q
اقتصاد - مقالات اقتصادية

عوامل أخرى محددة للقيمة التبادلية

الموقع الثقة التكنولوجيا العلاقات الميتافيزيقيا، الـعُرف والعيش الكريم (11)

عند دراسة مستفيضة وتحليل دقيق لواقع القيمة التبادلية سنجد؛ فيما نرى، أنها تتولّد من الجهات الحقيقية والاعتبارية التالية: اولا المنفعة والقيمة الاستعمالية، ثانياً الرغبة، ثالثاً الحاجة والإشباع، رابعاً المنفعة الحدية، خامساً العرض والطلب، سادسا البدائل والمكملات، سابعا الندرة والوفرة، ثامناً: تكلفة الإنتاج...

عند دراسة مستفيضة وتحليل دقيق لواقع القيمة التبادلية سنجد؛ فيما نرى، أنها تتولّد من الجهات الحقيقية والاعتبارية التالية: اولا المنفعة والقيمة الاستعمالية، ثانياً الرغبة، ثالثاً الحاجة والإشباع، رابعاً المنفعة الحدية، خامساً العرض والطلب، سادسا البدائل والمكملات، سابعا الندرة والوفرة، ثامناً: تكلفة الإنتاج، تاسعاً: (رأس المال) ومدى تكثيفه، عاشراً، العمل، حادي عشر: الوقت والزمان، ثاني عشر: المخاطرة، ثالث عشر: الابتكار والتجديد، رابع عشر: ثمن الفرصة الضائعة، خامس عشر: الدخل الكلي والمعروض النقدي، سادس عشر: الاحتكار.

ف. الموقع

سابع عشر: الموقع، فإنه يخفض أو يرفع بدوره من القيمة التبادلية السوقية للمنتجات، فإذا بنى العامل شقة مطلة على منظر طبيعي خلاب، على شاطئ بحر ساحر، أو على سفح جبل يَؤُمّه الأغنياء من أنحاء العالم، أو وسط أحضان الطبيعة على مشارف غابة أسطورية، فإنه يكون بمقدوره أن يبيعها بقيمة أعلى جداً، وقد لا تقارن بما لو بنى نفس الشقة بنفس المواصفات وبنفس الكمية من العمل في قرية نائية، أو في مصيف لا يَؤُمّه إلا الفقراء.

وأوضح من ذلك ما لو بنى شققاً سكنية في منطقة عادية، ثم أصبحت منطقة سياحية، فإن أسعار الشقق سترتفع حينئذٍ بنسبة كبيرة.

كما أن خدمة النقل التي يقدمها سائق الحافلات وغيرها، تختلف أسعارها السوقية وقيمها التبادلية بشدة بحسب اختلاف المناطق، وكون المنطقة منطقة الأثرياء أو منطقة الفقراء مثلاً، حتى وإن كان الطلب بمستوى واحد وكان الجهد المبذول بدرجة واحدة، وكذلك كانت المخاطر وغيرها متساوية.

ص. الثقة

ثامن عشر: والثقة، كذلك تعد من المؤثرات في القيمة التبادلية خاصة للخدمات، فإن الناس على استعداد لأن يبذلوا بإزاء خدمات العامل الأمين ـ الثقة ـ النزيه أكثر، وأن يستخدموه بمبالغ أكبر من غيره، رغم أن العمل الذي يقدمه قد يكون مماثلاً للعمل الذي يقدمه الآخر غير الثقة.

وعامل الثقة يتقاطع مع عدد من العوامل الأخرى، وقد يعاكسها في المفعول، فعامل الندرة مثلاً، لا يرفع القيمة إذا اقترن بعدم الثقة بالمنتَج، وعامل الوفرة لا يخفضها إذا كان المنتج مما يحظى بالوثاقة، إلا بقدر أو حسب معادلة الكسر والانكسار.

