كلنا تواجهنا الحياة بضغوطها، غير أننا نختلف في أساليب استجاباتنا لهذه الضغوط. فهنالك من لا يكترث لها وكأنه محصّن ضدها، وهناك من تعكّر الضغوط مزاجه، وهناك من ينهار تحت شدتها وقسوتها، فيفقد عقله، فيما هناك الكثير من الناس العاديين الذين يستجيبون لحالات الإجهاد والضغط النفسي....
كلنا تواجهنا الحياة بضغوطها، غير أننا نختلف في أساليب استجاباتنا لهذه الضغوط. فهنالك من لا يكترث لها وكأنه "محصّن" ضدها، وهناك من تعكّر الضغوط مزاجه، وهناك من ينهار تحت شدتها وقسوتها، فيفقد عقله، فيما هناك الكثير من الناس العاديين (Normal) الذين يستجيبون لحالات الإجهاد والضغط النفسي بأساليب تشبه السلوك الهوسي.
وعندما تأخذ هذه الأساليب صيغة الاستجابات السلوكية التي لا يمكن السيطرة عليها، وتتسم بالتطرف والديمومة، عندها يصطلح على تسميتها طبياً بـ " الهوس Mania "، حيث يتسم الأفراد المصابون به بالحساسية العالية وكثرة الكلام والنشاط الذي لا ينتهي. فيجدون المتعة الكبيرة في أشياء ما كانت أبدا تثيرهم في السابق، وما كانوا قد وجدوا فيها أية متعة. وينشغلون بشكل كبير بنشاطات متنوعة وبأشخاص متعددين.
وتصبح صورة الذات لديهم (Self-Image) متضخمة أو منتفخة بشكل كبير، فيتجاهلون حدودهم ويأخذون بحب ذواتهم والإعجاب بها من دون تحفظ. وهم يعتقدون أن باستطاعتهم عمل أي شيء، وغالباً ما يفعلون أشياء طائشة أو متهورة. فضلاً عن ذلك فهم غالباً ما يكونون مزعجين للآخرين، وبخاصة أولئك الذين يحاولون تقديم النصح لهم.
وبالمثل، فانه ما من أحد منا ما كان قد مر بخبرة الكآبة في حياته اليومية. ومعظم الناس يفيدون بأنهم قد مرت بهم أحداث حياتية قاسية أو صعبة، وان خبراتهم بها كانت مشابهة لما يذكره الأفراد المشخصون طبياً على انهم مكتئبون، من قبيل: اضطرابات النوم، فقدان الشهية، انخفاض الدافع الجنسي... والأكثر منها : مشاعر الحزن، والذنب، واللاجدوى. وفي الواقع، فأن أعراض الكآبة المشخصة طبياً قد لا تختلف من حيث النوع عن تلك التي تظهر على المكتئبين " العاديين Normal ". غير أنها تختلف بالتأكيد من حيث درجة حدتها. فخبرة الإحساس باليأس في حالة الكآبة الحادة تكون غريبة على غير المصاب بها. فالشخص المصاب بكآبة حادة تنطفئ فيه الومضات المتبقية من الأمل. وتغلق أمامه مصادر المتعة والسرور، وقد تنتهي الى الاقتناع بأنه ما من سبب يدعوه لأن يستمر بالحياة.
وهناك عرض آخر قد تتصف به الحالات الحادة من الهوس والكآبة، وعندها تفرز هذه الحالات عن المزاج " العادي " ذلك هو الأوهام والهلوسات. وتعني الأوهام، المعتقدات الكاذبة، فيما تعني الهلاوس الادراكات الحسية الكاذبة. وغالباً ما تكون أوهام الشخص المصاب بالهوس تدور حول نفسه، وكم هو إنسان " رائع "، وانه سيحل مشاكل العالم الاقتصادية، وان جائزة نوبل بانتظاره وهو في طريقه إليها، كما تصور له أوهامه ذلك. بل قد يقول لك بأنه صاحب ملايين، وسيعطيك واحداً من ملاينه، أو يشتري لك طائرة، تنقلك وأصدقاءك ومن تحب الى اجمل بقعة في العالم تتمناها.
أما على الجانب المضاد من هذه الحالة، فهناك المصاب بالهلاوس الاكتئابية، الذي ربما سيقول لك بأنه مضطهد ويشعر بالتبرم بسبب خطاياه وآثامه، وانه مصاب بالسرطان أو مرض خطير آخر، أو انه مقتنع بان العالم سينتهي الى خراب.
