ربما بات الحديث عن الاخلاق او القيم العليا والذوق العام في نظر البعض او الكثيرين في بلدنا، العراق، حديثا شاذاً وقديماً ليس له مكان له اليوم مع تردي الاخلاق والذوق العام، نذكر في طفولتنا كان أهالينا يعلموننا ويربوننا على القيم السامية وتعزز المدرسة ما يربينا أهالينا عليه...
ربما بات الحديث عن الاخلاق او القيم العليا والذوق العام في نظر البعض او الكثيرين في بلدنا، العراق، حديثا شاذاً وقديماً ليس له مكان له اليوم مع تردي الاخلاق والذوق العام، نذكر في طفولتنا كان أهالينا يعلموننا ويربوننا على القيم السامية وتعزز المدرسة مايربينا أهالينا عليه، أما اليوم وبسبب الظروف العامة المعروفة لدينا وبسبب غياب سلطة القانون وهيبته، تمادى كثيرون في التجاوز على الكثير من القيم وإزاحتها بسلوكيات طارئة وأفكار ظلامية فوضوية، حتى بات يُنظر الى المتمسك بالاخلاقيات العالية على أنه إنسان غير واقعي بل هو خارج السرب، وأصبح النظر الى الاخلاقيات على أنها مثاليات، والمثالية ينظر اليها على أنها خيال او أقرب الى الخيال، بينما الاخلاق ليست خيالا، لأنها واقع فعلا، مترسخ في البعض ممن حافظ على قيمه العليا بالرغم من الفوضى واللامبالاة والإغراءات حوله، وهذا يجعل المتمسك بقيمه إنسانا فريدا عن الآخرين، يشعر بالغربة عن محيطه.
أهمية الاخلاق
إنّ الاخلاق السامية مهمة بشكل استثنائي الآن لغرض إعادة بناء البلد والحياة، لأنَ بناء الإنسان قيميا وثقافيا يسبق بناء الجدران، ولأنَ بناء الاوطان يبدأ ببناء الإنسان اولاً.
وتحتاج القيم العليا كي تنمو او تعود او تستعاد الى : التربية والتعليم وتشجيع البيئة لها، ولكن التشوه أصاب هذه المجالات، الامر الذي جعل موضوعة تنشيط القيم صعبة، هنا، ومع شيوع الفوضى ومرور البلد بظروف صعبة واستثنائية تبرز الحاجة أكثر الى الإعلام المسؤول بجميع أشكاله ( المقروء والمسموع والمرئي) كي يقوم بدوره في تعزيز القيم بعد إعادتها الى السطح وتذكير الناس بها، لكن ثمة معوقات تعترض هذه المهمة، في مقدمتها التقاطع بين مضامين الرسالة الإعلامية الهادفة ومصالح بعض الناس ممن يرون أن قيماً كالصدق والأمانة والنزاهة والالتزام بالقوانين لاتصب في مصلحتهم ولاتنفعهم على العكس من المخالفة التي تسهل لهم أمورهم وسط الفوضى العامة.
الامر الآخر إن وجود سلطات فاسدة ومسؤولين فاسدين يسبب الإحباط للمواطن الذي يقول لماذا التزم بالاخلاق بينما السلطة لاتلتزم وعدم التزامها يؤدي الى ثرائها بينما انا أبقى فقيرا. هنا، ليس كل الناس بالقابليات نفسها، هناك من لايتخلى عن قيمه وذوقه مهما كان الثمن وهناك من يركض مع القطيع . الحقيقة، هناك شيء مهم لايتوقف عنده المخالفون، وهو احترام الذات وهو شعور تصنعه أمور كثيرة من بينها التمسك بالقيم العليا والذوق.
المهنية الإعلامية مطلوبة
نعود الى دور الإعلام الذي تقسم وظائفه الى ( إعلامية، ترفيهية، ثقافية )، ربما الصحافة المقروءة تهتم أكثر من المسموعة والمرئية بموضوعة القيم، هناك مقالات وموضوعات كثيرة تتناول الاخلاق والذوق، لكن وسائل الإعلام المسموعة والمرئية تأتي بدرجة أقل في الإهتمام مع أن المرئية أكثر تأثيرا من المقروءة لأنها تدخل الى كل بيت وتبث برامجها في صور اولقطات وهذه تبقى في الذاكرة أكثر من الكلمة، ولكن وسائل الإعلام المسموعة والمرئية غالبا ماتكون مشغولة ببرامج الترفيه وأخبار السياسة ومشاكل الناس، بعيدا عن موضوع التوعية، تحتاج هذه الوسائل الى نهضة او دفعة لتهتم بالاخلاق والذوق، ـ فحولنا الكثير من الضجيج اللااخلاقي (سلوكيات رديئة مثلا) والبصري (التجاوزات والتشوهات التي أصابت الشوارع والأمكنة العامة مثلا ) والسمعي ( الألفاظ السيئة مثلا) ـ وفي حال نهوض وسائل الإعلام يشترط في برامجها وتمثيلياتها أن لاتكون شعاراتية مباشرة تسبب الملل للمستمع والمشاهد بل يفترض بها أن تعتمد الأساليب الجاذبة المقنعة وهذا يتطلب طاقات ذات خبرة ومطلعة على ماتقوم به وسائــل إعلام عالمية.
من المعروف إن الاعلام البناء القائم على أسس متينة يمكن أن يغير من إتجاهات الجمهور ـ وإن كان هذا الامر ليس سهلا ـ ولكن يجب أن يتمتع بالحرفية حتى لايتخبط ويؤدي الى نتائج عكسية، لاسيما أنّ السوء يعمّ ويقاوم الجودة لأنه أسهل على الكثيرين، على سبيل المثال، قد تُبث رسالة إعلامية على أنها إيجابية لتعزيز القيم ولكنها ـ أي الرسالة ـ تتضمن سواء عن قصد أم عن عمد رسالة أخرى تحرض ضد قيمة اخلاقية، او قد تقدم الرسالة بشكل كوميدي فج يسيء أكثر مما ينفع .
يمكن للإعلام القيام بحملات مستمرة ترتكز على نقاط أساسية مهمة، ولن يكون التأثير سريعا او واسعا بالضرورة، لأنّ المسألة تتطلب صبرا وأعواما وظروفا أفضل، فالحملات الاخلاقية لن تؤثر في الجميع بل ستحرك نوازع الخير لدى من يمتلكها في باطنه من الذين خالفوا القواعد الاخلاقية الجميلة اما سهوا او جهلا او تناغما مع الجماعة الغارقة في الفساد او اللامبالاة مثلا.
نقاط مهمة لحملات إعلامية
نقول، ترتكز الحملات الإعلامية التي يمكن أن تقودها صحف ومجلات وإذاعات وفضائيات على النقاط والإجراءات الآتية:
ـ الاستعانة بالشخصيات المشهورة والناجحة التي يحبها الناس لبث الرسائل المطلوبة، ولكن يشترط في تلك الشخصيات أن تكون بعيدة عن أية شبهة، فليس من المعقول أن نأتي بشخصية مشهورة لكنها مرتشية مثلا لتتحدث عن الأمانة والصدق مثلا!.
ـ يمكن استثمار الأطفال لأنهم الفئة الموثوق من صدقها ونقائها، في تمثيل او بث الرسائل على شكل مشاهد تمثيلية او أغانٍ . الأغاني تلقى رواجا أكثر بين الجمهور. (هل تتذكرون أغنية .. لو كلنا نلتزم بالنظام .. ماكان صار ازدحام)؟
ـ استخدام اللافتات والشاشات الإعلانية في الشوارع لتعزيز القيم العليا بأن يبث من خلالها رسائل بأسلوب بسيط محبب جاذب.
ـ عرض مشاهد عن شباب، مثلا، يقومون بممارسات إيجابية تصب في احترام الذوق العام، كقيامهم بحملة شعبية لتنظيف الشوارع.
ـ عرض مشهد: مواطن يرمي قمامته في الشارع ثم يتخيل أن بيته صار شارعا ورمى الناس فيه القمامة، هذا التخيل يفضي به الى الشعور بالندم فيسارع الى جمع قمامته والتوجه الى المكان المخصص لرمي النفايات.
عرض مشهد ترمي فيه الأم علبة العصير او بقايا الحلوى الخاصة بطفلها من نافذة السيارة الى الشارع أمام ناظري الطفل، ثم يظهر الطفل في البيت وهو يقود سيارته اللعبة ويرمي الأزبال في الغرفة او حديقة البيت مثلا، تنهره الأم وتقول له لاترمِ الأوساخ هنا، فيستغرب ويقول أنا أفعل مثلك ياماما، أرمي الأزبال في شارعي . تشعر الأم بالندم لأنها سلكت سلوكا مشينا وتقرر الكف عن رمي النفايات في الشارع .
ـ عرض مشاهد حول مساعدة الناس لبعضهم البعض، وحول الاعتذار شجاعة، ومراعاة الآخرين في كل تصرف، والأمانة الخ.
ـ شكرا، من فضلك، لطفا .. هذه مفردات تدل على الذوق تحتاج الى تنشيطها عبر وسائل الإعلام، مقابل محاربة مفردات أخرى طفت الى السطح بكل خاص عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
ـ الاستعانة بفن الرسم اما في صفحة من صفحات جريدة او مجلة ورقية او الكترونية او برنامج تلفزيوني او مهرجان او أية فعالية ثقافية او تربوية، كالمعارض التي تركز على موضوعة القيم . وهنا أود الحديث عن تجربتنا قليلا في شبكة الحياة لوحة رسم لدعم التفكير الايجابي والطاقات والمواهب .. شبكة إعلامية الكترونية تطوعية، تهتم بربط الإبداع بالاخلاق من خلال معارضها وورشها التدريبية الموجهة الى الطفل والشاب. الطفل كالعجينة يمكن أن نصنع منها مانريد ولهذا وجدنا أن استجابة الأطفال لمضامين الورش كبيرة، نتواصل مع الأطفال وأولياء امورهم أيضا حتى يكون هناك تناغم في تحقيـــــق الأهداف المرجوة.
ـ البحث عن حكايات الناس الذين لديهم مواقف اخلاقية واضحة يمكن أن تُضرَب أنموذجا عبر تجاربها الواقعية، مهما كانت قليلة ، لأن من المآخذ على الإعلام عموما تركيزه على السلبيات أكثر من الايجابيات، وكأنّ البلد خالٍ من الخير والطيبين تماما، فضلا عن تداول فيديوات تظهر الإنسان الغربي إنسانا محسنا ومقارنته بشخص عراقي سيء ـ وبلغة التعميم التي تعد من مشاكل التعبير لدى كثيرين ممن يجهلون الأسلوب السليم لوصف حالة او حالات من غير تعميم ـ، في الوقت الذي يمكن مقارنته أيضا بشخص عراقي محسن او الأخذ بنظر الاعتبار أن كثيرين يقومون بأعمال خير صمتا بعيدا عن الإعلام.
ـ إعداد برامج ونشر كتابات تتضمن حكايات جاذبة عن القيم الجميلة موجهة الى الصغار عبر قصص مخصصة لفئتهم العمرية، وكذلك أخرى موجهة للكبار.
ـ إعداد برامج مسابقات حول قضايا الاخلاق كي يتحفز الجمهور ويبحث وخلال بحثه سيطلع على كنوز القيم، على سبيل المثال مسابقة تتضمن طرح سؤال يتعلق بحكاية قديمة تتجلى فيها الاخلاق، او مسابقة في الرسم او كتابة قصة او إنشاء عن القيم العليا، بدلا عن المسابقات التافهة التي يشغل بها بعض وسائل الإعلام الجمهور.
ـ تحتاج وسائل الإعلام الى إعلاميين يتمتعون بالخبرة والكفاءة والوعي المهني والاخلاقي حتى يتخلص المشاهد من البرامج السطحية التي تسخر من الناس وتشجع على السخرية وقلة الذوق كبرامج تنفذ في الأمكنة العامة والمولات يستضاف فيها الناس وتطرح عليهم أسئلة تافهة عن موضوعات غير ذات قيمة او تحريضية وتتسبب بتجاوزات على الضيوف او الاستهزاء بهم، فإذا كانت البرامج فاقدة للذوق فكيف لها أن تسهم بتعزيز الذوق؟
على سبيل المثال قرأنا رد فعل لشاب يشجع اللقاءات التلفزيونية التي تجعل من الزوجة مادة للسخرية .. يقول .. نريد المزيد حتى نضحك على عقولكن ! وآخر يستهزئ بالزوج ويتلفظ بألفاظ غير لائقة بحقه .. ونقول لولا هذه البرامج الفجة لماقال هذا الشاب ماقاله . برامج كاميرا خفية ساذجة وغير مدروسة، تتطفل على الخصوصيات وتشجع على انعدام الاحترام، وهي بذلك تتجاوز على الذوق.
ـ الانتباه الى نقطة مهمة وهي من الذي يكتب عن الاخلاقيات والقيم والذوق ؟ من يقدم برنامجا عن ذلك؟ إن من يشترك في الحملات والبرامج عليه أن يكون مهنيا ولايمكن أن يكون كذلك مالم يتمتع بأخلاق صحفية قبل كل شيء.
مثال : لايقتنع الجمهور بصحفي او مقدم برامج يتداول الأخبار الكاذبة والمفبركة او يتلفظ بالألفاظ السوقية ويتجاوز بشكل فج على الرأي الآخر في الإعلام او وسائل التواصل الاجتماعي ، لأنه ليس محط ثقة، ووجوده يضعف الرسالة النهضوية الاخلاقية.
ـ إشراك صفحات لاسيما مشهورة في شبكات التواصل الاجتماعي في المهمة النهضوية من خلال بث الرسائل الإعلامية من خلالها، ذلك أنها تمتلك جماهير واسعة وبالإمكان التأثير فيها.
ـ التركيز على أهمية تطبيق القانون بلا خطوط حمر واستثناءات، سلطة القانون وجدت لمن لم تنفع التربية في جعله مواطنا صالحا، سلطة القانون تطبق على الجميع من أعلى الهرم الى اسفله. وهذا يتطلب خطة إعلامية كبيرة وجهودا جبارة.
ليست المهمة سهلة، بل ستواجه سخرية ومقاومة من آخرين، لاسيما أن الفساد ينخر في معظم مرافق العمل والحياة، ولكن سنقول للساخرين والمقاومين .. هل لديكم خطة اخرى؟ وما العمل ؟ وكيف نواصل الحياة وسط كل هذه الفوضى؟ أليس من المهم ان نحاول ونحاول بدلا عن ان نترك سرطان الفساد يستمر ويستشري اكثر؟
متطلبات الحملات الإعلامية
تتطلب الحملات الإعلامية التي يمكن أن تقودها صحف ومجلات وإذاعات وفضائيات تنسيقا مع جهات معينة لتنفيذ برامجها كوزارات الثقافة والتربية والتعليم العالي والصحة وأمانة بغداد والدوائر البلدية في المحافظات ومؤسسات أخرى كي تقوم بدورها أيضا في دعم هذه الحملات والبرامج الهادفة.
الامر يتطلب دولة، خطة حكومية، ولكن نعود ونقول.. مع وجود ملفات فساد، لا ثقة في الجهات الحكومية العليا، وعليه، يتطلب أن يقوم الإعلام وحده بالمهمة الشاقة وهذا يتطلب شجاعة ونية حقيقية وطاقات ترغب فعلاً بالتغيير.. يتطلب نضالاً ولو على مستوى أفراد يعملون على استقطاب آخرين ومعهم منظمات مجتمع مدني فاعلة وليست شكلية، وهكذا يكبر المشروع ويتسع، لعلّهم ينجحون في إعادة بناء النفوس يوما ما على طريق النهوض بالبلد.
اضف تعليق