كبيرة للصحه العقليه بأصراره على صدق خبرة الفرد، سواء كانت فصامية ام غيرها، وبتساؤلاته التي طرحها بشأن دور المجتمع في وصم الافراد المضطربين عقلياً بوصمة (الفصام)، فيحولهم الى (منبوذين) ويدفعهم للتصرف باساليب شاذه او غريبه عن الاساليب التقليديه.

ولمنظور علم الأعصاب منطق آخر مختلف تماما،اذ يرى أن الفصام ناتج من شذوذ عضوي منقول وراثيا.ومع ان فكرة الفصام حالة منقولة من الوالد الى الطفل تعود الى القرن الثامن عشر،الا ان شيوع نظريات الامينات الحيوية (Piogenic) في اواخر القرن التاسع عشر قادت الى وضع افتراضات جينية وراثيه طرحها اطباء مشهورون متخصصون بدراسة الفصام، ولكن لم يكن بالمستطاع التحقق من هذه الافتراضات إلا بعد مرور ربع قرن اخر، حين قام باحثون باجراء دراسات مصممه بشكل جيد للتحقق علمياً من صحة هذه الافتراضات،توصلت الى نتائج مقنعة وثابته، لدرجة ان احد الاختصاصيين في هذا الميدان اشار بوضوح الى ان (موضوع الفصام يجب ان يغلق الان، فلقد تأكد ان العوامل الجينية الوارثية تسهم بشكل واضح في نشوء مرض الفصام وتطوره) (Rosenthal، 1970).

وحديثا نسبيا،استطاع الباحثون تطوير جهاز يعمل بالحاسوب (الكومبيوتر) يمكنهم من التقاط صور شعاعيه دقيقه للدماغ فوجدوا ان الافراد المصابين بالفصام المزمن لديهم تجاويف دماغية واسعه في المساحات التي تحتوي على السائل المخي الشوكي، وان هذه السعة لها علاقة ارتباطيه بالضعف المعرفي والاستجابة الضعيفة للعلاج الدوائي وضعف التكيف.

غير أن النظرية الكيمياوية الحيوية، التي جذبت انتباه الباحثين في السنوات الاخيرة، قدمت فرضية (الدوبامين Dopamine) الذي يقوم بنقل الحوافز العصبية في الجهاز الحافي للدماغ. وفحوى هذه الفرضية ان الفصام مرتبط Associated بالافراط او زيادة نشاط تلك الاجزاء من الدماغ التي تستعمل الدوبامين كناقل للحوافز العصبيه في الجهاز الحافي للدماغ. ويأتي الدليل على هذه الفرضية من البحوث التي استعملت عقارات: الفينوثيازين Phenothiazinas، وبيترو فينونيز Butyrophanones، التي اثبتت فاعليتها الدرامية في السيطرة على اعراض الفصام.ولأن هذه العقارات قد فعلت فعلها في الاعراض الاساسية للفصام، فأن الباحثين شعروا ان النشاط الكيماوي يوفر دليلاً على النشاطات الكيماوية المؤثرة في الفصام لأن هذه العقارات تعمل على خفض نشاط تلك الاجزاء من الدماغ التي تستعمل الدوبامين في نقل الرسائل العصبية.

ويخلص المقيّمون لنتائج هذه الدراسات التي كثرت في السنوات الاخيرة، الى ان التفسير البيولوجي للفصام هو حالة معقدة جداً،وانها ربما تتضمن مزيجاً Combination من عدم التوازن الكيماوي- الحيوي- ومزيجات اخرى مختلفة باختلاف انواع الفصام ومراحل تطورها.

ونتيجة انشغال صنف من الباحثين في توكيد دور البيئة في إحداث الفصام، وانشغال صنف اخر منهم في تؤكيد الوارثة في نشوء الفصام، فقد أدى هذا الحال الى ان يتبنى معظم الباحثين في الفصام ما اطلق عليه نموذج الاستعداد- الضغط، (Diathesis- Stress Model). ويقصد بالاستعداد تلك الحالة في بنية الجسم التي تهيؤه للاصابة بالفصام. غير ان هذه الاستعدادات الوراثية يجب ان تكون مصحوبة بضغوط بيئية لكي يتطور الاضطراب. وبينما تبدو طبيعة الاستعداد او التهيؤ، قابلة للتحديد والتحقق منها، فأن طبيعة الضغوط البيئية لا تبدو كذلك. إذ كيف يمكن لطفل يحمل استعداداً وراثيا ويعامل منذ ولادته بالرفض المتكرر من قبل والديه ويعيش في فقر دائم وضغوط بيئيه اخرى، ان نعزو اصابته بالفصام الى استعداداته الوراثية او الضغوط البيئية. ومع أن الأصابة بالفصام يمكن ان تحدث بطرائق مختلفة : المورّثات، الامراض الجسيمة، وعمليات النضج، الا ان الاصابة الفعلية بالفصام وظهور اعراضها للأخرين، تتوقف على الضغوط التي يواجهها الفرد ومهاراته في التعامل معها.