غير أن الخاصية المميزة للاضطرابات الوجدانية الحادة هي نوعية حدوثها. ففي أسابيع قليلة، واحياناً في أيام معدودة، يتحول الفرد الذي كان يتصرف بالأمس بشكل عادي، الى حالة أخرى من اليأس والقنوط، أو قد يصل الى أقصى حالات الهوس. وقد يحصل أن يعود الفرد الى حالته الطبيعية، أو القريبة من الطبيعية.
الخصائص العامة للهوس
تتصف حادثة الهوس بمدة مميزة من سيطرة السلوك الهوسي بالخصائص التي أشرنا في أعلاه. وقد تبدأ حادثة الهوس بصورتها النموذجية فجأة وفي خلال أيام قليلة. وقد تستمر لعدة أيام أو لعدة اشهر. وقد تنتهي بشكل غير متوقع كما بدأت.
وسنعتمد هنا في تحديد خصائص الهوس البارزة على التصنيف الطبي النفسي الأمريكي، الذي وصفها بالآتي:
1. مزاج مرتفع، صريح، نزق، سريع الانفعال او التهيج:
إن تغير المزاج هو الخاصية " التشخيصية " الجوهرية في حادثة الهوس. ويشعر الأشخاص الذين يشكلون حالات نموذجية في الهوس أن العالم مكان مدهش، وانهم أشخاص رائعون. ويملكون حماسة لا حدود لها بخصوص ما يفعلون او في التخطيط لما يفعلون. وهذا الشعور غير المتحفظ المتسم بوهم العظمة او الدال عليه يمتزج في العادة بالتهيج او سرعة الانفعال. وعندما يكونون في أعلى حالات الغبطة والزهو فأنهم ينظرون الى الآخرين على انهم بطيئون او متوانون، ومفسدون للمتعة. وهم قد يصبحون عدائيين تماماً، وبخاصة عندما يحاول أحد ما التدخل بسلوكهم. وفي بعض الحالات قد تكون سرعة الانفعال او التهيج هو المزاج المسيطر على الهوسي، مع الشعور بالغبطة والزهو سواء بشكل متقطع او من دونه.
2. الحساسية العالية:
قد يصاحب المزاج العالي والصريح نشاط متزايد سواء كان جسمياً او اجتماعياً او مهنياً، واحياناً جنسياً.
3. كثرة الكلام وسرعته:
يميل الهوسيّون الى الكلام بصوت عالٍ، وسريع، وبصورة مطرّدة، وغالباً ما تمتلئ أحاديثهم بالتورية او التلاعب بالألفاظ، وبالتفاصيل غير المترابطة، والنكت التي لا تضحك سواهم.
4. تطاير الأفكار:
غالباً ما يمتلك الهوسيّون أفكارا تتطاير بسرعة وتتسابق فيما بينها. وهذا أحد الأسباب الذي يفسر سرعة الكلام لديهم، لكي يتواصلوا بغير انقطاع مع تدفق الأفكار لديهم. كما يميل كلام الهوسي الى الانتقال بشكل مفاجئ من موضوع الى آخر.
5. التضخم في تقدير الذات:
يميل المصابون بالهوس الى أن ينظروا الى ذواتهم بإعجاب متطرف، وبأنهم أناس مهمون، وممتلئون قوة، وقادرون على تحقيق إنجازات عظيمة، في ميادين هم في الواقع لا يمتلكون أية موهبة فيها. وهكذا فانهم قد يبدءون بتأليف سيمفونيات موسيقية، أو روايات أو قصائد شعرية، او تصميم أسلحة نووية، او الاتصال بكبار المسؤولين في الدولة لنصحهم في كيفية إدارة أمور البلاد.
6. قلة النوم:
يتصف المصاب بالهوس بتناقص الحاجة الى النوم. فهو قد يكتفي بساعتين او ثلاث ساعات نوم في الليلة. ومع ذلك يمتلك من الطاقة ضعف ما يمتلكه الأشخاص الآخرون من حوله.
7. عدم الاستقرار على موضوع واحد:
ينصرف ذهن الهوسي بسهولة من موضوع الى آخر. فعندما يفعل شيئاً او يناقش موضوعاً معيناً مثلاً، ويرى شيئاً آخر من حوله، كأن يكون طيراً او مجلة، فانه يحول انتباهه فجأة الى هذا الشيء ويأخذ بالحديث عنه.
