إن السنوات القادمة تنذر بتحول اعلامي خطير يقلب أوضاع البشرية رأسا على عقب. بل يتنبأ بأن الإعلام الذي نتأمل أن يكون وسيلة لخدمة البشرية، سيكون سببا من أسباب الفوضى والدمار، وشرارة الخراب والحروب التي ستقضي على البشرية، ولعل أخطر حروب المستقبل تكمن في تسخير الذكاء الاصطناعي للأغراض الحربية، واستثماره في مجال الإعلام...
حروب العالم تتناسل بأشكالها وأنواعها وأهدافها. عالم اليوم هو ليس عالم الأمس بالأفكار والتصورات والرؤى. وكما قال رجال العلم، فإننا نعايش اليوم عالما لم يعد يؤمن بحدود النسبية في كل شيء، وحتى فكرة نهاية البشرية باتت على مفترق طريق الذرة والنيترون وألياف السيلكون. التقدم المتوقع سيكون خارج حدود الأحلام والأماني البشرية الصغيرة. إنه عصر الحواسيب العملاقة والعولمة العابرة للقارات. الثورة التكنولوجية الرقمية والصناعية ستؤدي في حدوث أخطر تحول فكري في تاريخ البشرية. انه انفجار النسيج البشري، أو وصول التقدم الإنساني إلى حدود (النقطة الأحادية). تلك النقطة التي لم يكن بالإمكان مناقشتها وتخيلها قبل 80سنة سوى في أفلام الخيال العلمي.
حرب اعلامية
يقول أحد المنظرين الصينيين في علم الاتصال: " الحرب الإعلامية هي فن النصر دون حرب". لكن الحرب الإعلامية ليست سوى المقدمة الضرورية لتحقيق النصر. وإذا لم يتحقق هدف النصر فأن على الإعلام أن يمهد المناخ المناسب لشن الحرب العسكرية أملاً في تحقيق النصر. وبمقياس العلم فهو أحد أسلحتها المؤثرة، نظراً للتحوّل الكبير المتمثل في ظهور الإعلام الجديد التي قد يرجح مستقبلاً كفة المنتصر في أي نزاع، نظراً لما يملكه من قدرة على النفاذ إلى المجتمع والتأثير بصورة مباشرة في عناصره.
أن المعلومات والأخبار عنصر أساسي من عناصر الأمن والاستقرار في المجتمع. ولا يمكن لأي بلد مهما كان حجمه إغفال الدور المحوري الذي تلعبه المعلومات بكونها الرصاصة الأولى التي يمكن أن تؤدي إلى الحرب. وهذه الحقيقة تجعل الدول تفكر بقوة في كيفية الاستعداد لحروب المستقبل من الناحية الإعلامية، وكيفية توظيف الإعلام كعنصر ردع فعال في مواجهة المخاطر، ومجابهة مصادر التحديات.
والعرب اليوم في مفترق الطرق، وفي خضم عواصف فوضى المعلومات، متباينة الأهداف والمقاصد السرية. لعل أبرزها إدخال المنطقة في صراعات داخلية ذات طابع ديني وطائفي وقومي لا تخدم وجودها وتنميتها. والهدف الأكبر إدخال المنطقة بأسرها في مرحلة الفوضى وعدم الأمن والاستقرار عبر قنوات إعلامية عديدة. مقابل التكنولوجيا الرقمية المتطورة التي ستغرق المنطقة بابتكاراتها العلمية، وقوتها الاتصالية الأشد تأثيرا وتحكما بالعقول!
وكما هو معروف، تعتمد إدارة الأزمات السياسية المصنعّة على تقنيات التضليل الإعلامي. وهو ما يطلق عليه الخبراء عمليات الدعاية السوداء القائمة على ما يسمى بناء القوام التراجيدي، أي جعل السرديات أكثر تماسكاً وغير قابلة للافتضاح. كما تستند هذه العمليات إلى المبالغة بتصوير المعاناة وتحميل المسؤولية عنا للمستهدف بالدعاية السوداء، وتوظيف التباينات المقترنة بعمليات التنميط الاثني والقبلي والثقافي وغيرها، والتوسع باستثمار التزوير بالمونتاج وبالمواد والوثائق المزيفة وشهادات الزور.
ليس أمام العرب اليوم إلا تحديث منظوماتهم الاتصالية، وبرمجة عقول العاملين في الاتصال وتجديدها بمنطق العصر. ينبغي للعرب ان يغادروا الخطاب التقليدي المليء بالخرافات والترهات، ويضعوا سيناريوهات مستقبلية بمنطق تقنيات وأساليب الإعلام الحديث وبتقنية اختراع المستقبل نفسه. لابد لهم أن يحتووا ذلك الطوفان ألمعلوماتي الهائل الذي بدأ يخترق كل مسامة من مسامات الحياة. فمن العبث اليوم إن تمارس بعض الدول محاولات القمع ألمعلوماتي وحكر الاطلاع والمشاركة من خلال إغلاق المواقع الإلكترونية والمدونات الشخصية وغيرها من وسائل الصحافة الرقمية على سبيل المثال، تحت مفاهيم وقوانين بائدة.
ثمة سيناريوهات متعددة، ورؤى متباينة، منها ما يقول إن وسائل الإعلام الرقمية ستساهم في صنع المستقبل، وتطوير الثقافات وتوسيعها لخدمة البشرية، والمساعدة في تثبيت الأمن، وتقليل الحروب والأزمات. ومنها ما هو تشاؤمي لا يرى في القادم من الأيام أي تحسن إيجابي في خدمة الأعلام للإنسان. بل يعتقد ان المشكلات الإعلامية ستزداد سوءاً ً، وستتفاقم معاناتنا أكثر مما عانينا في الماضي.
تحول اعلامي
وإن السنوات القادمة تنذر بتحول اعلامي خطير يقلب أوضاع البشرية رأسا على عقب. بل يتنبأ بأن الإعلام الذي نتأمل أن يكون وسيلة لخدمة البشرية، سيكون سببا من أسباب الفوضى والدمار، وشرارة الخراب والحروب التي ستقضي على البشرية. ولعل أخطر حروب المستقبل تكمن في تسخير الذكاء الاصطناعي للأغراض الحربية، واستثماره في مجال الإعلام. فالعالم مقبل على حروب دائمة وفوضى مستمرة. يقول (ستيفن هوكنج) وهو من أبرز علماء الفيزياء النظرية في العالم: "أن التطور في الذكاء الاصطناعي سيصبع أكبر حدث في التاريخ البشري، ولكنه في نفس الوقت قد يكون آخره إن لم توضع قواعد لتجنب أخطاره." حقا، المستقبل غامض ومخيف. والعالم في وضع غير مستقر. ولابد من رؤية واستراتيجية إعلامية عربية لمواجهة حروب المستقبل ، لأن لكل عصر وسائل أعلامه وأساليب حروبه. وعصرنا العربي، مع الأسف، مازال مشغولا بالصراعات وبرامج الطبخ والخرافات وتثوير خطاب العنف والكراهية. مازال الإعلام يقرأ نشرات الأخبار عن الزعيم الأوحد الذي لا تنتهي صلاحيته بتقادم الزمن ، ويفرد مساحات واسعة لمحاورة سياسي لص مازال يسرق باسم خدمة الشعب، ورئيس حزب إسلامي يتحدث لجمهوره باسم الأنبياء والأئمة، وهو غارق بالسحت الحرام من قمة راسه إلى أخمص قدميه. وما زال يستضيف شيخ قبيلة يدعو لعصبية جاهلة، ويأخذ إتاوات مقابل حماية أبناء عشيرته.
العالم في قادم الأيام سيشعل ثورات معرفية واتصالية مفزعة. وسيبتكر أساليب إعلامية للتحكم بالعقول أكثر قوة وتأثيراً مما هي عليه اليوم، وسيبرمج العقول من خلال طائرات إعلامية مسيّرة، وسينتج الرصاصة الأخيرة في حروب المستقبل. وعقولنا ستكون تحت الطلب والسيطرة. وليس أمام العرب ألا برمجة العقول بالعلم.
لنعترف بوجود عالمين، عالم مشغول بالخرافات والخزعبلات، وعالم مهووس بصناعة المعلومات والذكاء الاصطناعي. ثمة أنسان في شمال الكرة الأرضية يسألك بذكاء عن مهنتك العلمية واختراعاتك الجديدة في الطب والعلوم، وآخر يسكن في بلاد العرب يسألك بغباء بالفم المليان عن قوميتك وديانتك، والأهم مذهبك: هل أنت شيعي أم سني ؟! تلك هي المشكلة الحضارية نكون أو لا نكون!
اضف تعليق