إن طبيعة العصر لم تعد تتقبل أو تستفيد من هذا النوع من الكتابات، فمن الأفضل ابتكار أساليب وفنون أكثر قدرة وتعبيرا عن حيثيات العرص الذي نعيشه اليوم، فما كان شائعا في منتصف القرن الماضي قد لا يصلح من حيث التطبيق والفائدة على عصرنا الآن...
المسرح بشكل عام يعد من الفنون البالغة الأهمية في تطوير الوعي الفردي والجمعي على حد سواء، من خلال الأفكار والمضامين والقيم التي يدعو لها وتظهر في الأعمال المسرحية من خلال التمثيل والحوارات، أو من خلال عملية قراءة الأعمال المسرحية قبل تأديتها على خشبة المسرح، فليست كل النصوص المسرحية قابلة للأداء والتجسيد الفني والفكري على المسرح، بل هناك مسرح من نوع آخر يدعى المسرح الذهني.
هذا النوع من المسرح لا تؤدّى تفاصيله وأحداثه على خشبة المسرح، ولا تظهر شخصياته عبر التجسيد الفني المباشر أمام الجمهور، وإنما هو مسرح نصّي، أي أنه قابل للقراءة فقط، وقد برع في هذا النوع من الفنون المسرحية الأديب الكاتب المصري توفيق الحكيم الذي يعد رائدا من رواد المسرح الذهني في الأدب العربي.
سوف نتطرق في هذا المقال إلى مفهوم المسرح الذهني، ونقدم معلومات معينة عن رائد المسرح الذهني توفيق الحكيم. فالفن عموما هو أحد أهم أركان بناء الوعي الإنساني وتطوير القدرات الذهنية للبشر، ويعدُّ الفنُّ المسرحي أصل الفنون منذ أيَّام الإغريق والرومان، فقد كانت المسارح هي الوسيلة الوحيدة للتعبير الفنِّي بعد حلبات المصارعين والسباقات، وهو شكلٌ من أشكال الفنون ويؤدى أمام حشدٍ من المتفرِّجين، ويشمل المسرح كلَّ أنواع العروض من السيرك إلى المسرحيَّات التي تعالج قضايا المجتمع المختلفة.
أشكال الفنون المسرحية
بالتالي فإنَّ المسرحَ شكلٌ من أشكال الفنون يترجم فيه الممثلونَ نصًّا مكتوبًا إلى عرض تمثيلي متحرِّك على خشبة المسرح، وتتنوع العروض المسرحية بين الخفيفة كالعروض الفنية أو الكوميدية وبين العروض التي تبحثُ في السياسة والفلسفة وغيرها.
ويعدّ المسرح من الفنون الكبيرة التي تمتلك طاقة توصيل متفردة للمتفرجين أو المتلقين بشكل عام، والمسرحية (هي شكلٌ من أشكال الأدب يكتُبها الكاتب المسرحي بطريقة تمكِّنُ الممثلينَ من أدائها على خشبة المسرح، وعادة ما يكون في المسرحية عدَّة أشخاص يدور بينهم حوار وتكون قابلة للأداء أكثر من القراءة) كما يقول الكاتب تمام طعمة في مقاله المخصص لهذا النوع من الفنون المسرحية.
إذن هنالك أنواع متعددة من المسرحيات على المستوى التوصيلي، فهناك مسرحيات يتم عرضها على خشبة المسرح، وتقوم الشخصيات عبر الحوار والحركات المسرحية بتوصيل مضمون النص المسرحي للمتفرجين، ولكن هنالك مسرح ذهني وهو ما سوف نتطرق إليه في هذا المقال، وهذا النوع من المسرحيات لا يتم توصيل مضمونها عبر الأداء فوق خشبة المسرح لجمهور يحضر قاعة العرض، وإنما يتم الاطلاع عليه من خلال القراءة للنص ومن ثم التوصيل الذهني للأفكار والمضامين التي يقدمها هذا النص للقارئ.
الفارق واضح بين المسرحية المؤدات على خشبة المسرح، وبين المسرحية الذهنية التي يتمكن القارئ من استيعاب أفكارها عبر فعل القراءة فقط، لماذا يسعى بعض المؤلفين إلى كتابة المسرحية الذهنية؟، هنالك عدة أسباب أهمها أن الكاتب يفضل أن ينشر مسرحياته في كتب ويعرضها على القراء، فتصل إليهم عبر القراءة، وهذا النوع من الكتاب تجده متمكنا من كتابة القصص الطويلة والقصيرة وفنون السرد الأخرى.
ويعد ّ توفيق الحكيم من أهم وأبرز كتاب المسرح الذهني، ويعد رائد هذا النوع من الكتابة المسرحية، يقول تمام طعمة: (أمَّا المسرح الذهني فهو على عكس المسرح التقليديِّ، فالغرض من المسرح الذهني أن يكون مقروءًا وليس قابلًا للأداء على خشبة المسرح من قبل مجموعة من الممثلين، وهو ما يسهُل تصوُّره وتأمله، لكن من الصعب أن يتمَّ أداؤه أمام الجمهور).
بين المسرح والخيال الواسع
من الملاحَظ أن توفيق الحكيم ينتمي إلى الروائيين الأوائل، وهم بهذا يمتلك قدرات روائية وسعة خيال كبير، مكَّنه من كتابة المسرحية الذهنية بمهارة، واستفاد من مواهبه في الكتابة السردية، يقول تمتم طعمة (لقد ارتبط هذا النوع الأدبي من التخيُّل الروائي بالكاتب توفيق الحكيم رائد المسرح الذهني؛ لأنَّ مسرحيَّاته تنتقل إلى داخل ذهن المشاهد وتأخذه في تفكيرٍ عميق وهي من النوع الذي يسهلُ تخيُّلها ويصعبُ أداؤهَا).
ويعد توفيق الحكيم رائد المسرح الذهني في الأدب العربي، وأحد الأسماء الشهيرة التي تركت أثرًا كبيرًا على المستوى الأدبي والشعبي، كاتب وأديب مصري ولد في الإسكندرية عام 1898م لأسرة ثريَّة من ملاكي الأراضي، وكان والدهُ قاضيًا في الإسكندرية، أظهر توفيق الحكيم حبًّا بالآداب فبدأ بارتياد المسارح وحضور العروض للممثلين الشهيرين مثل جورج أبيض، وكتب عدَّة مسرحيات قصيرة عندما كان يتابع تعليمه الثانوي وقام أصدقاؤه بأدائها.
السؤال الذي لابد من أن نثيره، لماذا لم يتم توظيف المسرح الذهني بشكل جيد ومثمر لتطوير الوعي الجمعي؟، وإذا كان هذا النوع من المسرح قد ازدهر في منتصف القرن الماضي، ووجد له قرّاء ومتابعين ومهتمين، فإنه تراجع مع التطور الهائل في وسائل التواصل والعروض المختلفة في عصر العولمة، الإجابة عن مدى أهمية المسرح الذهني تتطلب بحوثا ودراسات مهمتها أن توضح الفائدة من النصوص المسرحية الذهنية في عصرنا الراهن.
أما إذا اكتشفنا إن طبيعة العصر لم تعد تتقبل أو تستفيد من هذا النوع من الكتابات، فمن الأفضل ابتكار أساليب وفنون أكثر قدرة وتعبيرا عن حيثيات العرص الذي نعيشه اليوم، فما كان شائعا في منتصف القرن الماضي قد لا يصلح من حيث التطبيق والفائدة على عصرنا الآن، لذلك فإن الكتاب والمهتمين مطالبون بالبحث عما يناسب هذا العصر من فنون الكتابة لغرض زيادة الوعي وتعزيز الثقافة وتطوير قدراتنا على العيش بصورة أفضل.
اضف تعليق