نتذوق الحُبّ في القلوب السليمة من الأغلال والأنفس السليمة من الأمراض الأخلاقية والروحية والنفسية. في الحُبّ تتحدث لغة القلب المضيئة، وهي أصدق وأعذب من كلّ اللغات. القلب المتَّقد بالحُبّ يفيض المحبّة على الجميع كما يفيض الينبوع الماءَ العذب. تتجلّى قوّة الحُبّ في كونه سلسلةً لا تنتهي من البدايات، البدايات العميقة، كالحُبّ والإيمان...

الحبّ ضوء كنهه في غاية الخفاء، وسرٌّ وقوة الأسرارِ في احتجابها. إنه من الأسرار التي لا يعرف الإنسان ديناميكية حدوثها ولا كنهها. تتعدد تجليات الحب الحقيقي وتتنوع، بقدر ثراء شخصية الإنسان وتعدد أبعادها. يظل الحبّ سرًّا نابضًا بالحياة، يلهمنا ويغمرنا بمعانيه التي تتجاوز قدرتنا على الوصف. 

الحديث عن الحبّ دائمًا يقع خارج إطار تحديد حقيقته، إذ يظل الكلام منصبًّا على آثاره وثمراته ومعطياته، وليس على حقيقته ذاتها.

بصيرةُ القلب أكثف وأفصح من الحواس، والمعاني المختبئة داخل الإنسان أكثف وأشدّ خفاءً مما يظهر في حديثه أو كتابته أو حتى جسده. الحُبّ سرٌّ، لا نعرف كلَّ شيء عنه، وبوصفه سرًّا نظلّ مسكونين به. الأسرار تُلهم الإنسان أكثر من الأشياء المكشوفة شديدة الوضوح، قوة الأسرار تكمن في عمقها واحتجابها، وقوة الحُبّ تحديدًا تكمن في كونه سرًّا عَصيًّا على الفهم أو اكتناه حقيقته. 

نتذوّق أشياءَ ومعانيَ عذبةً تُبهجنا، ومع ذلك نبقى نجهل كُنهها. فلا صلة بين التذوّق والفهم الواضح. أن تكون محبوبًا شيء وأن تكون مهابًا شيء آخر، الطاغية مهاب لكنه ليس محبوبًا، الإنسان الفقير محبوب وإن كان لا يحظى بهيبة واحتفاء الطاغوت. ما يصنعه الحُبّ لا تصنعه السلطة ولا السلاح ولا الثروة، ولا أي شيء آخر من أرصدة الإنسان الاجتماعية والسياسية والثقافية.

كلُّ إنسان، لا يتنكّر لطبيعته البشرية يدرك أن الألم وتوالد المشكلات في حياته ليس استثناء، الاستثناء هو الخلاص، ولطالما كان هذا الخلاص مؤقتًا. ينشأ الألم من غربة الوجود، وتتوالد المشكلات من تضاد الاحتياجات المتنوعة لتأمين العيش، والحماية مما يستلب أمن الإنسان، من مختلف أشكال التنافس والتغالب والصراع. 

الواقعية ضرورية في الحياة، الإنسان محكوم بأقداره، دائرة الاختيار في حياته محدودة جدًا، لا حياة بلا ألم، الإنسان الحكيم يستطيع أن يقلّل الألم في حياته، عندما يختار ما هو واقعي، والواقعي هو الأقل ألمًا. يسعى الإنسان للامتلاك بغية الخلاص، فيكدس الأموال والثروات، ويسرف في الاستهلاك، وكلما تضخمت ثرواته لجأ للاستهلاك التفاخري، فيهدر مبالغ هائلة أحيانًا على تفاهات لا قيمة بذاتها لها إلا بمقدار تفاخر المحيط الذي يعيش فيه بإضفاء التفوق والعظمة الزائفة على مَن يمتلكها. 

في هذه الحالة يهدد الإنسان الملل الذي يتصاعد حد الضجر والقرف من كل ما حوله ومما هو فيه من غرق في حياة لا معنى حقيقي لها. هكذا تتذبذب حياة الإنسان بين قطبين متضادين، ألم لا ينقضي، ومللٌ لا يغادر. الحُبّ يخفض الألم إلى أدنى حد، مثلما يطرد الملل.

الحُبّ معنى عذب عميق، تتنوع تجلياته وتتوافق بتناغم مع إيقاع حياة الإنسان. عندما تتوافر شروط تحقّق الحُبّ ومقدماته، فإنه لا يأتي بقرار اختياري. في الحُبّ تنهزم الكراهية والضغائن والإحن، في الحُبّ كأن لا أعداء في حياتك، في الحُبّ كأن كلّ مَن حولك محبون لك، وكأن كل مَن تلقاه صديق لك. الإنسان الذي يعيش في حالٍ كهذه قلما يأكله الألم أو يداهمه الملل، أو يشعر بالغربة في محيطه. 

لا تُمتَلك المحبّة، وتتكرس إلا بالتدريب على حُبّ المحبّة. حُبّ المحبّة يغذّيه العمل المزمن على منح المحبّة للغير، ذلك أن ماهية المحبّة هي العطاء، بالعطاء المتواصل يتحوّل جوهر الذات يومًا ما إلى محبّة، وذلك مقام لا يصله إلا الأفذاذ من ذوي الحياة الروحية والأخلاقية الثرية.

كلُّ شيء يموت في هذه العالم إلا الحُبّ الأصيل بوصفه ضوءًا، الضوء كتابةٌ على جدار القلب لا تنطفئ. الحُبّ الأصيل منبع نوراني يغذي العلاقات الإنسانية النبيلة. بالحُبّ نمارس كلَّ شيء بوصفه هدية نقدمها للحبيب بتلذّذ وابتهاج. 

هذا النوع من الحُبّ يشعر الإنسان بالثقة والدفء والصدق والرضا والأمان والسلام. ‏حين يتذوق الإنسان الحياة بنكهة الحُبّ يشعر بالثقة والتفاؤل بغد أجمل.

الإنسان يتعلم الصراع منذ بداية حياته، ويظل بحاجة إلى الصراع ما دام حيًّا، يصارع الطبيعة والكائنات الأخرى وأخاه الإنسان. كرة القدم مثلًا وغيرها من أنواع الألعاب الرياضية تفريغ للعنف، وإشباع الحاجة للحروب خارج أدوات القتل والموت. هذا أحد أعمق بواعث الهوس بالرياضة. 

افتراضُ علاقات بين الناس تخلو تمامًا من الكراهية افتراضٌ طوباوي غير واقعي. حضورُ الكراهية في الحياة بموازاة حضور المحبة أبديٌ، وهو تعبيرٌ عن الأضداد في الطبيعة الإنسانية. (القوانينُ والكوابحُ العقابية والأخلاق والدينُ والثقافة والعلم والمعرفة والتربية السليمة والتعليم، كلُّها تخفضُ كثيرًا من الآثار الفتاكة للكراهية في حياة الأفراد والمجتمات، وتكرسُ السلمَ المجتمعي، وتجعلُ حياةَ الإنسان أسهل. 

الكراهيةُ ضرورةٌ لتكامل ‏حياة الإنسان في الأرض وتطورها. لولا الكراهيةُ لا يولدُ أيُّ تنافس، ولا يولدُ أيُّ تحدٍ، ولا يولدُ أيُّ صراع، ‏ولا يولدُ أيُّ صدام، ولا تولدُ أيّةُ حروب، ولا تولدُ أيّةُ صيرورة ‏وتكامل في حركة التاريخ. الإبداعُ والابتكارُ وولادةُ الحضارة تعبيرٌ عن تفريغِ المكبوت داخل الإنسان)، كما يقولُ علمُ النفس التحليلي، هناك ازدراء للحُبّ، والنظر إليه بوصفه حالة تخدش الفروسية العربية وتحط من كبريائها في مجتمعنا. لغة الشعراء تغرق بغزليات الحُبّ، إلا أن ذلك لا يتناسب مع حضور الحب الخلّاق في الحياة العائلية لأكثر مَن أعرف منهم، ولا يتجلى بوضوح في علاقاتهم. 

الحُبّ الحقيقي تجربة وجود حيّة متدفقة مستمرة وكأنها صيرورة يعيشها الإنسان الأخلاقي، وتعيد انبثاق ما هو جميل في داخله، مثلما تعيد تشكيل ذوقه ورؤيته للعالم وتبني شخصيته، هذا هو الحُبّ الذي أعنيه وهو غير الحُبّ الذي لا يتجاوز اغراق الشعر بكلمات لا يتخطى صداها حنجرة الشاعر والأوراق المكتوبة عليها قصائده.

بمشقةٍ بالغة، يتعلم الإنسانُ فنّ الاستثمار في المحبّة ويدرك جدواه، ليعيش حياته بهناء مع عائلته وأصدقائه، ويحرص على توظيفها قدر استطاعته في علاقاته الاجتماعية. عندما يختار أن ينظر إلى الناس بحُبّ، ويتحدث معهم بحُبّ، ويتعامل معهم بحُبّ، فإنه يفرض على من يتمتع بسلامة نفسية أن يبادله هذا الحب، ويعيش حياة أكثر سلامًا وهدوءًا. 

أدرك أن هذا النهج عسيرٌ للغاية، بل قد يبدو متعذرًا على كثيرٍ من الناس. شخصيًا، لم أصل إلى هذا المستوى إلا بعد عبور مخاضاتٍ مريرة، وانفعالات قاسية، وتجارب مؤلمة مع أصدقاء عجزتُ عن حماية نفسي من مراوغاتهم وغدرهم. 

البداية كانت بالعمل على حماية نفسي من خلال تجفيف روافد العلاقات الاجتماعية السامة، خاصةً مع الأشخاص الذين كررتُ معهم مبادرات الإحسان مرارًا، لكنهم أصروا على تكرار مواقفهم المؤذية. بعد تلك التجربة، وجدتُ أن الحل يكمن في الاستثمار بالمحبّة، إذ لم أجد غيرها دواءً يشفي جراحي. ومن خلال هذا الدواء، أسعى لأن أُشفي نفسي وأشفي من أحب من ألم الكراهية والحزن والاكتئاب. 

المحبّة ليست مجرد شعور، بل هي طاقة خلاّقة تزرع السلام في الذات والعالم من حولنا. حاولتُ بصعوبة وتمارين للذات مرهقة أن يكون صمتي أكثر من كلامي، وانصاتي أكثر من ثرثرتي، وغيابي أكثر من حضوري، وقراءتي أكثر من كتاباتي، ومحبتي للناس أكثر من محبّة الناس لي، والإحسان إليهم أكثر مما أحسنوا إليّ، أُحسن حتى للمسيئين إليّ. وأن أدرب ذاتي على الزهد بالأضواء والشغف بالسلام والسكينة الباطنية.

نتذوق الحُبّ في القلوب السليمة من الأغلال والأنفس السليمة من الأمراض الأخلاقية والروحية والنفسية. في الحُبّ تتحدث لغة القلب المضيئة، وهي أصدق وأعذب من كلّ اللغات. القلب المتَّقد بالحُبّ يفيض المحبّة على الجميع كما يفيض الينبوع الماءَ العذب. تتجلّى قوّة الحُبّ في كونه سلسلةً لا تنتهي من البدايات، البدايات العميقة، كالحُبّ والإيمان، تعيد بناء ذات الإنسان وتشكيلها من جديد.

اضف تعليق