RAJ PERSAUD/PETER BRUGGEN
لندن ــ منذ تولى دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة قبل عام واحد، بدأت الشكوك حول ثباته الذهني وصحته العقلية تتصاعد على نحو مستمر. ومع إصدار كتاب مايكل وولف بعنوان "النار والغضب: داخل بيت ترمب الأبيض"، والذي يزعم مؤلفه أنه يقدم نظرة من وراء الكواليس إلى الإدارة المختلة التي يقودها الرئيس، يبدو أن هذه الشكوك اكتسبت قدرا متجددا من الأهمية والإلحاح. ولكن بعيدا عن الادعاء على موقع تويتر بأنه "عبقري مستقر للغاية"، ماذا يستطيع ترمب أن يفعل حقا لإثبات لياقته نفسيا للمنصب الذي يُعَد وفقا لبعض التعريفات المنصب الأعلى في العالَم؟
لا يوجد اختبار مادي واضح للمرض العقلي. فحتى إذا أُخضِع ترمب لمجموعة كاملة من اختبارات الدم وفحوصات الدماغ الدقيقة، فلن تثبت النتائج أي شيء في الأرجح. الواقع أن الغالبية العظمى من المصابين بالذهان تأتي نتائج فحصهم طبيعية. وعلى نحو مماثل، لا تعني نتائج الفحوصات غير الطبيعية ضعف القدرة العقلية بالضرورة: فبوسع أي شخص أن يحتفظ بذكائه، حتى بعد أن يفقد جزءا كبيرا من دماغه.
على سبيل المثال، أثبتت دراسة حديثة شملت 54 طفلا خضعوا لعملية استئصال نصف الدماغ لعلاج حالة من الصرع الشديد المستعصي أن جميعهم، باستثناء أربعة فقط، أظهروا نفس القدرة الفكرية، أو ربما حتى قدرة فكرية محسنة. وعلى هذا فإن رأس ترمب ربما يحتوي فعليا على نصف دماغ، لكن هذا يظل غير كاف لإثبات كونه مريضا عقليا.
يتمثل نهج آخر لتحديد مدى لياقة ترمب عقليا في فحصه من قِبَل فريق من الأطباء النفسيين، على أن يتبادلوا في ما بينهم النتائج التي توصل إليها كل منهم. ولكن مهما بلغ الأطباء النفسيون من نزاهة وعدم انحياز، فإن مثل هذه التقييمات تظل في نهاية المطاف غير موضوعية. فكما يستطيع أن يشهد أي قاض أو محام جنائي، في مقابل كل خبير نفسي يستعين به الدفاع في قضية قانونية، يستطيع الادعاء أن يقدم خبيرا آخر يسوق حججا عكس تلك التي يسوقها الأول.
ولنتأمل هنا قضية أندرس بريفيك، الذي قتل 77 شخصا في النرويج في عام 2011. في محاكمته، اختلف فريقان من الأطباء النفسيين المعينين من قِبَل المحكمة حول ما إذا كان المتهم مختل العقل. وإذا كان الأطباء النفسيون عاجزين عن الاتفاق على ما إذا كان مثل ذلك القاتل الجماعي مختلا العقل، فإي أمل قد يكون واردا في اتفاقهم بشأن ترمب؟
في كل الأحوال، يبدو أن ترمب ليس لديه مصلحة في الاستعانة بخبراء. وهو بدلا من ذلك يلاحق استراتيجية خاصة ــ وهي استراتيجية حمقاء من منظور الطب النفسي ــ لدحض التساؤلات حول سلامته العقلية.
يتلخص أحد دفاعات ترمب الجاهزة في أنه رجل شديد الذكاء ــ أو على حد تعبيره مؤخرا على موقع تويتر، "ذكي حقا". ولكن حتى لو كان هذا صحيحا فإنه لا يثبت أي شيء. ذلك أن العديد من أصحاب الذكاء الشديد يعانون من مرض عقلي.
الواقع أن بعض الدراسات أظهرت أن سكان البلدان التي تتسم بمعدل ذكاء أعلى يعانون من معدلات انتحار أعلى. كما أن معدلات الانتحار في جامعات مرموقة مثل جامعة أكسفورد وجامعة كمبريدج تتماشى مع متوسط معدلات الانتحار بين السكان في سن الدراسة الجامعية، مما يؤكد مرة أخرى أن كون المرء ذكيا ــ أو حتى ذكيا ومميزا ــ لا يحصنه ضد المرض العقلي.