وعلى الرغم من ان هذه التفسيرات جذبت اليها اراء الناس العاديين وساعدت على اصلاح (الخصومه) بين انصار الوارثة والمؤيدين للبيئة بخصوص اسباب الفصام، فأن نموذج (الاستعداد- الضغوط) يبقى في الواقع نموذجاً وليس جوابا ً، ويترك بالتالي الكثير من المعضلات دون حل. فهو لايقدم الاجابة عن تساؤلات من قبيل : ماهي طبيعة الاستعداد او التهيؤ؟ وما هو ذلك الضعف او العجز المورث بايولوجيا ؟ وما هي الضغوط الاكثر احتمالاً التي تقلب او تحول هذا الاستعداد الى فصام فعلي ؟ وهل الفصاميون مروا فعلاً في تاريخهم السلوكي بضغوط اشد من الاخرين؟. فقد تبين من الدراسات ان المشاكل التي يواجهها معظم الناس بقلق معتدل، تثير لدى الفصاميين قلقاً اكبر. وأن العالم، بالنسبة للفصاميين المزمنين،يشكّل مصدراً للاضطراب والاهتياج العظيم.. فكل شي فيه يمثل مطلبا او حملاً لا يطاق يفرضه المجتمع او يضعه عليهم..وان العالم بالنسبة لهم مصدر قلق لأنه مليء دائماً بالتوقعات المحبطه.

أن الادبيات الصادرة بعد عام 2000 ما تزال تعزو أسباب الفصام الى مصادر متعددة، وعلى وفق تفسيرات نظرية متباينة. فالنظريات البيولوجية تركز في : الجينات، والشذوذ في تركيبة الدماغ، سواء فيما يخص تجاويفه أو مواده البيوكماوية، و الناقلات العصبية. وتشير الى وجود أدلة تفيد بان بعض المصابين يالفصام تعرضوا الى مشكلات ولادية مثل : نقص الأوكسجين في أثناء الولادة، أو اصاية ألام بالأنفلونزا خلال الحمل.

وبينما تعزو النظريات النفسية الدينامية أسباب الفصام الى أساليب التنشئة القاسية من ( أم فصامية ) فأن النظريات السلوكية ترجع أسبابه الى الاشراط الاجرائي، فيما تعزوه النظريات المعرفية الى أن بعض أعراض الفصام ما هي إلا محاولات يقوم بها الفصامي لفهم التشوش أو الاضطراب الادراكي والسيطرة عليه.

وحديثا لفت المنظور الاجتماعي الحضاري sociocultural الأنتباه الى أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ( مثل : الطبقة الاجتماعية، الدخل، النظام الاجتماعي،داخل الجماعة،خارج الجماعة...) يمكن أن تشكل ضغوطا تقدح زناد أعراض الفصام لدى الأفراد الذين يتصفون بسهولة الانجراح وسرعة التأثر.

وانطلاقا من هذا المنظور،واستنادا الى علم النفس التطوري،الذي يفسّر السلوك الاجتماعي بدلالة عوامل جينية يتم انتقالها طبقا لمبدأ الانتقاء الطبيعي (الدارويني)،قدّم طبيبان نفسيان عراقيان مقيمان في بريطانيا (رياض عبد ومحمد جمعه عباس) نظرية حديثة (ربيع 2011) بعنوان (العقل الاجتماعي في الشيزوفرينيا) تطرح موقفا مضادا للموقف التقليدي الذي يعزو سبب الشيزوفرينيا الى الجينات الوراثية،يؤكدان فيها أن العوامل الاجتماعية تلعب دورا رئيسا في الأصابة بالفصام مدعومة بأدلة كبيرة حسمت الجدل،وأن البيئة التي تتوافر فيها العناصر المسببة للفصام تؤدي الى أن يصاب بها الأفراد الذين يتصفون بسهولة الانجراح وسرعة العطب.

ان هذا التحول المدهش في موقف الأطباء النفسيين الذين يصرون على أن الفصام مرض وراثي،ويسفهون من يعزو امكانية حدوثها الى أسباب اجتماعية وحضارية وثقافية،حالة ايجابية ليس فقط في التقريب بين الأطباء النفسيين وعلماء النفس،بل وفي فهم جديد وأشمل لأخطر الأمراض العقلية واكثرها شيوعا..التي ستزداد أكثر بتعقد الحضارة وتنوع منغصاتها.

..........................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق