q

ترتبط الروح بالتاريخ عند هيغل، بل التاريخ كله هو تجليات للروح وتمثلات لها في دورة صناعتها للواقع. فالتاريخ لا يصنع الواقع استنتاجا عن هيغل، بل الروح هي الصانعة للواقع في تجلياتها التاريخية، واذا كان هيغل اراد ان يصورها بنسق كلي–وجودي يمنحها ذلك الطابع المثالي المغالي، فان ما يمكن فهمه من تعبيرات مشتقة من رؤى هيغلية وليست هيغلية بالصميم حول روح العصر وتأثيراته الممكنة في صناعة الواقع هي الاكثر اقناعا بالنسبة للعقل الحديث، هنا يتشكل التاريخ الحديث في اهم تميزاته في تحليل موضوعاته واحداثه بدراسة ظروف العصر وظواهره وتحولاته وإمكاناته، وهي التي تعني أو تكشف المعنى في روح العصر، بل تحولت عبارة "روح العصر" الى شبه مصطلح في أدبيات العالم الحديث.

واذا كان هيغل يؤكد أو يهتم بموضوعة التجلي للروح في فهم التطور نحو التجلي النهائي للروح والخلاص من معاناة الروح للاغتراب وهو هدف خيالي غير واضح الابعاد كان يرسمه هيغل، فان العقل الحديث يؤكد أو يستند الى جدل التغيير نحو التطور باتجاه غير محدد الاهداف أو مرسومة فيه الغايات بوضوح على مستوى تاريخ البشر العام.

لقد كنت اهداف التقدم والسعادة تعبر عن إمكانات وغايات الحداثة في أول نشأتها، لكنها تراجعت على أثر الازمات الحديثة والتي بلغت مستوى كارثي في بعض أزمات هذا العصر، فانتابت روح العصر عقدة الخوف والقلق في حيوزات التاريخ الحديث التي استهدفت الجغرافيا بكل معانيها السياسية والاقتصادية والطبيعية، فالجغرافيا السياسية للبلدان والجغرافيا الاقتصادية للشعوب والجغرافيا الطبيعية للبيئة الطبيعية صارت مهددة أمام التاريخ الرأسمالي الحديث الذي صار هو التعبير عن التاريخ البشري العام بحكم امتلاكه القوة والعلم.

لقد كان هيغل يستثني الجغرافيا من تجليات الروح بخلاف التاريخ، وبذلك فهي لا تدخل في صناعة الحدث أو تتدخل في ترميم أو ترتيب الواقع وفق هذا النسق الكلاني المثالي، لكنها من جهة أخرى تشكل مقطورة صامدة بوجه التاريخ وهي التي تسبب له ارباكا مستمرا وقلقا مستديما، لأنها غير خاضعة الى التجليات الهيغلية وغير مستهدفة في شروحات هيغل لحركة الروح لأنها لا روح لها، وهي الفكرة التي رسخها بقوة الفكر العلمي الغربي ونظر باستهزاء الى الارواحية التي كانت تتمثلها المجتمعات الي اطلق عليها البدائية، والتي كانت تنظم علاقتها بالطبيعة من خلال مفهوم الامومة والطوطمية، والتي ضمنت سلامة العلاقة بين الانسان والطبيعة–الجغرافيا ولم تتعرض الى اعتداءات الانسان لأنها كانت بمثابة اعتداء على الروح -الأم أو الآلهة.

لكن بعد إفراغ الطبيعة–الجغرافيا من الروح وتحولها في المفهوم العلمي الى الجماد المادي أصبحت مستهدفة بالاستغلال والملكية وهيمنة مفهوم المنفعة الاقتصادية في التعامل معها، وبذلك نشأ صراع وجودي بين التاريخ والجغرافيا مهد له الفهم الهيغلي للطبيعة والوجود، وهو ما يتضمن تشكلات الغرب وفق هيغل، واستثمره التاريخ الرأسمالي الحديث في حروبه المتتالية والمتنوعة ضد الطبيعة التي تشكل المفهوم البدئي والأولي للجغرافيا، وضد الدول، المفهوم المقنن- من القانون – للجغرافيا، وضد الهوية – المفهوم الثقافي للمجتمعات ضمن حدود الجغرافيا الخاصة بها وهي الاهم في خارطة حروب العولمة.