يَدَّعي ترمب أيضا أنه ناجح للغاية وهذا ينفي عنه احتمال المرض العقلي. ولكن نجاح هاورد هيوز كمنتج سينمائي ومالك لشركة طيران جعله واحدا من أكثر الأميركيين ثراء خلال النصف الأول من القرن العشرين. كما سجل أيضا العديد من الأرقام القياسية للسرعة الجوية. لكنه كان يعاني رغم ذلك من اضطراب الوسواس القهري الشديد، ومات وهو يعاني من سوء تغذية شديد وربما إدمان المخدرات.
بالمثل، كان جون بول جيتي، رجل الصناعة الأميركي المولد وأغنى شخص في العالَم في زمنه، شحيحا مقترا إلى حد الهوس ومصابا بجنون العظمة، حتى أنه تفاوض على خفض مبلغ الفدية بعد اختطاف حفيده، حتى بعد أن أرسل له الخاطفون خصلة من شعر حفيده وإحدى أذنيه.
وتتمثل الوسيلة الدفاعية الرئيسية الثالثة لدى ترمب في تحويل الادعاءات حول مدى سلامته العقلية ضد متهميه ومعارضيه السياسيين. وهذا التكتيك ليس جديدا. ففي الاتحاد السوفييتي ــ وفي الصين اليوم، كما يزعم كثيرون ــ كان النظام يلجأ إلى إيداع المنشقين السياسيين في مرافق الرعاية النفسية لإفقادهم مصداقيتهم وتشويه سمعتهم. وقد انسحبت روسيا فعليا من الرابطة العالمية للطب النفسي طوال القسم الأعظم من ثمانينيات القرن العشرين لكي تتجنب طردها بسبب مثل هذه الممارسات.
كما أظهرت تجربة قادها ديفيد روزنهان من جامعة ستانفورد في السبعينيات فإن إزالة صفة المرض العقلي ربما تكون مهمة بالغة الصعوبة. في إحدى التجارب، افتعل بعض المتطوعين الأصحاء حالة من الهلوسة والهذيان، لكي يستكشفوا ما إذا كان النظام النفسي قادرا على تمييز المرض العقلي الحقيقي. وانتهت الحال بالمتطوعين إلى إيداعهم في مؤسسات الطب النفسي، حيث تصرفوا بشكل طبيعي ولم يُظهِروا أي أعراض للمرض. ولكن مع إلصاق صفة الذهان بملفاتهم بالفعل، أصبح أي تصرف يأتون به لإثبات سلامتهم العقلية يعتبر افتراضا أحد أعراض اختلالهم العقلي. وفي أفضل الأحوال، كان معالجوهم يعلنون أنهم "في حالة من سكون الأعراض".
تشير تجربة روزنهان إلى أن التساؤلات حول صحة ترمب العقلية قد لا تزول أبدا، مهما اتخذ من خطوات لتغيير رأي مهينيه. وحتى إذا توقف عن التبجح على موقع تويتر أو التحدث في جمل ملتوية وغير مترابطة، فسوف يُنظَر إليه في أفضل الأحوال على أنه يمر بحالة من سكون الأعراض.
قد يزعم أطباء النفس الحديثون أنهم استوعبوا الدروس من تجربة روزنهان، وأنهم حريصون الآن على إجراء التشخيصات بقدر أكبر من الحذر والصرامة. إلا أن الاستخدامات السياسية المغرضة غير المسؤولة للطب النفسي تظل غزيرة. على سبيل المثال، حاولت الحكومة البريطانية مؤخرا تعيين متخصصين في الصحة العقلية في هيئة الصحة الوطنية لتحديد الأشخاص الذين يشتبه في كونهم عُرضة للتطرف الإيديولوجي نفسيا.
في تجربة روزنهان الأصلية، كان الأشخاص الوحيدون الذين أدركوا عن يقين أن "المرضى المدعين" كانوا في حقيقة الأمر أصحاء عقليا هم زملاؤهم من النزلاء المرضى نفسيا. وبهذا المنطق، فربما تكون المشكلة أننا نطلب من الأشخاص الخاطئين تقييم سلامة ترمب العقلية. في كل الأحوال، إذا كان منتقدو ترمب يأملون حقا في إقصائه عن منصبه، فمن المؤكد أنهم في احتياج إلى ما هو أكثر من الطب النفسي النظري.
اضف تعليق