أن إدارة الأزمات لا تقوم إلا على إدارة الأزمات بالأزمات، ‮ ‬فالغيمة لا تمطر‮ ‬غباراً‮ ‬وكذلك سحابة الدخان لا‮ ‬يُنتظر منها الغيث؟ وبعيداً‮ ‬عن التهوين والتهويل لما‮ ‬يجري‮ ‬في‮ ‬الفضائيات العراقية،‮ ‬فإن هذا الاحتضار قد‮ ‬يفضي‮ ‬إلى قيامة فتنهض العنقاء من رمادها‮...

هو انفجار فضائي‮ ‬من نوع مختلف،‮ ‬لا نتحدث عن كوكب‮ ‬يصطدم بآخر أو مركبة فضاء تخرج عن مسارها،‮ ‬نحن نتحدث عن انفجار فضائي‮ ‬إعلامي‮ ‬عراقي‮.‬الاصطدام هذه المرة بين المئات من القنوات التلفزيونية،‮ ‬والمئات من المحللين السياسيين الذين اقتحموا منازل العباد تحت قصف المدافع والتفجيرات وألغام الطائفية والأزمات المفتعلة،‮ ‬بحيث فوجئ العباد بغزو فضائي‮ ‬في‮ ‬زمن التشرذم والتحزب لم‮ ‬يسبق له مثيل‮. ‬

بعد سنوات طويلة اعتادوا فيها على قنوات حكومية قليلة،‮ ‬لكنها وحَّدتْهم فكريّاً‮ ‬بنسيج اجتماعي‮ ‬واحد،‮ ‬مثلما أفقدتهم أيضاً‮ ‬بعض حقوقهم الاتصالية. لقد شهد العراق الجديد تناسلَ‮ ‬الفضائيات،‮ ‬مثلما شهد أيضاً‮ ‬تناسلاً‮ ‬لجيش من المحللين السياسيين والاستراتيجيين،‮ ‬وخبراء لشؤون العراق والشرق الأوسط والأدنى،‮ ‬كثيراً‮ ‬ما‮ ‬يصبّون الزيت على نار فوضى الحروب الميدانية والطائفية،‮ ‬بدلا من تقديم المعلومات المعرفية والواقعية للجمهور‮! ‬

مثلما نشهد بالمقابل جيوشاً‮ ‬من الإعلاميين‮ ‬يقتحمون بجهلهم وطائفيتهم هذه الوسائل التي‮ ‬أشعلت حرائق الطائفية والكره بين أبناء الوطن الواحد. فقد شهد الإعلام العراقي‮ ‬بعد الاحتلال دخولَ‮ ‬تجار اللحوم والبسكويت والألبان للاستثمار في‮ ‬الإعلام لتحقيق‮ ‬غايات معروفة،‮ ‬مثلما دخلت العمليةَ‮ ‬السياسيةَ‮ ‬جحافلُ‮ ‬من السياسيين العراقيين الذين أجادوا في‮ ‬دول المهجر بيع الخضروات والمسابح وفن العمالة ضد أوطانهم.

إن العدد المتزايد للمحللين السياسيين باطّراد على شاشات الفضائيات العراقية‮‬،‮ ‬ظاهرةٌ‮ ‬تستحق الوقوف عندها،‮ ‬ولا سيما أن هؤلاء باتوا‮ ‬يساهمون اليوم في‮ ‬صياغة الرأي‮ ‬العام العراقي‮ ‬عبر ما‮ ‬يقدمونه من معلومات،‮ ‬أو حتى عبر ما‮ ‬يقومون به أحياناً‮ ‬من تسريب معلومات استخباراتية عن لقاءات وطبخات سياسية في‮ ‬الكواليس. وما‮ ‬يزيد الطين بلةً‮ ‬وخطورةً،‮ ‬هو أن العديد من هؤلاء‮ ‬يقدمون أنفسهم على أنهم محللون استراتيجيون من الطراز الرفيع ولديهم من المعارف والخبرات العسكرية ما‮ ‬يدفع بأرقى وأهم مراكز الأبحاث ومعاهد الدراسات الاستراتيجية في‮ ‬العالم للتواضع أمامهم،‮ ‬علما أن معظمهم لم‮ ‬يسبق له أن كتب حتى مقالاً‮ ‬واحداً‮ ‬بالشؤون الاستراتيجية‮.‬

تتفق التعاريف الموضوعة للمحلل السياسي،‮ ‬على أنه‮ ‬يجب أن‮ ‬يكون قادراً‮ ‬على سبر أغوار الحدث السياسي،‮ ‬وعدم الوقوف عند ظواهره السطحية،‮ ‬والسعي‮ ‬إلى كشف بواطنه ومسبباته والتنبؤ بتداعياته المستقبلية،‮ ‬فيما الأغلب ممن‮ ‬يظهر على الفضائيات لا‮ ‬يمتلك القدر الكافي‮ ‬معرفيّا،‮ ‬لمهمة التحليل وإنما لمهمة التنجيم. هؤلاء الذين‮ ‬يسمونهم في‮ ‬الفضائيات‮ (‬خبراء‮) ‬و(استراتيجيين‮)‬،‮ ‬يتكاثرون بسرعة هائلة على الشاشات،‮ ‬يوزعون آراءهم العاجلة ويثوّرون مواقفَ‮ ‬ضد مواقفَ‮ ‬أخرى،‮ ‬يصرخون ويتقاذفون الشتائم،‮ ‬ويتبادلون تُهم الخيانة والارتهان للأجنبي‮ ‬أو العمل كأبواق لدى السلطة؛ دون أن نجد في‮ ‬كلامهم حكمة تنقذ العباد من وجع السياسة العراقية ومآسيها،‮ ‬وسلوك‮ (‬صبيان‮) ‬السياسة الجدد.

لا‮ ‬يزال المحلل السياسي‮ ‬في‮ ‬العراق‮ ‬يركز على إثارة الرأي‮ ‬العام،‮ ‬كاشفاً‮ ‬عن الأحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية،‮ ‬من دون البحث في‮ ‬الأسباب المباشرة،‮ ‬مع العجز عن فهم علاقتها الجدلية مع الزمان والمكان وحركة التاريخ،‮ ‬بل‮ ‬يسعى إلى تأويلها وفق الجهة المموِّلة له أو الحزب الذي‮ ‬ينتمي‮ ‬إليه،‮ ‬ليس أكثر‮. ‬

فائدته‮ ‬كما عبر عنه مواطن شعبي‮ ‬يشبه بطيخ ابيض لا طعم له‮! ‬ما‮ ‬يثير التندر ان الكثير من المحللين له أكثر من وجه‮، يغير جلده مثل ثعبان‮، فترى كلامه في‮ ‬الفضائيات الخليجية لا‮ ‬يشبه كلامه في‮ ‬الفضائيات العراقية‮، مرة‮ ‬يتحدث عراقيا ومرة ايرانيا أو امريكيا‮‬، ولم تعد له هوية‮ ‬واضحة‮، هويته البحث عن المال الحرام‮، والظفر بمنصب في‮ ‬الرئاسات الثلاث أو في‮ ‬مؤسسات القوة والشهرة‮، كما فعل الكثير من الإعلاميين والمحللين الذين‮ ‬يظهرون اليوم على الشاشات وهم‮ ‬يتبخترون مثل الطاواوويس‮ ‬بعد أن خدعوا العباد بالامس بكلامهم المعسول‮ .‬وصدق من قال عش رجبا ترى عجبا‮!

‬لقد تناسل الجهل في‮ ‬المؤسسات الاعلامية بشكل لا‮ ‬يوصف‮ ‬،وأصبحت هناك جمهرة من الأميين‮ ‬يقودون أخطر جهاز في‮ ‬الدولة‮، مثلما تناسل معهم بالفطرة عدد كبير من المحلليين والاستراتجيين والخبراء الذين كانوا لايحلمون‮ ‬يوما برؤية ستديو تلفزيوني‮ ‬وهؤلاء لاتنقصهم الأخلاق فقط وإنما تنقصهم الكثير من المعارف والمهنية والمعايير الإعلامية الذي‮ ‬تجعله لا‮ ‬يفرق بين الخبر والرأي‮، والتحسين والتقبيح في‮ ‬تحليل الحدث‮، والتفريق‮ ‬بين النوايا الحسنة والأعمال السيئة،‮ ‬وكذلك معرفة الفرق بين التنبؤ والتخمين.

لان المحلل السياسي‮ ‬هنا ليس بالضرورة موظفا في‮ ‬المؤسسة الإعلامية بل هو صاحب رأي‮، ويمتلك خلفية‮ ‬يتشكل من أدوات التحليل وقاعدة معلومات تمكنه من المتابعة وتعزيز مضمون التحليل‮ ‬فالإعلام‮ ‬لم‮ ‬يعد مجالا محايدا بل هو جبهة صراع مفتوح بتقنيات ناعمة‮. ‬ومع الأسف لدينا اليوم صنف ردئ من المحلل السياسي‮‬، انه صنف المحلل المحتال الذي‮ ‬لا‮ ‬يهتم بالتوعية ولكنه معني‮ ‬بأستثمار المتداول من الأفكار البسيطة والمتحيزة‮ ‬لمنحها الشرعية‮، والرقص على الحبال السياسية لاهداف أيديولوجية أو مالية‮، وهذا الصنف هو الذي‮ ‬تبحث عنه وسائل الإعلام لا لاستهلاكه لأنه‮ ‬غير مكلف ويؤمن شكلا‮ ‬من الضجيج النظري‮ ‬وتكريس الالتباس.

ونقول أخيراً‮ ‬إذا كان لدينا هذا العدد الكبير من خبراء التحليل السياسي،‮ ‬فلِمَ‮ ‬لا‮ ‬يتحسنُ‮ ‬وضعنا السياسي،‮ ‬وهو وضع سيئ لا نجده في‮ ‬كل أوطان العالم؟‮! ‬أم أن المنجمين الجدد اكتشفوا بجهلٍ‮ ‬أن إدارة الأزمات لا تقوم إلا على إدارة الأزمات بالأزمات،‮ ‬فالغيمة لا تمطر‮ ‬غباراً‮ ‬وكذلك سحابة الدخان لا‮ ‬يُنتظر منها الغيث؟ وبعيداً‮ ‬عن التهوين والتهويل لما‮ ‬يجري‮ ‬في‮ ‬الفضائيات العراقية،‮ ‬فإن هذا الاحتضار قد‮ ‬يفضي‮ ‬إلى قيامة فتنهض العنقاء من رمادها‮!‬

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق