q
إنسانيات - تعليم

أطفالنا والتخلف الدراسي

ان مشكلة التأخر الدراسي هنا تعبر عن تفاعل منظومة أو شبكة من العوامل المعقدة والمتداخلة لأحداثها، منها ما هو ذاتي يتعلق بالتلميذ نفسه، وهي منفصلة نسبيا عن البيئة، ومنها ما هو موضوعي يتضح أثره من خلال دائرة تفاعل الفرد مع المنظومة التربوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة به...

ان مشكلة التأخر الدراسي هنا تعبر عن تفاعل منظومة أو شبكة من العوامل المعقدة والمتداخلة لأحداثها، منها ما هو ذاتي يتعلق بالتلميذ نفسه، وهي منفصلة نسبيا عن البيئة، ومنها ما هو موضوعي يتضح أثره من خلال دائرة تفاعل الفرد مع المنظومة التربوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة به. وبما أن الفرد هنا يحيا بعمقه التاريخي الشخصي أو وجوده السايكواجتماعي المتشعب عبر تأثيرات التربية النظامية وغير النظامية، فأنه من الصعب جدا أن نحصر التخلف الدراسي في عامل، أو عوامل بسيطة تقف خلفه. عدا ذلك يعتبر التخلف الدراسي مظهر من مظاهر الإهدار أو الفاقد في التعليم، بما يسببه في أحيان كثيرة من رسوب وتسرب تؤدي إلى مضيعة في المال المرصود لقطاع التربية والتعليم. ومن هنا تأتي أهمية الخوض في تفاصيل الأسباب التي تكمن وراء الظاهرة وفرزها في منظومة عوامل ذات أبعاد مختلفة.

وقبل ذلك نحن نعرف أن التحصيل المدرسي هو جزء من الأداء العقلي للفرد داخل النظام التربوي والتعليمي، وأن هذا الأداء ليست وليد دخول الفرد إلى المدرسة، بل يتشكل باعتباره منظومة من الوظائف العقلية الأساسية عبر عملية طويلة الأمد قد تبدأ طلائعها الأولى منذ لحظة الولادة وحتى قبل ذلك، أي في فترة الحمل متأثرا بعوامل الصحة والمرض والتفاعلات التي تجري داخل رحم الأم. وقبل الخوض في منظومة الأسباب التي تشكل ظاهرة التخلف الدراسي أرى من الضروري تحديد مفهوم مصطلح التخلف الدراسي استنادا إلى ما تتناوله وتحدده أدبيات علم النفس بهذا الشأن، حيث يعرف بأنه: ”حالة تأخر أو تخلف أو نقص أو عدم اكتمال النمو التحصيلي نتيجة لعوامل عقلية أو جسمية أو اجتماعية أو انفعالية، بحيث تنخفض نسبة التحصيل دون المستوى العادي أو المتوسط “، وللأغراض التربوية ” يعرف التأخر الدراسي إجرائيا على أساس الدرجات التحريرية التي يحصل عليها التلميذ ? التلميذ في الاختبارات في جميع المواد “. والتخلف الدراسي هنا نوعان: 1ـ تأخر دراسي عام ويرتبط ذلك ” بالغباء ” حيث تتراوح نسبة الذكاء بين 70ـ 85 ( وفقا لهذه الأدبيات ). وأن هذا التعريف على ما يبدو يحصر التخلف الدراسي العام فقط على ذوي الذكاء المتدني، ونعتقد فيه إهمالا لحالات التخلف الدراسي التي قد تكن هي الأخرى عامة، ولكن ليست بسبب تدني الذكاء( كما سنذكره)، ناهيك عن محاذير استخدام اختبارات الذكاء كوسائل وحيدة لتصنيف الأفراد المتخلفين دراسيا، وضرورة هنا اللجوء إلى وسائل إضافية للتأكد من ذلك ؛ 2ـ تأخر دراسي خاص( أو نوعي ) في مادة بعينها دون أخرى كالحساب أو القراءة أو الفيزياء أو التربية الفنية مثلا ويرتبط ذلك بنقص القدرات الخاصة المرتبطة بتلك المادة دون غيرها، في حين يبدو التلميذ تفوقا في المواد الأخرى،( أو بعض الأحيان لأسباب تربوية أخرى). ونستطيع أن نفرز منظومة العوامل التي تؤدي إلى التخلف الدراسي، لعل أبرزها هو:

* العوامل النفسية أو الذاتية: وتتلخص في ضعف الميل للمذاكرة أو الكسل أو الفتور في الرغبة للمذاكرة، الشرود الذهني وعدم تركيز الانتباه والاستغراق الطويل في أحلام اليقظة، الذكاء ونقص القدرات العقلية وما يرتبط بذلك من ضعف القدرة العامة في التحصيل، الخوف من الامتحانات، ضعف الميل إلى نوع من الدراسة أو تحبيذ مواد دراسية دون أخرى، الشعور في النقص وضعف الثقة بالذات، اضطراب الحياة النفسية وسوء التوافق العام، المشكلات الانفعالية والإحباط وعدم التوازن الانفعالي والقلق والاضطراب العصبي، الاضطراب الانفعالي للوالدين وانعكاساته الخطيرة على شخصية الطفل وأدائه المدرسي، وكذلك اضطرابات النوم لدى الأطفال وعدم تنظيم مواعيده.

* العوامل الصحية: الأمراض التي قد تصاب بها الأم أثناء الحمل وانعكاسات ذلك على حياة الطفل الجسمية والعقلية قبل وبعد الولادة( كالتلف المخي المحدود )، وكذلك بعض الإشكالات جراء الولادة العسرة، عدم التمتع بنسبة عالية من اللياقة الصحية والبدنية العامة، وما تؤدي أليه من الشعور بالجهد والتعب والإرهاق، وهي عوامل مثبطة لتركيز الانتباه ومتابعة المعلم في شرحه للدروس، الأمراض المزمنة كأمراض الكلى والقلب والقصبات، أو الأمراض المتوطنة كالبلهارسيا أو الانكلستوما وما تسببه من حالات الانقطاع عن الانتظام في الدوام المدرسي، اضطرابات السمع والبصر وما تؤدي به من صعوبات في استيعاب الأفكار والمعلومات واكتساب المهارات بنفس السرعة التي يستطيع بها الأصحاء، سوء التغذية، تأخر نمو الطفل…الخ.

* العوامل الاجتماعية والاقتصادية: العلاقات الأسرية المفككة، أسلوب التربية الخاطئ الذي تمارسه الأسرة كالتدل لرعاية المفرطة، أو النبذ والإهمال أو إشعار الطفل بأنه غير مرغوب فيه، كبر حجم الأسرة والظروف السكنية السيئة، انخفاض المستوى التعليمي للوالدين، فرض مستوى من الطموح من قبل الوالدين على الطفل بما لا يتناسب مع قدراته، أو عدم الاهتمام بالتحصيل الدراسي واعتباره مسألة ثانوية ضمن تقديرات الوالدين، تدني المستوى الاقتصادي للأسرة وعدم قدرتها على إشباع وتلبية احتياجات الطفل الأساسية من غذاء ولوازم، وقد تلجأ الأسرة إلى دفع أطفالها إلى العمل للاستعانة بهم كدخل إضافي لسد رمق العيش، مما يجعل قضية التحصيل الدراسي والاهتمام به مسألة ثانوية ولا تأخذ حيزا مناسبا ضمن اهتمامات الوالدين.

* عوامل تربوية: عدم ملائمة المناهج الدراسية مع حاجات التلميذ وميوله ورغباته واستعداداته ومستواه العقلي، واعتماد هذه المناهج وطرق التدريس المتصلة بها على التلقين وحفظ المعلومات، استخدام العقاب المدرسي بشكل مفرط وخاصة الجسدي منه أو الاهانات اللفظية، مما يؤدي بالطفل أو التلميذ إلى كراهية المدرسة أو بعض المواد الدراسية بقدر ارتباطها بشخص المدرس المسبب لسوء المعاملة، عدم ملائمة المناخ المدرسي العام، تخلف نظم الامتحانات، الاعتماد المفرط على الغير في إنجاز المواد الدراسية أو الواجبات البيتية مما يؤدي إلى إضعاف مبادرة التلميذ الذاتية، انعدام أو ضعف الإرشاد التربوي والنفسي الذي يسهم في توجيه التلميذ وجه دراسية سليمة وحل مشكلاته النفسية، التفاوت الكبير في الخدمات التربوية والمدرسية المقدمة لأطفال المدن وأطفال الأرياف أو المناطق النائية حيث تعاني الأخيرة من ضعف في ذلك، وما يترتب على ذلك من تفاوت في التحصيل الدراسي…. الخ.

