كيف تكون اللغة هي الفكر المعبّر عنه؟، التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكر حسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز إدراك العقل للأشياء التفريق بينهما أي بين الفكر واللغة في الاسبقية الادراكية، إذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما...
الفكر يكتسب هويته وماهيته بعلاقته بالوجود المادي المتبادل المتخارج معه جدليا، وليس باللغة التي تعّبر عن الوجود في ملازمة الفكر التجريدي لها. فالفكر يكسب الموجودات صفاتها البائنة، ويكتسب هو أي الفكر المتموضع بالموجودات المدركة هويته وصفاته ماديا أو مثاليا بحسب منهجية التعبير والفهم. الفكر منهج عقلي بالتفكير لا يمكنه غير توصيف ما يرغبه متحققا في الاشياء ومواضيع الادراك لكنه لا يقوم بخلقها تفكيرا تجريديا. الفكر هو تعبير لغوي صادر عن ملكة تفكير العقل.
والفكر واللغة في تلازمهما معا لا يستطيعان خلق وجود شيء مادي وأعطائه صفاته وعلّة وجوده في علاقة تعبيرهما عنه كوجود صوري مجرّد في الذهن فقط، وأنما الوجود يكتسب صفاته وماهيته في تعالقه مع الادراك العقلي الواقعي له، قبل الفكر المعبّر عنه في تعالقه مع تعبير اللغة...بمعنى ادراك العقل للموجود أو الشيء يسبق دلالة الفكر واللغة التعبير عنه.
وجود الاشياء في نوع علاقتها مع التفكير العقلي لها، تسبق الفكر واللغة المعبّرة عنها لاحقا. فالعقل يستبق الفكر واللغة في تلازمهما وادراكهما الوجود الخارجي كوسائل بينما يكون الادراك العقلي لها غاية وهدف، وهذا يخالف مثاليو فلاسفة نظرية المعرفة في تزمتّهم القول( أن فعل المعرفة لا يقوم في عملية ادراك الموضوع، بل في فعل خلق الموضوع، وأن الوجود لا يوجد في ذاته، أنما الفكر هو الذي ينشؤه).
ببساطة متناهية الفكر لا ينشيء وجودا شيئيا من فراغ وجودي سابق عليه، بل من موجود مادي مستقل أو موضوع مدرك خياليا سابقين عليه، الموجودات والموضوعات والاشياء في استقلالية تامة عن الادراك العقلي والفكر واللغة، بدون توفر وعي قصدي يتناولهما معرفيا. لكنه (الفكر) يضطلع بمهمة تغيير وتبديل الاشياء والموجودات كمواضيع يدركها العقل ويعمل على تخليقها في جدلية من الصيرورة الدائمة غير المنتهية بين الموجودات ولغة الفكر المعبّر عنها...اللغة تخلق مواضيعها التصورية بالفكر ولا تخلق موجوداتها المادية بالواقع... فالموجود المادي سابق في وجوده الادراك العقلي وتعبير اللغة عنه.
فهل يسبق الفكر أو اللغة أحدهما تراتيبيا في تعبيرهما عن الوظيفة الادراكية التخليقية العقلية التناوبية للموضوع،؟ وفي تعبيرهما عن وجود المادي في أختلافه عن التفسير المثالي على مستوى أفصاح اللغة في علاقتها بالاثنين كوجودين غير مختلفين المادي والمثالي في وظيفة اللغة التعبير عن كل منهما بمواصفاته الخاصة به. واقع الموجودات المستقل في عالمنا الخارجي لا يعيّن نوعية التفكير بها، بل اختلافات مناهج الفكرفي تفسيرها الموجودات والاشياء تعطيها الصفة المادية بالفكرالتصوري المجرد فقط ولا يعطي الفكر الصفة المادية حسّيا واقعيا للموجودات السابقة عليه. فالمادية جوهر دفين بالموجودات لا يقوى الفكر خلقها بل توصيفها اذا كان ذلك متاحا ممكنا.
أننا في هذه الحالة نفهم أن الفكر المادي في تمايزه عن المثالي هو في أسبقية الفكر على اللغة على صعيد الادراك الوجودي للاشياء في الواقع عقليا (صمتا) تفكيريا تخليقيا داخليا من دون الافصاح عنه باللغة تعبيريا شفهيا أو كتابة.
