تشمل الهيمنة الثقافية الرقمية اليوم انتشار الثقافة الغربية كمركز للهيمنة، مؤدية الى تبدل العديد من جوانب الحياة اليومية في دول محيط العالم، ومضفية الى تغير انماط التفكير وطرازات الحياة والسلوكيات الاجتماعية، وهي اشبه ما بالاستعمار الثقافي الرقمي، وهو امر بات يؤدي إلى تغيير في العادات والتقاليد المحلية...

تبقى اطلالات الطبيب وعالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبونGustave Le Bon، في كتابه (سيكولوجية الجماهير) الصادر في العام 1895 حرباً ناعمة، قربها لنا المفكر الكبير ابراهيم العبادي وهو يحاكي سيكولوجيا الجماهير الرقمية Psychology of digital masses في عصر ثقافي ملون اختلت فيه الديناميكيّة النفسية للجماعات في الخطاب والتفكير والنقد والذوق، ليصبح الأفراد داخل (كانتونات اجتماعية افتراضية) شديدة التلون رقمياً تختلط الالوان المجتمعية فيها على لوحات سريعة التبدل، قوية التقلب في السلوك الفردي.

اذ يتعاظم الانقسام المجتمعي ثم يتجزء ومن ثم يلتحم تحت تأثير قوة معلوماتية هائلة شديدة التسطيح في غالب الاحيان تطفو على تضاريس العقول وحافات الفهم المجتمعي لتجعل الفرد يستيقظ ويغفو داخل فضاء معلوماتي هائل ساذج وهش في تماسكه .

حيث يرى المفكر ابراهيم العبادي في عموده المهم الذي اخذ عنوانا نصه -ظواهر جديدة في الاجتماع العراقي، قائلا: (….يثور سؤال عن اسباب تراجع دور المثقفين وضآلة الاهتمام بالمنتج الفكري الجاد،وسيطرة الخطاب المسطح على الاهتمامات اليومية بدل مناقشة قضايا البلاد الاشكالية بنقاش اجتماعي وثقافي واسع النطاق، فقد غابت المجادلات ذات الاتجاهات العميقة،وحل بدلا منها البرامج السياسية التي تشبه الاغذية السريعة التي تشبع الجائع بصرف النظر عما تحتويه تلك الاغذية من مخاطر صحية وتحديات مستقبلية) .

تنعكس هذه الظواهر السياسية والاجتماعية على سلوك وتفكير الافراد، فتشيع اجواء من التناشز بين ما كانوا عليه وما صاروا اليه، يرى عالم الاجتماع البريطاني انتوني غدنز ان القيم والمعايير تعمل على تشكيل الاسلوب الذي يتصرف به افراد ثقافة ما ازاء مايحيط بهم، وهو لا يستغرب من مواجهة المجتمعات لصراعات بين القيم الثقافية بسبب المتغيرات التي يحفل بها عصرنا نتيجة انتقال الناس والافكار والسلع والمعلومات .

ان المتغيرات التي يمر بها العراق على الصعيدين السياسي والاقتصادي انتجت سلوكيات نابعة من (الترف) الذي تعيشه قوى وفئات سياسية استفادت من السلطة والنظام السياسي والانتعاش الاقتصادي وصارت تنفق اموالها يمينا وشمالا لتكريس نفوذها والاستمتاع بثرواتها واستدامة حضورها بشراء (الاصوات) وصناعة رموز (جمالية) واذواق، ومد اجنحة الحماية على (مهرجين ومهرجات) وابقاء الفضاء الاجتماعي ساخنا بافتعال معارك بين (عصابات) الاستعراض سيما الفاشنستات والعارضات والمروجين ونجوم وصناع المحتوى وامثالهم .اي قيم ينتجها هذا النمط من البشر،واي دور اجتماعي يبحثون عنه ….. ؟

ان ما جاء به غوستاف لوبون (Gustave Le Bon) في كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير" (Psychologie des Foules) والذي نُشر عام 1895 كما ذكرنا آنفاً،و الذي ناقش فيه تأثير الجماهير على الفرد وكيف يمكن للكتل البشرية أن تتحول إلى قوة موجهة تصعب السيطرة عليها،فضلاً عن تأثر السلوك الفردي داخل الجماعة البشرية وكيفية تشكل الآراء الجماعية.

ومن أبرز أفكار غوستاف لوبون هو أن الجماهير تكون أكثر عاطفية وأقل عقلانية من الأفراد المفكرين بشكل مستقل، وأنها تميل إلى التصرف بطرق غير منطقية وتحت تأثير القيادة القوية والشعارات العاطفية.

وهنا يلحظ في العصر الرقمي ان مفردة غوستاف لوبون في تعريف دور (الجماهير) قد تحولت الى مفردة الجماهير الرقمية digital masses وهي مجموعات صغيرة في فضاء رقمي شاسع تتجمع ثم تنقلب لتتجمع اثيرياً ثم تتتفرق رقميا وهي أكثر عاطفية وأقل عقلانية من القوى الفردية المفكرة و المستقلة .

فالافراد في العصر الرقمي، امسوا اكثر ميلاً إلى التصرف بطرق غير منطقية وتحت تأثير وسائل الاتصال الحديثة المختلفة وهي تنقاد بشعارات ومفاهيم عاطفية غير مستقرة لنحصل في الختام على انماط من (الاديولوجيا الفوضويّة) وهي منقادة او مستقطبة رقميا حسب قوى وموجات التاثير المختلطة في الوانها عالمياً.

انه عصر الهيمنة الثقافية الرقمية DCH -digital cultural hegemony 

وكانما هي عودة الى المفكر الماركسي الايطالي أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci ولكن بطور وتاثير القوة الرقمية كثقافة افتراضية.

وهنا تشير الهيمنة الثقافية إلى سيطرة ثقافة معينة على الثقافات الأخرى، بحيث تفرض معاييرها وقيمها وأفكارها على المجتمعات المختلفة. وغالبا ما ارتبط هذا المصطلح بالقوة والنفوذ، حيث تكون الثقافة المهيمنة عادةً هي ثقافة القوى السياسية أو الاقتصادية الكبرى. ويمكن لهذه الهيمنة أن تحدث بطرق متعددة، بما في ذلك الإعلام والتعليم والسياسة والاقتصاد والعالم الافتراضي الرقمي السائد اليوم.

وطبقا لغرامشي، لم تحكم الطبقة الحاكمة الطبقات المقهورة بحكم القوة المادية فحسب، بل أيضًا من خلال القيم الثقافية والسياسية والأخلاقية، وهذا ما اطلق عليه غرامشي "الهيمنة"، عندما كتب أثناء سجنه من قبل نظام موسوليني الفاشي كتابه رسائل السجن - Letters from Prison في الاعوام التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية وموته في العام 1937.

اذ نظر غرامشي في مرحلة الانتقال الثوري من الرأسمالية إلى الاشتراكية من خلال الظروف التي فرضتها هزيمة الثورة الاشتراكية في الغرب، ولا يمكن فهم ماركسية غرامشي إلا في خصوصيتها التاريخية، باعتبارها ماركسية عصر الأزمة العضوية للرأسمالية

اذ تشمل الهيمنة الثقافية الرقمية - DCH اليوم انتشار الثقافة الغربية كمركز للهيمنة، مؤدية الى تبدل العديد من جوانب الحياة اليومية في دول محيط العالم، ومضفية الى تغير انماط التفكير وطرازات الحياة والسلوكيات الاجتماعية، وهي اشبه ما بالاستعمار الثقافي الرقمي، وهو امر بات يؤدي إلى تغيير في العادات والتقاليد المحلية ويزجها في عوالم غريبة اخرى . و تؤدي هذه الظاهرة من الهيمنة الثقافية الرقمية إلى طمس الهويات الثقافية الوطنية وتوحيد الثقافات بشكل مختل وغير متوازن.

اذ تركز القوى القائدة للعصر الرقمي الراهن على كيفية استخدام المؤسسات الاجتماعية والثقافية لنشر وتعزيز أفكار قيادة الثقافة الملونة في العالم،و ان

غايتها هي الحفاظ او السيطرة على الفضاء الاجتماعي الافتراضي العالمي، ليتشكل الفضاء الاستعماري الثقافي الرقمي للامبريالية العالمية،

وهي غايات مايسمى براسمالية الاستطلاع او راسمالية المراقبة surveillance capitalism هو مصطلح صاغته البرفسورة شوشانا زوبوف ‏Zuboff استاذة الاجتماع الاقتصادي في جامعة هارفرد، لوصف النظام الاقتصادي الرقمي العالمي الراهن، على انه اقتصاد بات يتمحور حول تحويل البيانات الشخصية إلى سلعة. وفي هذا النظام، تقوم الشركات بجمع وتحليل وبيع كميات هائلة من البيانات حول سلوكيات الأفراد وتفضيلاتهم وتفاعلاتهم، وغالباً دون موافقتهم الصريحة أو وعيهم، و تُستخدم هذه البيانات للتنبؤ بالسلوك البشري والتأثير عليه، مما يخلق مصادر دخل جديدة للشركات.

ختاماً، انها الهيمنة الثقافية الرقمية لعصر ما بعد الإمبريالية: عصر الثورة الصناعية الرابعة.

اضف تعليق