8. السلوك الطائش أو المتهور:
إن الشعور بالغبطة والزهو والصورة المتكلفة للذات، غالباً ما يقود المصاب بالهوس الى أفعال متوهجة وتصرفات طائشة، ما كان يقوم بها قبل استيلاء الهوس عليه، من قبيل سياقته لسيارته برعونة، وتبذير أمواله، وتصرفات جنسية حمقاء، وما الى ذلك. كما انه يصبح غير مكترث بحاجات الآخرين، ولا يهمه أن يصيح بأعلى صوته على عامل مطعم، او يطلب بالهاتف صديقاً له بعد منتصف الليل، او يصرف ما ادخرته العائلة لأيام الشدة.
الخصائص العامة للاكتئاب
إن السياق الذي تحدث فيه الكآبة الكبرى (Major) او الحادة يأخذ منحنى " هادئاً " بالمقارنة مع حالة الهوس. غير انه تحصل في بعض حالات الصدمة النفسية الحادة أن يقع الفرد بالكآبة في غضون ليلة واحدة. غير أن بداية الإصابة بالكآبة تكون في العادة تدريجية، تستمر لعدة أسابيع او اشهر. ولكن الحالات السائدة في الكآبة تستمر لفترة أطول من حالات الهوس، كما أنها تنتهي كما بدأت، بصورة تدريجية أيضا. وعندما يقع الفرد في شرنقة الكآبة تظهر عليه تغيرات ليس فقط فيما يخص مزاجه، إنما في وظائفه الجسمية والحركية أيضا. وفيما يأتي خصائص الكآبة الرئيسة (Major).
1. المزاج المكتئب:
يعد المزاج المكتئب الصفة الضرورية اللازمة لتشخيص حالة الكآبة الكبرى. فمعظم الراشدين المصابين بها أفادوا بأحاسيسهم بالحزن وفقدان السعادة، والشعور بالنكد الذي يصل الى حالة الإحساس بالعجز التام، إذ يصف الفرد نفسه بأنه يشعر بالضجر والسأم واليأس والعزلة النفسية.
أما الفرد المصاب بكآبة معتدلة (صغرى)، فأنه غالباً ما تنتابه حالة البكاء التي يستسلم لها، فيما لا يستطيع أن يبكي الفرد المصاب بـكـآبة حـادة رغـم رغبته في البكاء، فيما يرى الشخص الذي وقع في أعماق الكآبة الحادة بأن حالته ميؤوس منها وبالتالي فأنه يكون غير قادر على مساعدة نفسه، ولا بإمكان أحد آخر أن يساعده. ويطلق على هذا النوع من التفكير " العجز - اليأس.
2. اضطراب الشهية:
معظم المكتئبين يعانون من ضعف الشهية ونقص الوزن، غير أن بعضاً منهم، وبخاصة أولئك الذين كانوا قد اتبعوا نظاماً غذائياً (ريجيم) يميلون الى أن يأكلوا أكثر فيزداد وزنهم.
3. اضطراب النوم:
يعد الأرق الصفة العامة البارزة في الاكتئاب. وأكثر حالاته شيوعاً هي الاستيقاظ من النوم بعد مدة قصيرة، وعدم القدرة على العودة لمواصلته. أما الحالات الأخرى فهي عدم قدرة المكتئب على النوم عندما يضع رأسه على الوسادة، او الاستيقاظ عدة مرات في الليلة الواحدة.
وكما تحصل في اضطراب الشهية، فأن بعض المكتئبين ينامون لمدد طويلة قد تصل الى خمس عشرة ساعة في اليوم أو أكثر.
4. البطء النفسي الحركي أو الإثارة:
يمكنك أن " تقرأ " الكآبة في شخص صاحبها من سلوكه الحركي وتحمله البدني. وأكثر أنواعها شيوعاً ما يطلق عليه " الكآبة المعوّقة Retarded Depression "، إذ يبدو على المريض تعب ثقيل وشامل، يمنعه عن القيام بأفعال نشطة أو تلقائية كما يفعل الناس العاديون.
ويمكنك أن " تقرأ " الشخص ما إذا كان مكتئباً عندما : يكون جسمه في وضعية منحنية (يكوّر رأسه على جسمه)، وحركاته بطيئة، وتحديقاته في أقل حالاتها، وكلامه بطيئاً ومتلعثماً، وتوقفات طويلة قبل الإجابة عن سؤال أو استفسار. وفي حالات الكآبة الحادة، يكون حال المصاب بها مثل حال الأصم الأبكم.
