الثقافة قوّة ولا ثقافة دون معرفة، والمعرفة سلطة مادية ومعنوية، خصوصًا عندما تتشرّب بها شعوب وأمم، فالمعرفة قوّة بذاتها تحتاجها السلطات الحاكمة وتوظّفها أحيانًا بطريقة إيجابية أو سلبية، وإذا ما اتحدت سلطة المعرفة مع سلطة الدولة فسنكون أمام الحكمة، وتلك فضيلة مثل هذا الاتحاد...
إذا كانت الثقافة والتاريخ ركني الهويّة الأساسيين، فإن اللغة تترك آثارها في الهويّة، لأنها تعمّق من وجود الإنسان وانتمائه، ولذلك يُقال أن الأدب هو مرآة الشعوب التي ترى فيه نفسها ويتم التعبير عن هويّتها وكينونتها، ولا أدب دون لغة مثلما لا ثقافة دون لغة، فهما يتماهيان في علاقة عضوية تتمظهر فيه الهويّة من خلال الثقافة وتتجلّى فيه اللغة بأبهى صورها. وهكذا فإن الوشائج تكون قويّة بين اللغة والثقافة والهويّة، وبقدر ما تسهم اللغة في تكوين الهويّة، فإنها تنطلق من الثقافة وتندغم فيها وسيلة للتعبير والتواصل والتفاهم والمشترك الإنساني.
واعتبر ميشيل فوكو المفكّر الفرنسي في كتابه “الكلمات والأشياء”، اللغة أصوات بشرية دالة على معانٍ عقلية ثابتة في الأشياء ترتبط بها من خلال إشارة وعلامة وصورة وحركة. وبهذا المعنى فاللغة نتاج اجتماعي لملكة اللّسان، إضافة أنها تقاليد اجتماعية وأنظمة تتحقق من خلال التنشئة الاجتماعية للإنسان المتكلّم وعلامات دالّة أيضًا تظهر في الكلمات والجمل والنصوص التي يستخدمها، أي عبر الصورة السمعية التي هي انعكاس للفكر.
وبالطبع فلكلّ لغة نظامها الداخلي المعقّد الذي يحتاج إلى معرفة ونسق ينتقل من الكلمة والنحو إلى الجملة فالنص في إطار هارموني يزداد تأثيرًا كلّما كان محكمًا ودقيقًا في التعبير، خصوصًا حين يعكس “الوحدة اللغويّة” جماليًا، ولكلّ مفردة في ذلك وظيفة وموقع ودلالة ورمزية. وهي تتساوق مع القيم المادية والمعنويّة وتعكس الانتماء الثقافي والمعرفي والحضاري، فالعلامات والرموز التي تتشكّل في اللغة تحلّل المفهوم وتعطيه دلالة حسب أمبرتو إيكو، وهذه الدلالة جماعية حين تخصّ مجموعة من الذين يتكلّمون بنفس اللغة ويعبّرون من خلال تراكيبها عن مفردات وجمل ونصوص وعلامات، وهكذا تكون إحدى مرجعيات هويّتهم ومخزونهم الثقافي.
واللغة لدى أي متكلّم تعبّر عن غرضين، أحدهما بلاغي (أي القصد منه) والثاني تبادلي أي إشراك المتلقّي في سياق أفكاره، الذي يتلقّى الكلام ويستنتج الغرض منه ويعتمد على ما هو متبادل من مرجعية ثقافية مشتركة.
وبقدر ما تكون اللغة وسيلة تعبير عن الهويّة وانعكاس للثقافة، لا سيّما بوجود مشتركات تاريخية واجتماعية وثقافية تمثّل عناصر تعايش وتوافق وتواصل، فهي في نهاية المطاف منتج بشري إنساني يتعزّز بالتفاعل ويغتني بالتراكم، خصوصّا بنشوئه في بيئة مشتركة. تلك هي وظيفة اللغة في التعبير عن الانتماء للجماعة البشرية المعينة، وهي تعبير عن خصوصية الفرد وموقعه في هذا الانتماء أيضًا.
والثقافة تعني ذلك المجموع الذي يتآلف من المعارف والمعتقدات والفنون والآداب والاعراف والقوانين والعمران وطريقة العيش وكلّ ما أنتجه الإنسان. وحسب تعريف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونيسكو” فالثقافة تمثّل جميع السمات الروحيّة والمادية والفكرية (اللغوية) والعاطفية التي تميّز مجتمعًا بعينه أو فئةً اجتماعية محدّدة، وهي تشمل الفنون والآداب والمعتقدات.
وثقافة أي مجتمع مثل هويّته ليست مغلقةً أو نهائيةً بمعنى سرمديّةً، وإنما تتأثّر بالآخر مثلما تؤثّر فيه، ولاسيّما في العادات والتقاليد والفنون والآداب والأذواق، وهكذا تصبح قابلة للإضافة والحذف والتعديل، فالهويّة والثقافة فضاءان مفتوحان متفاعلان مع محيطهما الداخلي والخارجي، وهما ليستا بركةً راكدة، وإنما بحر مترام الأطراف تصب فيه أنهار عديدة تستوعبها الثقافة الأصيلة وتعبّر عنها بهويّتها الحيويّة. والثقافة مثلما هي الهويّة واللغة تتطوّر مثل أي كائن اجتماعي من خلال الفكر والسلوك والتراكم وهي تتغيّر ببطئ شديد، خصوصًا بتعاقب الأجيال والمراحل والحقب الزمنية، بحيث تكون قابلة للتعديل بسبب تواتر الإستخدام والوعي بأهمية ذلك. وكلّ ثقافة مثلما كلّ هويّة ولغة نسبية وليست مطلقة حتى وإن سادت لزمن طويل، إلّا أنها ستكون مثل غيرها عرضةً للتغيير والتجديد أيضًا من خلال سلوك الجماعة مثلما تكون الثقافة الأكثر تأثّرًا باللغة، خصوصًا من خلال الكتابة، حيث تقوم بدور الوساطة لنقل الثقافة.
والثقافي بقدر استقلاليته فإنه متأثّر بالاجتماعي، حتى وإن كانت اللغة مرجعية للتواصل لها قوانينها فإنها في الوقت نفسه مستمدة من الفضاء الثقافي، حيث يستخدم الناس اللغة للتعبير عن هويّتهم الثقافية.
إن جدل اللغة والثقافة ليس بين طرفين متناقضين أو متعارضين، وإنما بين طرفين يتكاملان ويتحدان في اتساق متناغم بموسيقيته الخاصة، يسهم أحدهما في إغناء الآخر. واللغة هي نتاج تطوّر الإنسان وفكره ومستوى تفكيره ونمط حياته، وهو ما نطلق عليه الثقافة، فالثقافة تقوم على عملية بناء لقيم تتشكّل منها كلمات ومفردات وجمل ونصوص لها دلالات تنم عن وعي وسلوك من داخل اللغة ومن خارجها أي من المحيط الاجتماعي والثقافي الذي تنشأ فيه وهما في حال من التداخل والانشباك الذي لا غنى عنه لدرجة التعاشق والتماهي.
الثقافة قوّة ولا ثقافة دون معرفة، والمعرفة سلطة مادية ومعنوية، خصوصًا عندما تتشرّب بها شعوب وأمم، وحسب تعبير الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون فالمعرفة قوّة بذاتها تحتاجها السلطات الحاكمة وتوظّفها أحيانًا بطريقة إيجابية أو سلبية، وإذا ما اتحدت سلطة المعرفة مع سلطة الدولة فسنكون أمام الحكمة، وتلك فضيلة مثل هذا الاتحاد.
اضف تعليق