ولا فرق في تأثير الوثاقة في ارتفاع القيمة التبادلية أو انخفاضها بين كونها عاملاً داخلياً، وكونها عاملاً خارجياً، ونقصد بالعامل الداخلي الثقة التي مصبها العمل نفسه أو التي تعود إليه، كالثقة بجودة أدائه للعمل أو بالتزامه بالمواعيد في تسليم البضاعة التي ينتجها أو الثقة بأنه لا يخدع الطلاب في تدريسه للمادة الدراسية، فلا يكذب مثلاً في الإجابة على سؤال لا يعرف الجواب عنه، نعم يمكن إرجاع معظم العوامل الداخلية إلى جودة المنتج، والوثاقة إنما هي طريق لإحراز الجودة، عكس العامل الخارجي الآتي، فتأمل.

وأما العامل الخارجي فنقصد به الثقة بشخصية المنتج أو العامل في سائر المناحي، وبشكل عام فإن الناس يرتاحون أكثر للتعامل مع الثقة ـ الأمين ـ النزيه، ويدفعون كثيراً ما أكثر لخدماته ومنتجاته، بل قد لا يتعاملون إلا معه إلا لو اضطروا، نعم يمكن أن نعدّ الثقة عاملاً مساعداً في رفع أو خفض القيمة التبادلية، عكس العرض والطلب أو تكلفة الإنتاج أو العمل التي تعد عوامل أصلية.

ق. التكنولوجيا

تاسع عشر: والتكنولوجيا، بدورها تعدّ من محددات القيمة التبادلية، وليس المقصود من التكنولوجيا الآلات والأجهزة، لأن الآلات والأجهزة تدخل ضمن نطاق التكلفة، أو في دائرة رأس المال كما سبق، بل المقصود هو التطور التقني والذي كثيراً ما ينعكس في الآلات والأجهزة، وكثيراً ما ينعكس في الطرق العلمية الحديثة للإدارة والتنظيم وشبه ذلك. ولكن وكما وجدنا، فإنها بالتجلي الثاني تندرج في عامل الإدارة والتنظيم، فالتكنولوجيا مندرجة في بند رأس المال والتكلفة أو في الإدارة المتطورة.

نعم، قد يفرد الشيء بالذكر، نظراً لأهميته وإن كان مندرجاً ضمن عامل أو عوامل أخرى، فتأمل.

والتكنولوجيا قد تزيد القيمة التبادلية للسلع والخدمات، وقد تخفضها، فتزيدها تارةً من جهة كونها مكوّناً من مكونات تكلفة الإنتاج، وتخفضها تارةً من جهة كونها عاملاً فاعلاً في وفرة الإنتاج و(وفورات الحجم) التي تخفض التكاليف إلى أبعد الحدود. وهي بشكل عام ترفع التكلفة في مراحل البحث والتطوير، وتخفضها عند الوصول إلى مرحلة الاستثمار.

ر. العلاقات، كعامل محدد للقيمة التبادلية

العشرون: العلاقات، ذلك أن العلاقات المتوترة بين الطرفين، ونقصد بالطرفين: المنتجين والمستهلكين، أو المنتجين والنقابات، أو المنتجين والحكومة، أو المستهلكين مع اتحادات المنتجين، تقود إما إلى ارتفاع القيمة التبادلية للسلع والخدمات أو اليد العاملة، وإما إلى خفضها في حالات، ويكفي أن نتصور حالة تواطؤ المستهلكين فتنخفض القيم، أو اتفاق النقابات على رفع أجور اليد العاملة والتي تندرج في بند التكلفة فترتفع القيم، أو علاقات اتحاد المزارعين أو غيرهم مع الحكومة.

كما أن العلاقات المتميزة من جهة أخرى، قد تقود إلى خفض القيمة السوقية، كما قد تقود إلى رفعها في حالات، فإن من الطبيعي والمتداول جداً أن يبيع التاجر لأصدقائه المفضلين بتخفيض خاص "discount"، أو أن تشتري الحكومة من المزارعين مثلاً بأسعار تفضيلية، كما أن التاجر كثيراً ما يبيع لمنافسيه، إن احتاجوا إليه، بسعر أكبر، وكما أن الطلب إذا ارتفع، رفعت الأسواق قيمة السلع والخدمات، كذلك إذا توترت علاقات المنتجين بالمستثمرين أو علاقات مالكي مصادر الإنتاج أو المواد الخام مع المنتجين، مع حاجتهم إليهم، فإنهم يرفعون الأسعار والقيمة التبادلية لما يبيعونه لهم حينئذٍ، وقد يندرج ذلك في نوع من أنواع المنافسة غير الكاملة أو الاحتكار.