غير انه تظهر في حالات نادرة أعراض بالضد من هذه تماماً، يطلق عليها " الكآبة الهيجانية Agitated Depression " تتصف بالنشاط المتواصل وعدم الراحة من قبيل : عصر اليد أو لويها، ذرع المكان جيئة وذهوباً، التململ المصحوب بحركات عصبية، الشكوى، والنواح والعويل.
5. فقدان المتعة أو الميل الى النشاطات العادية:
يصاحب الكآبة في الغالب نقصان في الدافعية، سواء في مجال العمل أو رعاية الأطفال... وحتى المناقشة مع الأصدقاء. كما ينخفض وبشكل واضح وكبير الدافع نحو الجنس. أما بداية انخفاض الدافعية بشكل عام فقد تأخذ شكل الحالة الآتية لسيدة أصيبت بالكآبة، حيث وصفت حالتها تقول:
"بدأت غير قادرة على عمل أشياء كنت أعملها ببساطة. مثل الطبخ، وغسل الملابس، والعناية بالأطفال... وهناك شيء آخر أخافني جداً ذلك هو عدم قدرتي على القراءة. كما إنني أخذت أستيقظ مبكراً قبل المعتاد. وفي بعض الأوقات، أنطرح في فراشي لساعتين أو أكثر محاولة أن أكون قادرة على النهوض، لأنني لم استطع حتى أن أضع قدمي على الأرض. وعندما استطيع ذلك وانهض أشعر تماماً بأنني غير قادرة على ارتداء ملابسي... ومهما تكون الخطوة التي تكون بعدها، فأنا أشعر غير قادرة عليها.
إن بداية انخفاض الدافعية تُظهر في النشاطات المتعلقة بالمسؤوليات الاجتماعية، واللجوء الى البقاء في الفراش لمدة أطول أو مشاهدة التلفاز، أو قراءة الصحف والمجلات والاستمرار عليها حتى لو كانت مثل هذه الاستجابات الأنسحابية تميل لأن تصبح غير مجدية. وقد يمر المرضى المصابون بكآبة حادة بخبرة " شلل الإرادة "، أي عدم القدرة على تحريك أنفسهم أو عمل أي شيء، كما في حالة المرأة التي ذكرناها قبل قليل.
6. فقدان الطاقة:
يصاحب انخفاض الدافعية في العادة انخفاض حاد في مستوى الطاقة. فالمريض المكتئب قد يشعر بأنه منهك طوال الوقت بالرغم من أنه لم يفعل شيئاً.
7. الشعور بعدم القيمة (التفاهة) والذنب:
يشعر المكتئبون بالفزع ليس فقط من الحياة، بل ومن أنفسهم أيضاً. وهم يعدّون أنفسهم ضعيفين أو عاجزين مهما نسب إليهم من خصائص ذات قيمة من قبيل، الذكاء، الصحة، الجاذبية الجسمية، والمهارة الاجتماعية. كما أن شكواهم المتكررة بخصوص فقدانهم للحب أو النقود أو المكانة الاجتماعية، قد يعكس إحساسهم بعدم كفاءتهم الشخصية. وغالباً ما يصاحب هذه المشاعر انعدام القيمة أو الإحساس بالتفاهة، وشعور حاد بالذنب. فالمكتئبون يبالغون في الحديث عن ما أصابهم من فشل في الماضي أو الحاضر، ويظلون يدققون في البيئة بحثاً عن دليل للمشكلات التي خلقوها لأنفسهم.
8. صعوبة التفكير:
كما هي الحال مع العمليات الجسمية، فأن العمليات العقلية تنخفض عادة في الكآبة. وغالباً ما يذكر المكتئبون بأنهم يعانون من صعوبات في التفكير والتركيز والتذكر.
9. أفكار بخصوص الموت أو الانتحار:
تراود الكثير من المكتئبين أفكار بخصوص الموت أو الانتحار، وهذا أمر لا يثير الدهشة كثيراً بسبب حالتهم الانفعالية. فغالباً ما يقولون بأنهم (وأي واحد آخر) من الأفضل لهم لو كانوا ميتين. وفي الواقع فأن بعضاً منهم يصلون الى حالة مأزقية لا يجدون مخرجاً منها إلا بقتل النفس.. ويقتلونها!.
اضف تعليق