تعدد طبيعة وهوية حروب الرأسمالية الحديثة انما يعود الى هيمنة مفهوم القوة على تفكيرها وفلسفتها الذي وزعته على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية في منظومة علاقتها بالعالم، وهو مفهوم استلهمه الفكر الغربي من التاريخ لاسيما التاريخ التطوري للإنسان الذي تكفلت نظرية دارون بحيازته واستنتجت خلاصته في البقاء للأصلح الذي هو رأسماليا- اوربيا للأقوى وهو ثاني تشكلات الغرب لكنه هذه المرة وفق دارون.

ولقد كانت الحداثة تعبيرا اخر عن الانحياز الى التاريخ في تحولاته وفي تطوراته، فالنسبية كانت من اخطر واهم افرازات الحداثة الي سعت من خلالها الى تقويض المطلق، وقد تولد مفهوم الحركة الحديث على اثر مفهوم النسبية بعد ان كان مفهوم الثابت يستند الى مبدأ المطلق، وعلى اثرها تقوض مبدأ الحقيقة الذي يستند الى المطلق، وكان النقيض الجدلي هو الذي يقوض هذه الحقيقة وفق تفسيرات هيغل وماركس كل بحسب منظوره الفلسفي، وكان ذلك النقيض الجدلي يحرك التطور والتاريخ وينشا عنه التاريخ الحديث.

وتشكل النسبية ثالت تشكلات الوعي في الغرب، وقد عمل الغرب على توظيف نظرية أينشتاين في النسبية بهذا الاتجاه الذرائعي في تقويض جغرافيا الهويات والثقافات الجامعة للشعوب والمجتمعات من حول أوربا، وتفتيت الهويات ضمن جغرافياتها في عصر العولمة الذي تمت أدلجته باتجاه انبعاث الهويات وحقوق الأثنيات والغاء الهويات الوطنية الناشئة، والتي تسند الى مفهوم الدولة وفق شرط الجغرافيا في أعقاب الحرب العالمية الاولى في منطقتنا، وفي عصر الاستقلال في دول ما كان يطلق عليه العالم الثالث، الذي هو مفهوم سياسي وجغرافي يشمل آسيا و أفريقيا واميركا الجنوبية، وقد سعى الغرب الى محو سياسي له لأنه يشكل بحدود الجغرافيا الخاصة به عائقا أمام امتدادات وتغولات الغرب باعتباره تاريخا استحواذيا ومهيمنا.

واذا كان التاريخ يتشبث بالزمان الذي هو غير قابل للثابت والراسخ فهو في تغير مستمر وتطور دائم، وكان تشكل الغرب وفق هذه القناعة هي التي كفلت له قيادة التاريخ الحديث ومن ثم قيادة العالم الحديث، فان تتشبث الجغرافيا بالمكان الذي هو قابل للثابت والراسخ كان عنه ينشأ الصراع بين الجغرافيا والتاريخ، بين الروح والجسد، لان التاريخ روح والجغرافيا جسد، بعد أن غيرت الحداثة معادلة الطبيعة – الجغرافيا في الارواحية القديمة، وهو ما مهد له هيغل حين عزل الروح عن الجغرافيا وأستند الى ذلك العزل العلم – المادي الحديث، بل وسخر من هذه الارواحية التي كانت تضمن الأمن والسلام بين الطبيعة والانسان الذي تقوض على أثر صراعات الرأسمالية مع الطبيعة ومحاولات الهيمنة التاريخية الحديثة التي يمارسها الغرب على الجغرافيا - الطبيعة، الدول، الثقافة والمضمون الهوياتي فيها، وهو صراع يعبر عن إحدى أزمات عالنا الكبرى. وفيها يدخل الصراع الوجودي بل والتاريخي للإنسان الحديث.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002 – 2017 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق