نموذج الإقناع هذا مضلِّل، لا أقول إن الإعلان غير قادر البتة على إقناعنا؛ لأنه يستطيع أن يفعل ذلك في بعض الأحيان، ولكنْ إنْ كان هذا هو كل ما يفعله الإعلان في واقع الأمر، فإننا نستطيع أن ننعت إعلان شركة أو تو «عديم الرسالة» بالفشل، وكذلك الحال...

نموذج الإقناع، واقتباسًا من معظم القائمين على صناعة الإعلان، فإن الإعلان يتمحور حول توصيل رسائل بسيطة ومقنعة ومنطقية قد تؤدي بدورها إلى تغيير مفاهيمنا وتدفعنا إلى شراء المنتج. يكمن الإبداع في دفعنا إلى الانتباه إلى تلك الرسائل، حيث يؤدي ارتفاع درجة الانتباه إلى نسبة تذكُّر أكبر. يرتبط الإبداع أيضًا بوضع شيء بارعٍ أو استثنائي في الإعلان؛ لأن هذا الأمر سيؤدي إلى زيادة فُرَص التذكُّر ولو جزءًا واحدًا من الإعلان. لا يوجد مكان لخدعةٍ ما، أو حيلةٍ بارعة، أو حتى تلاعب، فكل الأمور واضحة وجلية تحت أنظار الجميع.

إن كان هذا هو الحال -بمعنى أنَّ صناعة الإعلان تحاول توصيل رسالة بسيطة ومقنعة، وأنَّ كل ما يحاول الإبداع فعله هو أن يجعلنا ننتبه إلى هذه الرسالة ونتذكرها- فإننا كعامة الناس بمقدورنا ألَّا نُلقِيَ للإعلان بالًا لأننا إذا نسينا أو اخترنا أن نتجاهل رسالة الإعلان، فلن يكون لهذا الإعلان أدنى تأثير علينا.

ولكني أُومِن بأن نموذج الإقناع هذا مضلِّل، لا أقول إن الإعلان غير قادر البتة على إقناعنا؛ لأنه يستطيع أن يفعل ذلك في بعض الأحيان، ولكنْ إنْ كان هذا هو كل ما يفعله الإعلان في واقع الأمر، فإننا نستطيع أن ننعت إعلان شركة أو تو «عديم الرسالة» بالفشل، وكذلك الحال بالنسبة للإعلان المذكور في دراسة الحالة التالية عن السيارة رينو كليو.

دراسة حالة: السيارة رينو كليو

في عام ١٩٩٢، عانت بريطانيا من موجة ركود نجمت عن التضخم ومشكلاتٍ تعرَّضت لها عُملتها، وتصادف أن كانت شركة رينو للسيارات قد اختارت ذلك العام تحديدًا لإطلاق سيارتها صغيرة الحجم، والتي أطلقت عليها اسم «كليو». كان جانب التميُّز الذي رأتْه رينو في سيارتها كليو يتمثَّل في أنها تجمع بين فخامة المَظهَر التي تُضاهِي السيارات الأكبر حجمًا وبين ما تتميز به السيارات الصغيرة من طابع عملي وقدرة على المناورة أثناء السير. قد لا تشعر اليوم بأن هناك شيئًا جديدًا أو مثيرًا في هذا، ولكنه كان أفضل ما أمكنها التوصل إليه.

أوكلت رينو إلى وكالة الإعلان التي تتعامل معها منذ أمد طويل، واسمها ببليسيز، مهمة ابتكار إعلانات تناسب هذه السيارة الجديدة؛ فتوصلت ببليسيز إلى فكرة مبتكرة تصوِّر أبًا وابنته من الفرنسيين الأرستقراطيين، وكلٌّ منهما يستقلُّ السيارة في أجواء الريف الفرنسي ويُغازِل عشيقَه، وبدا أن رينو لم يَرُقْ لها هذا التصوير النمطي للفرنسيين. وكانت هناك فكرة ترسَّخت في ذلك الوقت في أذهان البريطانيين مفادها أن قيادة الفرنسيين لسياراتهم تنطوي على قدْر كبير من الخطورة؛ ولذلك كانت شركات السيارات البريطانية تتعمَّد ألَّا تقوم بتصوير أي إعلان لها في فرنسا، علاوةً على ذلك لا يمكنك أن تعرض إعلانًا به أرستقراطيون فرنسيون بينما طراز السيارة منخفض السعر ويستهدف بالتأكيد الأشخاص العاديين من عامة الشعب. وهكذا طلبت رينو من وكالة الإعلان تصميم إعلان يتسم بالبساطة الشديدة وتوصيل رسالة مفادها أن السيارة رينو كليو سيارة صغيرة وعملية وفخمة.

أعتقد أن هذا الإعلان الذي طلبتْه رينو استمرَّ يُعرَض لثلاثة أشهر، ولكن مبيعات السيارة كانت كارثة بكل المقاييس. وانتشرت رواية فحواها أن رينو قررت بسبب ذلك ألَّا تعرض كمًّا كبيرًا من الموديل كليو بسبب موجة الركود، وأنها سمحت لببليسيز أن تُنتِج إعلانها الذي ابتكرتْه في البداية وأن تعرضه.

يبدأ الإعلان بلقطة تُظهِر الأب وابنته الأرستقراطيَّيْن جالسَيْن تحت أشعة الشمس على كرسيين خشبيين خارج المنزل. يَظهَر الأب وقد غلبه النعاس، وتَظهَر ابنته الصغيرة الفاتنة (نيكول) تتسلَّل من جانبه — بعدما تتأكد من أنه نائم — لتستقلَّ السيارة رينو كليو (بينما يراقبها السائق فيغض الطرف عنها)، وتنطلق لتلتقي حبيبها، غير أن الأب لم يكن نائمًا. وبمجرد أنْ يرى ابنته تنطلق بالسيارة يأمر السائق بأن يحضر سيارته رينو كليو الخاصة به؛ ومِن ثَمَّ يقوم (رغم الضيق البادي على وجه السائق الذي يظن أن عليه هو أن يقود السيارة بسيده) بقيادة السيارة بنفسه ليلتقي هو بدوره حبيبته، وقد جلب لها باقة من الورد الأحمر الجميل.

بينما نشاهد تلك المشاهد نستمع إلى صوت رخيم معلِّقًا: «ربما تبحث عن سيارة صغيرة عملية، ولكنك ترغب في أن تكون تلك السيارة فخمة أيضًا. ها نحن نقدمها لك: كليو صغيرة الحجم، فخمة ومثالية التصميم.»

ينتقل بنا المشهد إلى نيكول وهي عائدة لاحقًا لتجد الأب وهو لا يزال نائمًا في الظاهر، فتجلس إلى جواره وتناديه ببراءة: «أبي؟» فيجيبها الأب بنفس النبرة البريئة «نيكول؟» عندئذٍ نشاهد اللقطة الأخيرة للسيارة بصحبة المعلق رخيم الصوت: «رينو كليو الجديدة.»

قد تجده إعلانًا لطيفًا ساذجًا إلى حدٍّ ما، ولكن دَعْنا نقُم بتحليله وَفْق نموذج الإقناع المتعارف عليه في مجال الإعلان؛ فالرسالة (الجمع بين الطابع العملي للسيارة الصغيرة وفخامة تصميم السيارة الكبيرة) واضحة من خلال المعلق على الإعلان، ومصوَّرة بشكل لطيف من خلال الاستمتاع الواضح على الأب وابنته بقيادة السيارة. كما أن الاستعانة بالأجواء الرومانسية واللقاء المختلَس بين المحبِّين يَلفِت انتباه المُشاهِد، ومِن المفترض أن الانتباه إلى الشيء يؤدِّي إلى عدم نسيانه بسهولة؛ ومِن ثَمَّ فإن الفكرة المبتكرة تعني أن المُشاهِد يستطيع تذكُّر الرسالة جيدًا، أمر واضح إن فكرتَ فيه.

كانت عملية طرح السيارة رينو كليو مدروسة بعناية، وكذلك أداء الحملة الإعلانية، وما إنْ تمَّتْ إذاعة الإعلان حتى صادف إطلاق السيارة نجاحًا كبيرًا؛ ففي العام الأول وحده تجاوزت مبيعات السيارة النسبة المستهدفة بمقدار ٣٢٪، وحقَّقت حصة سوقية قَدْرها ٧٪ من سوق السيارات الصغيرة. وعند الاستعراض الشامل لعملية إطلاق الموديل، أرجعتِ الشركة الفضْل في نجاح السيارة إلى الإعلان، والذي استمر يُعرَض لمدة ٦ سنوات تالية وحقَّق لشركة رينو ما إجماليُّه ٥٩ مليون جنيه استرليني من العائدات طيلة تلك الفترة (تشاندي آند ذيرسبي بيلام، ١٩٩٣). واعتبر قطاع تجارة السيارات في بريطانيا عملية طرح كليو هي الأنجح على الإطلاق بالنسبة لفئة السيارات الصغيرة، خاصة أن طرحها كان في ظل الركود. ويتذكر الجميع الإعلان؛ في الواقع، اعتاد الناس آنذاك التعليق على كثرة عرضه وكم كان ذلك مزعجًا لهم.

تبقى المشكلة الوحيدة، وهي أن الباحثين حينما سألوا المشاهِدين عمَّا يتذكَّرونه من الإعلان، لم يجدوا منهم مَن يذكر رسالة الإعلان التي يفترض كونها مقنِعة؛ «الجمع بين الطابع العملي للسيارة الصغيرة وفخامة تصميم السيارة الكبيرة»، كما لم يكن أحدٌ مقتنِعًا بأن كليو تمتلك تلك المميزات. والشيء الوحيد الذي كانوا يتذكرونه هو مغامرة «الأب» و«نيكول».

كيف إذن يمكن اعتبار عملية الطرح التجارية هذه هي الأنجح، بينما لا أحد يتذكر رسالة الإعلان؟ من هذا يتضح لنا أن الفكرة القائلة بأن الإعلان ليس سوى نقل لرسالة مقنِعة فكرة منقوصة لا تحيط بالموضوع كله، فلا بد أن هناك عوامل أخرى فاعلة.

* مقتطف من كتاب: (إغواء العقل الباطن: سيكولوجية التأثير العاطفي في الدعاية والإعلان)، لمؤلفه: روبرت هيث، ترجمة محمد عثمان خليفة، نشر مؤسسة هنداوي

اضف تعليق