وبقدر ما يتعلق الأمر بدقة تشخيص الأسباب التي تكمن وراء التخلف الدراسي، فأن العلاج يجب أن يكون هو الأخر مطابقا لذلك، ومن هنا يجب أن تأتي الإجراءات التربوية والنفسية والطبية والاجتماعية منسجمة مع طبيعة التخلف الدراسي وأسبابه لكي تأتي بنتائج إيجابية قدر الإمكان بما يخدم الطفل ونموه التحصيلي والعقلي بصورة عامة.

واستنادا إلى ذلك يمكن العمل بالإجراءات ألآتية:

* استنادا إلى بعض المقاييس الخاصة بالذكاء يجب فرز ثلاث فئات من التلاميذ بهذا الخصوص وهي: الفئة الأولى التي يكون ذكائها أقل من 80 درجة ويفترض أن تحال هذه الفئة من قبل أدارة المدرسة إلى الصحة المدرسية، أو إلى مراكز العلاج النفسي المتخصصة لأجراء المزيد من الفحوص المكملة، وعند التأكد من ذلك تماما يمكن وضعهم في صفوف خاصة بمستواهم العقلي داخل المدرسة الاعتيادية، أو إحالتهم إلى المدارس الخاصة ( طبقا للتجارب التربوية المعتمدة في البلد المعني). والفئة الثانية وهي التي يقع ذكائها بين 80ـ 90 درجة وهي تدخل ضمن فئة ” متوسط الذكاء المنخفض ”ولا تدخل في أطار فئة ضعاف العقول، وفي هذه الحالة يمكن للإجراءات من قبيل تنويع طرق وأساليب التدريس التي تثير اهتمام التلميذ وتجذب انتباهه، واستخدام العديد من الوسائل التعليمية المساعدة، والتوضيحات والأمثلة ألإضافية، وتقبل المعلم ومعاملته الحسنة لهؤلاء وعدم الجزع منهم، وأحيانا يحبذ وضع هؤلاء التلاميذ ذوي المستوى المتقارب في صف واحد لكي يتم التركيز عليهم بشكل جيد، وجميعها وسائل يمكن أن تتأتي بنتائج إيجابية. أما الفئة الثالثة والتي يكون ذكائها أكثر من 90 درجة، أي يكون ذكائهم متوسطا أو فوق المتوسط وما بعده، ولن يكون تخلفهم الدراسي راجعا إلى انخفاض مستوى ذكائهم، فينبغي البحث هنا في البيئة التربوية والاجتماعية والصحية والنمو الانفعالي للتلاميذ ذوي العلاقة والعمل على تقديم الخدمات المختلفة لهم. وهنا نرى ضرورة المواصلة بما يأتي:

* ضرورة أجراء الفحوصات الطبية الأساسية من قبل الصحة المدرسية بشكل دوري ومنتظم للتأكد من سلامة السمع والبصر واضطرابات الكلام وعلاج الأمراض المختلفة التي تؤثر على الصحة العامة للتلميذ وعلى أدائه في التحصيل.

* العمل على نشر وتوسيع شبكات الإرشاد النفسي والعمل بها كتقاليد ثابتة وجزء من مؤسسات النظام التعليمي، لكي تقوم بدور أساسي في ميدان تقديم المشورة النفسية للوالدين وتصحيح أسلوب معاملة الأسرة للتلميذ في تقديم الاستجابات الانفعالية المناسبة ليشعر التلميذ بالأمان وعدم تعرضه للقلق والاضطرابات النفسية، وتنمية بصيرة التلميذ بأسباب التخلف الدراسي وتشجيعه على التعديل الذاتي للسلوك.

* العمل بنظام التغذية المدرسية وتوسيع نطاقه ليشمل التلاميذ الذين ينحدرون من أسر فقيرة، وليسهم بدوره في الحد من حالات الحاجة المباشرة للطعام والغذاء بما يسهم في تحسين أوضاعهم المدرسية وتكريس وقت أكثر للمذاكرة والدرس بعيدا عن الاهتمام بإشباع حاجاتهم ألأساسية التي تعتبر مسلمة في الكثير من نظم التعليم في العالم، عدا عن ما يتركه إشباع الحاجات ألأساسية من أثر إيجابي في الصحة العامة والتحصيل.

* تقديم الخدمات التربوية والتعليمية المناسبة لحالات التخلف الدراسي، كتنويع طرائق التدريس بما تستجيب لخصوصية التلميذ، والبحث عن سبل لتحسين التوافق المدرسي بما يسهم في تحسين التحصيل، تنمية المهارات اللازمة للتحصيل، من تخطيط للدروس وأساليب المذاكرة الحيدة وتنمية للمهارات الذاتية في القراءة والإقبال على الكتاب وزيادة التشويق له وغيرها.

* تحسين العمل المشترك بين المدرسة والبيت وتعزيز اللقاءات الدورية بينهما والتهيئة الجيدة والمسبقة للقاءات لكي تكون مثمرة ومحفزة لحضور الوالدين عبر جداول عمل ملموسة، يكون محورها البحث عن سبل تطوير أداء التلميذ ألتحصيلي.

* أما بالنسبة للتخلف الدراسي الخاص أو النوعي والذي يرتبط بتخلف التلميذ بمادة دراسية دون غيرها، فيجب البحث فيه بعلاقة التلميذ بمدرس المادة من حيث قدرة المعلم ومهاراته الأساسية وقابليته على تشويق التلاميذ لمادته الدراسية، فأن كره التلميذ للمعلم يعني كره مادته الدراسية وعدم رغبته في الانجاز فيها، الغياب المستمر للتلميذ في دروس لمادة معينة لا يساعده على استيعاب المادة نظرا لترابط مفرداتها مع بعضها البعض، وبالتالي تؤدي إلى تخلفه فيها. وقد يكون ذلك راجعا إلى انخفاض القدرة العقلية اللازمة لإتقان هذه المادة دون غيرها، فقد يكون التلميذ متميزا في مواد أخرى دون غيرها، وهنا يجب البحث في تنوع وأداء قدرات التلميذ المختلفة كالقدرات الموسيقية والفنية والميكانيكية والفيزيائية وأين تكمن مواضع القوة والضعف وتوجيها الوجهة السليمة، ويأتي هنا دور المعلم في أدراك الفروق الفردية بين التلاميذ والكشف عنها من خلال تطبيق اختبارات القدرات الخاصة والمتابعة الدقيقة والملاحظة الميدانية المستمرة ومساعدة التلميذ بما يحقق انجازه لهذه المادة أو تلك وفقا لإمكانيات التلميذ دون مطالبته أن يكون متفوقا أسوة بالمواد الدراسية الأخرى.

وفي الختام فأن الكثير يعتمد على كفاءة النظام التعليمي الداخلية ومرونته في أيجاد الحلول لمشكلات التخلف الدراسي، من مناهج وطرق تدريس وإدارة مدرسية وأعداد للمعلمين، وكذلك الاستفادة من خبرات نظم التعليم العالمية في حل تلك المشكلات. ونشير هنا إلى ضرورة تنوع أدوات الكشف عن التخلف الدراسي من مقابلات وملاحظات ميدانية مستمرة والعمل بالبطاقة المدرسية أو السجل التراكمي للتلميذ وعدم الاقتصار فقط على اختبارات الذكاء لما فيها من محاذير نتيجة لتشبعها بعوامل ثقافية وتربوية من البيئات التي أنتجتها، وهي اغلبها من دول غربية، وقد يكون التلميذ العراقي أو المصري أو العربي بصورة عامة لم يمر بها، فتكون نتائجها محفوفة بالمخاطر في معرفة حقيقة تخلف التلميذ الدراسي، على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت في تقنين وتكييف هذه الاختبارات على البيئات العربية المختلفة.

....................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق