لا تقتصر المناطق الحمراء على السياسية، بل تمتد الى الظواهر الاجتماعية التي تصنف على نوعين: أحدهما ظاهر والآخر غاطس، واذا كنت تجد سهولة في الكتابة عن الظاهر، فان الحديث عن الغاطس غير مقبول اجتماعيا او دينيا، مع ان ظواهره تنهش في جسد المجتمع، وتسير به نحو مسارات لن تقود سوى للهاوية...
هذه المرأة استجمعت قواي وعزمت على الكتابة في الموضوعات المسكوت عنها، التي يُطلق عليها بحسب التعبير الشهير (الخطوط الحمر)، وهي المناطق التي لا يجوز لك تجاوزها، وان أخذتك الحمية والجرأة فعليك تحمل تبعات ما تكتب . قد يستغرب زملائي من قراري، بخاصة الذين نصحتهم بضرورة الحذر في الكتابة الصحفية، فطقس الكتابة مغر، ويزيل من ذهنك الكثير من المحاذير، يدفعك لقول أشياء ما كنت لتقولها لو كنت خارج هذا الطقس اللذيذ بأجوائه والخطير في تداعياته، بالرغم من معرفتي التامة بأن على الكاتب التحلي بالشجاعة والجرأة في طرح آرائه، والا فان كتاباته ستكون باهتة كوجبة غذاء غير مملحة، ذلك ان ملح المقال يكمن في الرأي الجريء، ولا قيمة لمقال بلا رأي اطلاقا، فالمقال في جوهره هو الرأي، ولكي يعطي بعض الكتاب لمقالاتهم ملوحتها يغرقونها بالمثير من المعلومات تغطية لخلوها من الرأي الذي يتعذر ابدائه في الموضوعات التي تصنف على المناطق الحمراء .
وقد نعذر هذا البعض لا سيما في السياسة، ذلك ان البلاد غير المستقرة يغدو الكاتب كالسائر في حقل ألغام لا يدري في أية لحظة ينفجر أحدها، لاسيما في الدول حديثة العهد بالديمقراطية كبلادنا، فاذا كان في الأنظمة الشمولية ثمة حقل او حقلين من الألغام شديدة الانفجار الى حد الكارثة، فان الألغام في الديمقراطيات الناشئة تحيط بك من الجهات الأربع، وعليك أن تتحسب في نقل خطواتك، لأن الايمان بها مازال لم يرسخ في العقول بعد، مثلما يرى الشموليون في الانتقاد انتقاصا من أشخاصهم او محاولة للنيل من مكانتهم او تقويضا لنظامهم او تحريضا للناس عليهم، مع ان هدف الكاتب هو البناء وتصويب المسيرة ولفت الانتباه الى مواضع الخطأ .
علينا ألا نذهب بعيدا، ففي قلب الديمقراطيات الناشئة روح دكتاتورية صارمة لن تتلاشى الا بعد وقت طويل قد لا نتحمله نحن الكتاب العجولين بطبعنا للوصول الى الأهداف، لذلك لا تستغربون تشظي سلطة الدكتاتور الى أكثر من سلطة في هذه الديمقراطيات، فتأخذ من الحريات شعاراتها وتحتفظ روحها بالديكتاتورية البشعة لتتجسد في أكثر من شخص، وليس بمقدورك أن تنتقد منهم أحدا، حتى وان كنت ناصحا او محبا وتريد له خيرا، فنصيحتك تفسر على انها تقليل من شأنه بأنه لا يفهم في السياسية شيئا، فهو في عين نفسه وأنصاره عارفا بكل شيء، ومدركا لكل المواقف، وما أنت الا ضئيل ازائه، فما بالك تضع نفسك ندا له فتسمح لشخصك بتصويب مواقفه وتصريحاته وقراراته، ومن أنت يا هذا، وقد يحرمك حق الحياة، التي قُدر لها ألا تتكرر .
لا تقتصر المناطق الحمراء على السياسية، بل تمتد الى الظواهر الاجتماعية التي تصنف على نوعين: أحدهما ظاهر والآخر غاطس، واذا كنت تجد سهولة في الكتابة عن الظاهر، فان الحديث عن الغاطس غير مقبول اجتماعيا او دينيا، مع ان ظواهره تنهش في جسد المجتمع، وتسير به نحو مسارات لن تقود سوى للهاوية، وجل عدم القبول تحكمه أعراف بالية وخجل مرضي وتفسيرات دينية ضيقة من أشخاص ليس لهم باع طويل في جوهر الدين .
لا أريد عرض أمثلة معينة في هذا المقال، لكي لا يُفسد هذا العرض ما أعتزم كتابته في مقالاتي القادمة، وأتمنى أن يظل طقس حماسي قائما، ففي غيابه سرعان ما يتلفت كاتب متواضع مثلي الى ما يحيط به، فيتردد في بداية الأمر، وفي الأخير ينتهي الى السير (جنب الحيط) كما يقول المصريون، والكتابة بموضوع كالذي نصحني به أحد المحافظين في النظام السابق عند سألته عن ظاهرة تهريب النحاس فأجابني: اكتب عن العادات والتقاليد ودعك من التهريب، فعدت الى مكان عملي مستغربا، وعندما بحثت عن دفتر ملاحظاتي الذي دونت فيه ما يخص الظاهرة لم أجده في حقيبتي .
اضف تعليق