من المهم جدا، التمييز بين التعددية الثقافية والعولمة، لاسيما وان الكثير من الناس لا يدرك التمايز، في ان المقصد من تعدد الثقافات هو التناسق والتفاهم الكوني، بالدرجة الأساس، فيما العولمة، تحمل بين أجندتها، أهدافا سياسية، في سيطرة الثقافة العضلية على الواهنة، وتسييرها وفق اشتراطاتها وقواعدها...
يقول العلماء انّ اتقان أكثر من لغة، والتعرّف على الثقافات المتعدّدة، حتى في حالة أنك لا تندمج معها، يساهم بشكل جذري في صقل الاعتبارات الأخلاقية، ويسمو بأنماط السلوك الإنساني.
وأكثر من ذلك، فان مهارات اللغات لدى الانسان، الى جانب اللغة الام، تمكنّه من التلائم مع بيئة ترابط إيجابية، وقدرة على حل المعضلات الاجتماعية والتواصلية والثقافية، أكثر من أولئك الذين يجيدون اللغة الأم، فقط.
وسائل التواصل الاجتماعي، والترجمات الرقمية الفورية، تؤسس لبيئة عالمية متعددة الثقافات، توفّر الزمن والمسافات نحو مجتمع عالمي، يختلف تماما عن أنماط التجمعات الإنسانية التقليدية عبر العصور، فلأول مرة يتحقق مشروع الانسان الكوني، الذي يجد نفسه قادرا على التفاهم والتواصل، واستيعاب ثقافة أي مجتمع، بسبب تكنيكيات العلاقات المستحدثة، وأساليب استعراض سيل غزير من ثقافات الأمم، عبر الميديا.
يعتقد باحثون، ان مفهوم "المجتمع الوطني"، سوف يتلاشى في المستقبل، وسوف يضمحل تأثير أية مجموعة قومية او اثنية او دينية معينة، وسوف تنقرض النظرة العنصرية، لصالح الإنسانية المصقولة بالتربية "العالمية" التي توفرها وسائل "التواصل العالمي"، التي تفرض الانفتاح بين الشعوب، حتى على حساب الميزات التي يتم عرضها من خلال التاريخ واللغة والغذاء والفنون والجغرافيا والقيم الأسرية والمعتقدات، الامر الذي يهمّش الانقسامات العرقية والدينية، ويحد من سوء الفهم، وقد ثَبتَ ذلك بشكل واضح في مجتمعات اوربا الغربية الحديثة، التي تبنّت مفهوم التعددية الثقافية والدينية، واسّست لتربية اجتماعية تبدأ من نشأة الفرد المبكرة، في انّ الانسان مواطن عالمي، وانّ وطنه، الكرة الأرضية.
من المهم جدا، التمييز بين التعددية الثقافية والعولمة، لاسيما وان الكثير من الناس لا يدرك التمايز، في ان المقصد من تعدد الثقافات هو التناسق والتفاهم الكوني، بالدرجة الأساس، فيما العولمة، تحمل بين أجندتها، أهدافا سياسية، في سيطرة الثقافة العضلية على الواهنة، وتسييرها وفق اشتراطاتها وقواعدها، مع عدم نكران او اختصار، الفوائد الإيجابية للثقافة الغالبة.
تناهت المجتمعات "المتطورة" الى حقيقة ان تلاحم الثقافة المحلية مع المعرِفات الوافدة، يحقق المثل الإنسانية العليا، ويصفّي المجتمع من رواسب العنصرية والاستعلائية، وقد نجحت تلك الشعوب عبر التربية القومية المتسامحة في المدرسة، والمنابر، من بناء مجتمعات متعددة الهويات الفرعية، اكثر تجانسا وانتاجا من المجتمعات التاريخية التقليدية، الأحادية القومية او الاثنية او المذهبية.
وفي بلد مثل هولندا، تحقق سياسة الإدغام الاجتماعي الهولندية، الكثير من الإيجابيات، حتى باتت المدارس الإسلامية تقوم بمهامها الى جانب مدارس الديانات الأخرى، في تسامح ديني مثالي، بل تعدى ذلك الى تفاعل الأديان فيما بينها.
وتكاد السويد تتغير ديموغرافيا في العقود الأخيرة بسبب "التساهل الثقافي" الذي أدى الى موجات كبيرة ومستمرة من المهاجرين، وكلما زاد التنوع، انحسرت التوترات، والسلوكيات العنصرية.
تعتمد الفلسفة الاجتماعية الاوربية على حقيقة ان البشر متساوون، في الحقوق والواجبات، فيما هم على غير ذلك في الثقافات، سوى في مستوى الوعي، وقد بلورت "الفلسفة الانتشارية"، حقيقة النظرة العادلة الى البشر، لكنها تعترف بان هناك بؤرا ثقافية متخلفة وأخرى متطورة، مثلما هناك أخرى متعصبة، أو متفتحة، وهو ما يؤدي الى الصراعات السلبية.
وفي كندا، يسير المجتمع منذ إرساء الحكومة، على سكة سياسات تعددية الثقافات وتبنيها كأيديولوجية، بشكل رسمي، منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، موليةً أهمية اجتماعية للهجرة الوافدة لتدعيم المجتمع بالأيدي العاملة، والطاقة البشرية.
الدول الغربية، عملت بهذه القاعدة ونجحت في استقطاب العبقريات من كل ينابيعها الثقافية، وتمكنّت من استثمارها، جاعلة من البيئة بؤرة ثقافية متقدمة، تقيس قيمة الانسان من انسانيته أولا، ثم مهاراته وقدراته على الابتكار والإنتاج، من دون النظر الى الهوية الخاصة.
اضف تعليق