بمعنى أن تخليق وأعادة انتاجية الشيء المفكر به (جوّانيا) من قبل العقل الذي نقلته الحواس كموضوع لتفكير العقل به، يكون حضور الفكر سابق على عطالة اللغة في فعالية التفكير بالموضوع صمتا عقليا، وتنقلب المعادلة في الاسبقية حين يتم توظيف العقل اللغة التعبير عن الشيء في وجوده الخارجي وبأدراكه المتعيّن من جديد. فاللغة هنا في تعبيرها عن مدركات العقل الخارجية تسبق الفكر.فأدراك الشيء عقليا في العالم الخارجي يكون في أسبقية اللغة التي تكون هي الفكر في ذات الوقت ونفس المهمة تربطهما في تعيين وجود الشيء المدرك حسيا أو حدسيا وحتى خياليا.
وأن بدت(اللغة والفكر) كليهما متلازمتين لا يمكن التفريق بين الفكرة واللغة المعبّرة عنها ادراكا أو حدسا، كما من المتعذّر أعطاء أسبقية لاحداهما على الاخرى في التعبير المختلف عن الوجود ماديا أم مثاليا بشكل مفارق في تمييز أحدهما عن الاخر. لا يحدد الفكر جوهر الاشياء المادية بل يحدد الصفات المادية المدركة ظاهريا للاشياء فقط. مادية الشيء أو مثاليته في التعبير عنه لا يحدده وجوده كموجود بل يحدده تعبير اللغة عنه (منهجيا) في تجريدها الصوري... منهج التفكير هو الذي يتم به تفريق ما هو مادي عن ماهو مثالي.
هذا لا ينطبق على ميتافيزيقا البحث الفلسفي، فالمنهج الفلسفي المعرفي سواء أكان ماديا أو مثاليا فهو عاجز عن معرفة ما هو ميتافيزيقي. وأنما المنهج يعالج مدركات الواقع العياني باختلاف مادي منهجي عن ما هو مثالي..فمنهج التفكير هو المسؤول الاول عن التعبير عن حقيقة الاشياء والتصورات والادراكات العقلية.
اللغة والمنهج
اللغة قرينة الفكر في عدم امكانية التفريق بينهما في تعبيرهما عن الاشياء الموجودة في العالم الخارجي. والفكر يتعالق مع اللغة في فهم الاشياء وادراكها. واللغة لا وجود حقيقي لها في مفارقتها التعبير عن الفكر وكذا لا أهمية للفكر في الوجود خارج العقل في تعبير اللغة المتعذّرعنه. فاللغة لا تعبّرعن موجودات خالية من المعنى المضموني الفكري غير المدرك عقليا بل وفي هذا تفقد اللغة أسمى خاصية لها أنها وسيلة العقل في التعبير عن الموجودات والاشياء في العالم الخارجي.
عليه يكون التمييز بين الفكر المادي عن الفكر المثالي لا يتم بمنطق تعبير اللغة المجردة أو المفصحة عنهما كموضوعين مختلفين في التعبير اللغوي فقط من دون نظرة منهجية ونظرية علمية يهتدي كلا من الفكر واللغة بهما، كما فعل هيجل بخلاف ماركس في أعتباره الجدل أو الديالكتيك المثالي يتم بالفكر المجرد وحده وليس في تعالقه المتخارج مع الواقع او الوجود الحقيقي المادي للاشياء من أجل تغييره.
أن العقل وحده له الأسبقية في تحديد الوجود والفكر المتعالق معه أن يكون ماديا أم مثاليا في تعبير اللغة عنه منهجيا. واللغة تكون في هذه الحالة وعاء الفكر في تحديد نوع الوجود المادي أو المثالي المفصح عنه بتعبير اللغة. فالفكر نتاج عقلي لا يعمل بغياب موضوع تفكيره، بل والفكرقوة مادية يكتسب ماديته من الجدل المتخارج مع موضوعه.. والفكر من غير موضوع مدرك له غير موجود في نظام ومنظومة العقل التراتيبية في وعيه الاشياء، أي لا يعي الفكر أدراك ومعرفة الموجودات، لأن غياب موضوع الادراك يعني غياب وجوده المادي أو المتخيّل الذي يعطي الافكار نظامها الادراكي المقبول المتسق بين موضوع الادراك ومدرك الانسان العقلي له.
الحقيقة الثانية في أشتراط توفرها في الفكر لكي يكون فاعلا منتجا، أنه لا وجود لشيء مدرك بظواهره الخارجية وماهيته الداخلية أي متعيّن في شكل ومحتوى مادي يدركه الانسان في الطبيعة وعالم الاشياء لا يتمتع بنوع من القوانين التي تحكم علاقته الذاتية الخاصة به كجوهر وصفات، مع العلاقة الادراكية بالانسان كفعالية فكرية تنّظم وجود الاشياء وتعمل التعريف بها وأكسابها تخليقا وجوديا مستحدثا على الدوام، وأن ما يخلعه الفكر الانساني من معارف في تعديله تلك القوانين في عالم الاشياء أنما هي قوانين أدراكية فكرية لم تكن موجودة مدركة قبل ملازمة الاشياء للفكر لها الذي يريد فهمها وتفسيرها وتنظيمها،.. وليست قابلية الفكر الانساني أنشاء قوانين تخليقية بغية أيجاده كائنا أو شيئا آخرجديدا لم يكن موجودا ينشؤه الفكر كما يرّوج له فلاسفة المثالية...الفكر لا ينتج عوالم الاشياء ماديا في وجودها الطبيعي من لا شيء متعيّن يسبق وجوده تفكيرالانسان المنظّم به....وعالم الاشياء والموجودات في الطبيعة هو عالم مادي رغم أن وسيلة تخليقه وبنائه المعرفي تقوم بالفكر واللغة التعبيرية المجردة عنه التي تعتبربمثابة المنهج والدليل الذي يقود الانسان الاهتداء به كنظريات وقوانين في تغيير عوالم الاشياء وفي مدركات الطبيعة معا.
أن نظام العالم الطبيعي الخام ونظام العالم الانساني المخترع المصنوع كيفيا متمايزا ومبتكرا في قوانينه في تلازمهما معا عرف بهما الانسان كيف ينظّم أفكار أدراكاته بما يفيده منها في عالم تفاعله الادراكي مع عوالم الاشياء من حوله، كما أن الانسان في تخليقه لعالمه الانساني المتطور علميا ومعرفيا وعلى مختلف الصعد والنواحي وفي كافة المجالات لم يستمد تقدمه الا بمفارقته (وهم) فرضية أن قوانين الفكر التي يبتكرها ويخترعها الانسان تسعى في حقيقتها المطابقة مع قوانين الاشياء بما يقعد تطور وتبديل وجود الاشياء المحكومة بقوانين ذاتية وموضوعية ثابتة قبل محاولة الانسان تغييرها من جهة ، كما أن مطابقة الافكار لموجودات الاشياء والقوانين التي تحكمها ليس رغبة الاكتفاء بمعرفتها دون أرادة تغييرها وتبديلها،وبغير ذلك يجعل من الفكر مثاليا أبتذاليا ساكنا في علاقته بواقع الاشياء في وجودها المادي الساكن أيضا في الطبيعة، وبذلك لا يتم تبديل الواقع بالفكر، ولا تطوير الفكر بعلاقته الجدلية بتغيرات وتحولات الواقع....قوانين الاشياء المستقلة يكتشفها الانسان ليس في مطابقة تفكيره معها بل بهدف محاولته الاستفادة منها.
الفكر الذي يعمل على تطوير واقع الاشياء أنما هو الآخر يتطور في مجاراته تطورات الواقع ومجاوزته لتلك التطورات في تعاليه عليها باستمرار... وفي الفرضية الخاطئة التي تقود الى نتيجة خطأ أيضا هو في أعتبار عملية أدراك الانسان الاشياء هو في سعيه مطابقة قوانينه المستحدثة وضعيا مع قوانين الاشياء في وجودها الطبيعي قبل أدراكها وهو أفتراض وهمي غير حقيقي ولا يمكن الانسان فهم وتنظيم عوالمه الحياتية بهذا التنميط من التفكيرالسلبي مع أدراكاته لعوالم الاشياء في وجودها الطبيعي..الفكر حين يكتشف قوانين الاشياء فهو لا يخلقها ولا يحاول مطابقة تفكيره معها من أجل المطابقة الواقعية لها بل من أجل محاولة تسخيره تلك القوانين كهدف له بالحياة وحصوله على الافضل دائما.
الهدف أن تدخل الاشياء المدركة مع الفكر في جدل ثنائي متبادل يكسبهما كلاهما التغيير والتطور وبغير هذا الفهم معناه نفي أن يكون هناك فائدة من وعي الانسان لموجودات الطبيعة وأستحداث رؤيته وقوانينه لها..ألنتيجة التي يحرزها الفكر بالنهاية من هذه العملية هو أن تكون قوانين الفكر هي قوانين الاشياء في الواقع... بمعنى أصبح ما نمتلكه عن الاشياء من أفكار نتيجة مدركاتنا لها هو وحده الذي يعطي وجودها الحضوري الواقعي في حياتنا ليست كقوانين لذاتها بل قوانين يكتشفها الانسان من أجل تطوير حياته.
كيف تكون اللغة هي الفكر المعبّر عنه؟
التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكر حسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز ادراك العقل للاشياء التفريق بينهما أي بين الفكر واللغة في الاسبقية الادراكية.اذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد بأكثر من ادراك وتأويل واحد؟.
هنا اللغة والفكر الملازم لها في التعبيرليس بمقدورهما تفسير وجود الاشياء بمعزل أحدهما عن الاخر أي بمعزل اللغة عن الفكر، أو الفكر عن اللغة لأنه يكون في ذلك أستحالة ادراكية تعجيزية للعقل.في أمتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغب العقل التعبير عنه وجودا مدركا.
أن في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة أن الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، أو أن اللغة هي وعاء الفكر، أو أن اللغة هي بيت الوجود.وأن اللغة مبتدأ ومنتهى ادراك وجود الاشياء في العالم الخارجي.جميع هذه التعبيرات الفلسفية تفهم اللغة على انها فعالية ادراكية عقلية في تحديد الفكرة أو الموضوع في تموضعهما خارجيا كي يتم ادراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبيرولا يتوفر مجال أدحاضه في الاحتكام للعقل في أدراكه الوجود الطبيعي.
في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل او خارج العقل،يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة أو الموضوع المعّبرعنه بهما. فبهما(الفكر واللغة) أصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا ومتعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه عقليا، وفي هذا يكون تفكير العقل خارجيا أو بالاحرى من أجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة.حين يكون تعبير اللغة داخليا فهو يقوم على الفهم الصامت، وتعبير اللغة خارجيا يكون في التعبير عن المدرك بالنطق الصوتي كما يذهب له جومسكي.
صمت اللغة في اشكالية الفصل بين اللغة والفكر
حين نقول تفكير العقل الداخلي الاستبطاني المقصود به هو التفكير الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكير العقل واقعيا ماديا. وبالواقع أن هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا فكريا وخارجيا بوسيلة اللغة تعبيريا، انما هما في الاصل تفكير لعملية واحدة للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي او متخيل آخر. أي أن العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة الموضوع ) المدرك في زمن واحد. وهكذا هي الحال في تناول أي موضوع أو شيء من العالم الخارجي.أن ادراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس بما لا يحصى في تنوعها وتوقيتاتها الزمنية المتباعدة والمختلفة في نوعيتها، لايعقلها العقل دفعة واحدة، ويعطي الدماغ ردود الافعال الانعكاسية الارادية وغير الارادية لها بعشوائية من دون تراتيبية يعتمدها العقل.
ذهبنا الى استحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة افصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود أو شيء ما في العالم الخارجي.وليس في التفكير الصامت داخليا للعقل. نذّكر ان علم اللغة واللسانيات تعتبر اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسيروجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة باعتبار ان اللغة هي فعالية العقل في تعيين ادركاته للموجودات والاشياء الخارجية.
لكننا نجازف بالمباشر قولنا انه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكير بوجود شيء مادي او خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه بل يحتاج الفكر وحده لانه وسيلة تفكير العقل المعقدة الوحيدة في تخليقه لموضوعه بوسيلة الفكر لوحدها دونما اللغة، ويكون صمتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه كوجود غير مادي، اي وجود خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه بعد تخليق العقل له.
للتوضيح اكثر فالتفكير المادي الصامت هو في معالجته موضوع واقعي او شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، اما في تفكير الصمت (الخيالي) غير المعبّر عنه باللغة فهو الهام تخييلي في انتاج العقل موضوعا يدرك خارجيا بلغة جمالية خاصة في حالة من الكمون خلف فهم الوجود الجمالي، لم يكن ادراكه متيّسرا قبل افصاح العقل له وتخليقه جماليا، كما في خيال انتاج لوحة فنية او قطعة نحتية أو أي ضرب من ضروب التشكيل ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنه بغير لغة الكلام او لغة الكتابة.
نأتي الآن الى معالجة اصل امكانية فصل الفكر عن اللغة، على انها استحالة ادراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في استقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالادراك واعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها، أو لم يدركها في وجودها المستقل التي ايضا تستطيع الحواس و اللغة التعبير عنها.
يبقى عندنا أن التفكير العقلي الصامت ماديا او خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا في لحظات زمنية واثناء التفكير بموضوع ما متعينا ادراكيا، أي حينما يفكر العقل صمتا فهو يفكّر بالفكر ذاته كوسيط بموضوع الفكر الذي نقلته الحواس المدركة للاشياء او في موضوع ابتدعه الخيال ايضا يحتاج العقل الفكر كوسيط في تخليقه واعادته الى عالم الاشياء باللغة المعّبرة عنه. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت. اللغة في تفكير العقل الصامت لا اهمية ولا وجود لها يتاح ادراكه من غير الشخص الذي يفكر بموضوعه عقليا ويبقى الفكر وحده وسيلة العقل في التفكير وتخليقه مواضيع الخيال العقلية.
وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، اي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا، فان العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة الا على انها جزء من الفكر وملازمة له خارج الدماغ او العقل في وجود الاشياء، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه، فلا يدرك خارجيا من غيره الا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل(الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء.
وعندما يتجسد ويتعين الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا او بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية او المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكر عن اللغة ذات أهمية كبيرة في اتمام عملية الادراك، ولكن تبقى اللغة في اثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها باولويتها في التعبير عن الوجودات الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة ادراك الحس والعقل لها بعد تخليقها لموضوعها، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات.
بمعنى توضيحي ان اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكير العقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته المستقليّن كليهما عن العالم الخارجي، وانما تستمد اللغة اقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل خارج وعي العقل لها في زمنية محددة تلزم عقلا مفكرا واحدا في موضوع واحد، هو غير مدرك وجودا لغويا لدى غيره من عقول تختلف في ادراكها وتفكيرها والتعبير ربما في نفس الموضوع. وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون ادراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرة عنها. ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن والعقل، وايضا من الفكر واللغة. لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا.
فالموضوع المفكّر به صمتا غير لغوي يبقى حبيس ووصاية العقل في التفكير به قبل اهمية انشغال العقل في التعبير اللغوي خارجيا عنه. اللغة اثناء زمنية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل. فليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة معه لكنه يلزم حضور التفكير الصوري لغويا. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، لكن العقل بتفكيره بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة تعبير غير ملزمة لنقل تفكير العقل الى مدركاته الشيئية.
أن من المهم في ختام هذا المبحث الاشارة الى فرق اللغة في التعبير عنها بالكتابة، عن لغة الكلام المنطوق، فطبيعة اللغة كلاما تحاوريا بين مصدر ومتلقي هو انها لغة منطوقة صوتيا، مفردات من الاحرف والمقاطع والكلمات ذات دلالة صوتية في التعبير عن موضوع أو عدة مواضيع، لكن الاصوات لوحدها لا تشكل لغة شفاهية مفهومة مالم تكون لتلك الاصوات دلالة معرفية قصدية عن أشياء بعينها دون غيرها.
اضف تعليق