والارتفاع والخفض وإن كانا بعامل إرادي(1)، لكنه غير ضار بالمعادلة الموضوعية، كما أن زيادة العرض أو الطلب أو الاحتكار أو شبهها كلها عوامل إرادية، والذي تجري دراسته في نظرية القيمة هو محددات القيمة التبادلية، خارجياً وفعلياً وفي الأسواق، أي دراسة أي شيء يؤثر بالفعل في زيادتها أو خفضها، نعم العلاقات تعدّ من العوامل المساعدة دون الأصلية في إيجاد القيمة التبادلية.

وهذه القضية، إضافةً إلى ذلك، خاضعة للبحث المعياري أيضاً، وهو مدى أخلاقية تأثير هذا العامل (العلاقات) أو غيره، كالرغبة والمنفعة والاحتكار ورأس المال والتكلفة... إلخ، سلباً أو إيجاباً في القيمة التبادلية للسلع والخدمات، كلما كان العامل إرادياً، مباشرةً أو بالواسطة.

ش. العامل الميتافيزيقي

الحادي والعشرون: العوامل الميتافيزيقية أو الحظ، والاستقراء يكشف أن القضايا الماورائية والتدخل الغيبي و(الحظ) قد يرفع القيمة التبادلية لبعض السلع والخدمات، وقد يخفضها (النحس أو الشؤم) في المقابل، ولكن تأثيره يكون عادةً عبر التأثير الذي يمتلكه على محددات القيمة المباشرة، كتأثيره على العرض والطلب والندرة والوفرة وتكلفة الإنتاج والقيمة الاستعمالية وغير ذلك.

والعامل الميتافيزيقي يشمل الإيمان أو الاعتقاد بـ(البركة أو الشؤوم) في عملٍ أو صناعةٍ أو بضاعةٍ أو خدمةٍ، والذي يزيد الطلب مثلاً على السياحة الدينية أو يخفض الطلب على مأكولات معينة، فيكون تأثير هذا العامل في القيمة التبادلية عبر تأثيره على عامل العرض والطلب، وقد يكون تأثيره مباشراً متجاوزاً عامل العرض والطلب، كتقييم بعض المقدسات لدى المؤمنين بها بأسعار كبيرة حتى لو كان الطلب عليها بمستوى الطلب على غيرها.

وحيث إننا سنفصل الكلام عن هذا العامل وسائر العوامل الماضية في فصل (عوامل الإنتاج) في المجلد الثالث، لذلك اختصرنا الكلام عنها ههنا.

ت. الـعُرف والعيش الكريم(2)، كعامل محدد للقيمة التبادلية

الثاني والعشرون: وقد ارتأى العديد من الاقتصاديين والفقهاء وجود عامل آخر إلى جوار العوامل المختلفة المحددة للقيمة التبادلية للسلع والخدمات، وهو عامل (العرف الذي يرى شعورياً أو لا شعورياً، أن كل منتج وعامل ومستثمر، لابد أن يعيش عيشة كريمة أو ـ بتعبير آخر ـ عيشة رفاه متوسطة، مقابل جهده وعمله)، وبذلك يتدخل العرف، إضافة إلى المنفعة والقيمة الاستعمالية وقانون العرض والطلب، في تحديد قيم الأشياء التبادلية، لكن تدخل العرف ليس عبثياً، بل إنما يكون بالاستناد إلى ما يرى أنه العدل في توفير العيش الكريم بشكل متوسط لعامة العمال والمنتجين.

فمن الفقهاء السيد الوالد الذي ذهب في (الفقه: الاقتصاد) إلى: (أما ما هو المعيار في قيمة هذه الأمور الخمسة، أي لماذا جعلوا لكل مثقال من الذهب ديناراً، ولكل مثقال من الفضة درهماً، ولكل كيلو من الحنطة درهمين، ولكل كيلو من الحليب ثلاثة دراهم، إلى غير ذلك.

فالجواب: أن العرف رأى أمرين في هذا الجعل:

الأول: ملاحظة أن يعيش الكل عيشة رفاه متوسط.

الثاني: كلما ازدادت الفائدة النفسية والجسمية ازدادت القيمة، وهذا هو آخر المطاف في جعل القيم، وقد تقدم الإلماع إلى ذلك في بعض المسائل السابقة.

وإذ قد عرفت أن القيمة تقع بإزاء أمور خمسة، فلتوضيح معادلة (قيمة النقد) نتوقف عند أحد الأمور الخمسة، وهو (العمل الجسدي)، ويقاس على ذلك غيره.

العمل الجسدي وقيمة النقد

فنقول: العامل إذا كان يعيش برفاه متوسط، بأن كانت له دار وزوجة وأولاد وملبس ومأكل ومشرب ومركب، ومصرف للمرض والسفر بحسب شأنه وهكذا، كان اللازم أن تكون أجرته كل يوم ديناراً مثلاً، لأنه يفي فرضاً بكل ذلك، فإذا حصل من عمله كل يوم على دينار كان الدينار هو القيمة العادلة لعمله، إذ يتمكن من أن يشتري به كل حوائجه، وأن يدخر منه شيئاً لشراء الدار في الوقت المناسب، ولمرضه ولسفره ولزواج أولاده، ولما يهديه إلى أقربائه وأصدقائه في نطاق شأنه)(3).

وقال قبل ذلك:

(وعلى هذا، فالقيمة الواقعية للنقد هو مقدار الأمور الخمسة، التي يمكن تحصيلها بسبب ذلك النقد، فقيمة الدينار هي مقدار من العمل، مقدار من الفكر، مقدار من المادة، مقدار من شرائط الزمان والمكان، مقدار من العلاقات الاجتماعية، التي يمكن تحصيلها بذلك النقد، فيقال أن الدينار يُقابَل:

1) بساعة من عمل البناء.

2) بربع ساعة من عمل المدير.

3) بعشرين كيلواً من الحنطة، وعشر كيلوات من الحليب، وخمس كيلوات من الحديد، وهكذا.

4) بحرارة الجوّ إلى درجة واحدة فوق الصفر مثلاً، حيث إن ثوب الصوف عند ذلك يقيّم بدينار، وعند عشر درجات بدينارين، ولكل متر دينار إذا كانت الدار في وسط المدينة، حيث إن كل متر في آخر المدينة نصف دينار.

5) وبمقابل القرابة، فإن ابن العم مثلاً إذا أتى من السفر أهدى إليه شيئاً قيمته دينار، بينما إذا كانت قرابة الأبناء أهدى إليه ما قيمته ديناران، وإذا كانت صداقة حميمة أهدى إلى الصديق ما قيمته نصف دينار، وهكذا)(4).

وأما الاقتصاديون، فقد طرح آدم سميث نظرية تقسيم السعر النقدي للعمل وضبطه على ضوء (عاملين، هما: الطلب على العمل وأسعار ضروريات العيش وأسباب الراحة في الحياة)(5)، ولعل كلام (الفقه) يشتمل على إضافة إدخال العرف كضابط مرجعي لذلك (تحديد ما هي ضروريات العيش وأسباب الراحة وما هي أسعارها).

وقد سبق المدرسيون، آدم سميث، في طرح أصل نظرية الثمن العادل، (لقد فسر المدرسيون الثمن العادل من وجهة نظر دينية، فعدوا الثمن العادل هو ذلك الثمن الذي يمكن المنتج من أن يعيش بمستوى شريحته الاجتماعية، وفي الوقت نفسه يجب أن يكون ثمن السلعة في متناول المستهلك. وبرأي المدرسيين فإن الثمن العادل، هو ذلك الثمن الذي يغطي النفقة التي تحملها البائع في سبيل إنتاج السلعة دون أن يحقق للبائع ربحاً، وإنما مكافأة تعطى له لقاء ما تكبده من مشقة في صنع السلعة، بحيث تكفل له أن يعيش كغيره ممن لهم ظروفه الاجتماعية نفسها.

وقد طالب رجال الدين بأن تتدخل الدولة في تحديد أسعار السلع بما يكفل تحقيق العدالة، في حين عارض ذلك (الأكويني)، نظراً لإيمانه بالحرية الاقتصادية، وطالب بتطبيق الثمن العادل في المبادلات التجارية، وأن يكون ثمن السلعة وأجر العامل وربح المنتج عادلاً، ويجب أن تتوافر العدالة في البائع والمشتري. فلو بيعت سلعة بأقل من قيمتها كان ذلك غير عادلٍ بالنسبة للبائع، ولو بيعت سلعة بأكثر من قيمتها كان ذلك غير عادل بالنسبة للمشتري. فالثمن العادل ـ برأي الأكويني ـ يجب أن يكون مساوياً لنفقة الإنتاج وأن لا يلحق ضرراً بالبائع ولا بالمشتري)(6).

وقال بعض علماء الاقتصاد: (تقتضي القيم الإسلامية أن يَعتبر أرباب العمل المستخدمين بمثابة أعضاء في أسرهم. وهذا يقتضي معاملة المستخدمين باحترام ورأفة وضمان رفاهيتهم. ففي المجتمع الإسلامي في الوضع المثالي يجب أن تكون الأجور الحقيقية على الأقل في مستوى من شأنه أن يسمح للمستخدمين بتلبية جميع احتياجاتهم واحتياجات أسرهم الأساسية بطريقة إنسانية(7). كما يجب تأمين التدريب وضمان فرص العمل لهم. ويفضل أن تكون لهم حصة في الأرباح ضمن إطار علاقة منسجمة طويلة الأجل، ولكن الذي يؤسف له أنه وعلى نقيض ذلك فإن الأجور الحقيقية في معظم البلدان الإسلامية متدنية إلى درجة أنه بالرغم من العمل الشاق لمدة 10 إلى 14 ساعة فإن العامل لا يستطيع تلبية احتياجاته واحتياجات أسرته الأساسية.

وعلاوة على ذلك فإن المستخدمين لا يتمتعون بأي ضمان لفرص العمل. وأسباب ذلك لا تعود إلى مجرد تدني الإنتاجية وزيادة عرض القوى العاملة وعدم توافر الفرص الكافية للتشغيل، كما يريد الاقتصاديون الكلاسيكيون منا أن نعتقد. فالاستغلال يقوم بدور كبير في هذا المجال. وهذا الاستغلال أصبح ممكناً بوجود مجموعة من القوى غير العادلة، بما في ذلك السياسات الرسمية غير الملائمة، وتركيز الثروة والسلطة وعدم توافر تسهيلات التدريب والتمويل للعمال. فإذا لم يتم الحد من الاستغلال إلى درجة كبيرة فقد لا يكون من الممكن إنصاف العمال وإغرائهم على العمل بما تمليه عليهم ضمائرهم وبكفاءة)(8).

تقييم مرجعية العرف كمحدد للقيمة الاستعمالية

ولكن يجب أن نتوقف قليلاً لكي نقوم بدراسة أن هذا العامل (العرف الذي يلاحظ ضرورة أن يعيش الكل عيشة رفاه متوسط) هل هو عامل معياري مجرد؟ أم هو عامل معياري لكنه يتدخل، لا شعورياً أو شعورياً، في التأثير على العامل الموضوعي، (إذ الكلام في القيمة التبادلية عن المحددات الموضوعية للقيمة)، أو أنه عامل سيكولوجي ـ ثقافي يتدخل موضوعياً في ذلك، كما أن عامل كثرة الطلب وانخفاضه عامل سيكولوجي بالأساس، لخفض القيم أو رفعها؟ أو غير ذلك.

بعبارة أخرى: كما أن العرف (عرف العقلاء في الأسواق) يجدون للمنفعة مدخلية في رغبتهم في شراء هذه البضاعة بهذا السعر أو ذاك، ويحددون قيمته التبادلية ولو إلى حد ما، على ضوء منفعته لهم، وكما أنهم يجدون للعرض والطلب مدخلية، وكما يجدون أن قوة العمل أو الإدارة أو الفكرة السارية في جسم السلع والخدمات، أي المتجسدة فيها، تمتلك قيمة تبادلية، كذلك يجدون أن (حياة العامل أو المنتج حياة كريمة أو مرفهة) محدد للقيمة التبادلية لمجموع إنتاج العامل أو المستثمر.

وبذلك تختلف هذه الفكرة عن فكرة "ماركس" في (قوة العمل) أو (وقت العمل)، إذ تعتبره عاملاً مستقلاً، فليس (العمل) أو (قوته) أو (وقته) على هذه النظرية الجديدة هو المحور الوحيد في تحديد القيمة، بل إن (العامل) كإنسان، يمتلك الحق في أن تدفع لأعماله قيمة تتكفل بمعيشة مرفهة له، سواء أكان عرض نوع عمله نادراً أو وفيراً، نافعاً منفعةً كبيرة أو منفعةً منخفضة، مرغوباً فيه بشدة أو مرغوباً عنه، ومهما كانت قوة عمله ضعيفة أو شديدة. فهذه النظرية الجديدة تمزج بين عامل العمل وعنصر الإنسان، وترى أن المحصلة من دمج العاملين تولد القيمة التبادلية للعمل، وأن العمل (أو قوته) لا تلاحظ بمعزل عن الإنسان بما هو إنسان، فتأمل.

مرجعيات العرف في تحديد القيم

أقول: العُرف (عرف العقلاء) يلاحظ المعدل المتوسط العام لمجموعة من العوامل:

ـ منفعة المنتِج ومصلحته مع تفاعلها مع منفعة المستهلك ومصلحته، فيعتبر المقياس نقطة تقاطع خطَي المنفعتين.

ـ حاجة أو رغبة أو تمتع المنتِج، منسوبة إلى حاجة المستهلك ورغبته وتمتعه، والمقياس هو نقطة التقاطع كذلك.

ـ منافع ومزايا المواد، أي القيمة الاستعمالية للسلعة أو الخدمة.

ـ العرض والطلب والندرة والوفرة.

ـ تكلفة الإنتاج وتكلفة الشراء والاستهلاك.

ـ كمية العمل وكيفيته والوقت اللازم لإنجازه ومكانه.

ـ كمية رأس المال الموظف ومدى تراكمه وتكثيفه.

ـ دخل المستهلك على مستوى الاقتصاد الكلي.

ـ الإدارة والتكنولوجيا.

إضافة إلى موقع الإنتاج ثم البيع والشراء، والعلاقات بتأثيراتها المتبادلة، ومخاطرة المنتج والمستثمر وفرصته الضائعة، والعامل الميتافيزيقي ومدى الثقة التي يحظى بها لدى المشتري والمستهلك.

وهذه العوامل بأجمعها يقوم العرف، لا شعورياً وبقيادة قوة الحدس وغيرها كما سبق، بتحديد نقطة توازنها على منحنى يتضمن خطوطاً تمثل كافة تلك العوامل، فتكون نقطة التقاطع المتوازن هي التجسيد النهائي للقيمة التبادلية للسلع والخدمات.

ولكن كيف يقوم العرف بهذه العملية المعقدة؟ وهل الأولى الاعتماد على (حدس العرف) و(معادلة الصح والخطأ)(9) التي ينتهجونها ضمنها، أم الأصح الاعتماد على دراسات اقتصادية علمية دقيقة تعتمد الإحصاء كمدخل رئيس، لتحديد نقطة التوازن؟

ذلك ما تتكفل بالإجابة عنه المذاهب الاقتصادية وعلى اختلاف منطلقاتها ومبادئها العامة، والتي تتراوح بين المدرسة الكلاسيكية التي تعتمد الأسواق الحرة إستراتيجية لتحديد الكميات والأسعار والأجور والريع وما إلى ذلك، وبين المدرسة الشيوعية التي تعتمد التخطيط المركزي الشامل، وما بينهما من مدارس بأطياف متدرجة بين المدرستين.

مستويات تأثير العوامل العشرين

ولكن ومرة أخرى، نؤكد على حقيقة هامة جداً، وهي أن هذه العوامل العشرين والملحقات بها، ليست على مستوى واحد، إذ أن بعضها عوامل أصلية وبعضها عوامل مساعدة، كما أنها من جهة أخرى وبعبارة فلسفية: ليست في عَرْض بعضها الآخر، بل إن بعضها في طول الآخر، بل قد يكون أحد العوامل تارةً في عرض الآخر وأخرى في طوله، وبعبارة أخرى: لا تقع هذه العوامل كلها على خط أفقي واحد في جهة محدديتها للقيمة التبادلية، بل قد تقع على خط عمودي، أو لك أن تعبّر: أن بعضها عامل مباشر وبعضها عامل غير مباشر.

فزيادة الطلب مثلاً، عامل مباشر في ارتفاع القيمة التبادلية، وأما زيادة الرغبة أو الإشباع فهي عامل غير مباشر، إذ أن زيادة الرغبة لو لم تنعكس على زيادة الطلب لم تؤثر في ارتفاع القيم، وكذلك انخفاض الرغبة والزهد في البضاعة لا يؤثر فعلياً على انخفاض الأسعار إلا لو تمت ترجمته عملياً على شكل انخفاض الطلب، وأما زيادة المنفعة والقيمة الاستعمالية فقد سبق أنها تؤثر تارةً في زيادة القيمة التبادلية مباشرة، متجاوزة عامل العرض والطلب، وأخرى بالواسطة، عبر التأثير على العرض أو الطلب.

وأما كمية العمل ومقدار الوقت المبذول فيه، فإنه إذا ازداد لا يرفع القِيَم التبادلية إلا إذا انعكس على نسبة الطلب، فلو زادت كمية العمل وانخفض الطلب، انخفضت الأسعار والقيم التبادلية، ولو قلّت كمية العمل وازداد الطلب، ارتفعت القيم التبادلية، ولكن الصحيح أن ذلك ليس حالة دائمية، بل قد يحدث العكس، فإن المنتجين والعمال إذا اضطروا إلى بذل جهد أكبر أو وقت أطول لإنجاز خدمة أو سلعة، فإنهم كثيراً ما، يرفعون الثمن بنفس النسبة أو بحدود ما، حتى وإن بقي الطلب على حاله، وذلك بديهي في كل الصور التي لا يكون فيها الطلب مرناً تجاه الأسعار(10)، عكس حالات مرونة الطلب، ولكن الأمر مرتهن بدرجات المرونة.

مناقشة حصر المرجعية في العرض والطلب

كما نؤكد مرة أخرى ما سبق، من أن بعض الاقتصاديين ذهب إلى أن العامل الأساس في محددات القيمة هو العرض والطلب، ولكن هذا الرأي غير صحيح، فإنه وإن كان للعرض والطلب دور أساسي ومهم وفاعل في تحديد القيمة الاستعمالية، ولكنه:

أولاً: هنالك عوامل طولية تؤثر عليهما، إذ ليس ارتفاعهما عبثاً، فهي عوامل محددة للقيمة لكن بالواسطة، فإن ارتفاع المنفعة والقيمة الاستعمالية أو انخفاضها يؤثر عادةً على المدى الطويل، على ارتفاع الطلب وانخفاضه، وارتفاع التكلفة أو انخفاضها يؤثر في كثرة العرض أو خفضه إن لم يقابله ارتفاع أو انخفاض في الأسعار بنفس النسبة، فهي إذاً عوامل مهيمنة حتى على العرض والطلب، نعم قد يكون تأثيرهما(11) على المدى القصير أقل حجماً ونطاقاً؛ نظراً لتحلي كثير من السلع والخدمات بمرونة الطلب على المدى الطويل دون القصير، إذ يكون صلباً حينئذٍ، وقد يحدث العكس في حالات معينة، فتدبر.

ثانياً: إن بعض تلك العوامل تؤثر، إلى جوار العرض والطلب وبشكل أفقي، بل قد تعاكس مفعولهما، فإن ارتفاع الدخل الكلي مثلاً يرفع الأسعار والقيم التبادلية، وإن كان الطلب على نفس المستوى، وذلك نظراً لأن ذلك هو اللازم الطبيعي للتوسع النقدي وزيادة النقد المعروض في الأسواق، ولكنّ ذلك بالمآل يعود إلى انخفاض القوة الشرائية للنقد، لا ارتفاع قيمة السلع والخدمات إلا ارتفاعاً اسمياً، ففكر وتدبر.

والأولى التمثيل بما لو بقي الطلب على نفس المستوى، ولكن ازدادت المخاطر أو ازدادت منافع السلعة أو الخدمة لسبب إرادي أو غيره، أو ارتفعت تكلفة الفرصة الضائعة، فإن المنتجين للسلع والخدمات سيرفعون مهما أمكنهم، من القيمة التبادلية لسلعهم وخدماتهم، وستتفاعل معهم الأسواق بالقدر الذي لا تراه إجحافاً، بل نقول: إن المنتجين لدى ارتفاع تكاليف الإنتاج سيرفعون من الثمن والقيمة التبادلية بقدر، وإن قل الطلب عليها بحدودٍ ما، مما يعني عدم انفعال القيم التبادلية عن تقلصات العرض والطلب بشكل مطلق، بل بحدود ما، ووجود عوامل أخرى مؤثرة في القيمة التبادلية رغم معادلة العرض والطلب.

* القسم الحادي عشر من نظرية القيمة، من الفصل الأول من الجزء الثاني، من كتاب بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن، وهو موسوعة في الاقتصاد الاسلامي من ثلاثة أجزاء لسماحة السيد مرتضى الشيرازي

...........................................
(1) هو العلاقات.
(2) العيش الكريم، عامل ثبوتي، فهو عنصر فاعل واقعاً، وأما العرف فإنه عامل إثباتي، أي مجرد كاشف وليس عنصراً فاعلاً.
(3) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة (الفقه) كتاب الاقتصاد، دار العلوم للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت: ج108 ص178-179.
(4) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة (الفقه) كتاب الاقتصاد: ج108 ص178، بتصرف بسيط.
(5) آدم سميث، نقله للعربية وليد شحادة، ثروة الأمم، الناشر: دار الفرقد ـ دمشق: ج1 ص99-100.
(6) د. نبيل جعفر عبد الرضا، تطور الفكر الاقتصادي من أفلاطون إلى فريدمان: ص50.
(7) للإطلاع على مناقشة هذا الموضوع انظر:
M.U. Chapra, Objectives of the Islamic Economic Order (1979), pp. 14-16. See also, Hakim Mohammad Said (ed), the Employer and the Employed: Islamic Connept (1972). See also, Sayyid Abul A,la Mawdudi, Islam awr Jadid Ma, ashi Nazariyyat (1959), pp. 155-6.
(8) محمد عمر شابرا، الإسلام والتحدي الاقتصادي، ترجمة: محمد زهير السمهوري، المعهد العالمي للفكر الإسلامي والمعهد العربي للدراسات المالية والمصرفية، عمان، 1996: ص309-310.
(9) وأمور أخرى ذكرناها سابقاً.
(10) أي إن الطلب لا ينخفض مع ارتفاعها، نظراً لكون السلعة من ضروريات الحياة كالخبز، عكس أجرة السفر بالطائرة.
(11) المنفعة والتكلفة.

اضف تعليق