لم يدّخر الغربيون جهدا أو حيلة أو أسلوبا فكريا أو سواه إلا واستخدموه كوسيلة في العبور إلى العقل العربي والإسلامي، والدخول إليه عبر ثغرات فكرية من خلال توظيف الصحافة والفكر لتحقيق هذا المأرب الخطير، والصحافة بصفتها ذات تأثير كبير جدا على العقل والتفكير...
لم يدّخر الغربيون جهدا أو حيلة أو أسلوبا فكريا أو سواه إلا واستخدموه كوسيلة في العبور إلى العقل العربي والإسلامي، والدخول إليه عبر ثغرات فكرية من خلال توظيف الصحافة والفكر لتحقيق هذا المأرب الخطير، والصحافة بصفتها ذات تأثير كبير جدا على العقل والتفكير كانت إحدى أساليب أمريكا والغرب في اختراق الصحافة العربية لصالح مراميها وأهدافها.
تعتبر الصحافة المكتوبة قوة اجتماعية واقتصادية وثقافية مهمة في المجتمع، وهي قوة رئيسية في تشكيل الرأي العام وبالتالي تؤثر بشدة على الجهود الوطنية والدولية من أجل التقدم الوطني والتفاهم العالمي، وقد تطورت الصحف من ورقة واحدة توّزع محليا إلى نتاج متعدد الصفحات يوزَّع دوليا.
وظهرت الصحف الأولى في ألمانيا في أوائل القرن الثامن عشر، ومع بداية القرن العشرين ظهرت الجمعيات المهنية الصحفية وبدأ التطور التدريجي للصحف المملوكة من قبل الشركات المساهمة الكبرى، وتحولت الصحف إلى مؤسسات متكاملة وظهرت وكالات تجميع الأخبار مثل: يونايتدبرس، أسوشييتدبرس، ورويترز.
كتب جيمس جوردون بينيت مؤسس صحيفة ذي هيرالد The Herald الأمريكية عام 1836 قائلا: كان للكتب يومها... وكان للمسارح يومها... وكان لمعبد العقيدة يومه... والصحيفة يمكن أن تسبق كل ذلك في الحركات العظيمة للفكر الإنساني وللحضارة الإنسانية"، فالصحيفة يمكن أن ترسل المزيد من الأرواح إلى السماء، وأن تنقذ المزيد من الأرواح من الجحيم، وهي تستطيع أداء هذه المهمة بشكل أفضل من كل الكنائس في نيويورك إلى جانب تحقيق ربح مادي في نفس الوقت، وبخصوص علاقتها (أي الصحافة المكتوبة) بالتغريب فقد كانت لها حصة الأسد في هذه العملية منذ بداياتها الأولى في القرن ما قبل الماضي، حيث دأب بعض المثقفين العرب المتشبعين بالثقافة الغربية إلى إنشاء صحف ومجلات محملة بأفكار تدعو إلى تنظيم المجتمع على أساس علماني عقلاني من خلال إظهار إعجابهم الشديد بالغرب والدعوة إلى الاقتداء بع وتتبع طريقه.
- فأنشأ جورجي زيدان ((1914-1861 مجلة الهلال في مصر وذلك في سنة 1892 ، وقد كان على صلة بالمبعوثين الأمريكيين، كما كانت له سلسلة من القصص التاريخية التي حشاها بالافتراءات على الإسلام والمسلمين.
- وأسس سبيم تقلا صحيفة الأهرام في مصر، وقد سبق له وأن تلقى علومه في مدرسة عبية بلبنان، والتي أنشأها المبشر الأمريكي فانديك.
- وأصدر سليم النقاش صحيفة المقتطف التي عاشت ثمانية أعوام في لبنان انتقلت بعدها إلى مصر في 1884.
- كان الشيخ محمد عبده (1905-1849) من أبرز تلاميذ الأفغاني وشريكه في إنشاء مجلة العروة الوثقى، وكانت له صداقة من اللورد كرومر والمستشرق المستر بلنت، الداعية إلى مهاجمة التقاليد وإصدار فتاوى تعتمد على أقصى ما تسمح به النصوص من تأويل بغية إظهار الإسلام بمظهر المتقبل لحضارة الغرب... والدعوة إلى إدخال العلوم العصرية إلى الأزهر لتطويره وتحديثهن ذلك التحديث الذي أدى إلى تدمير الأزهر نهائيا.
- ويعتبر محمد حسنين هيكل (1888-1956) رئيس تحرير جريدة السياسة في الفترة الأولى من حياته من أبرز المستغربين، وقد أنكر الإسراء بالروح والجسد معا انطلاقا من نظرة عقلانية في حياة محمد (ص) إلا أنه عدل عن ذلك وكتب معبرا عن توجهه الجديد في مقدمة كتابه " في منزل الوحي ".
أما في عصرنا الحالي فقد تغير الأمر قليلا ففي سلسلة مقالات للكاتب الصحفي فهمي هويدي بدأها بمقال " الاختراق وسنينه " حول الاختراق الأمريكي للصحافة العربية، أشار فيها إلى إستراتيجية أمريكية لتحسين صورتها في الوطن العربي من خلال دعم صحف خاصة تخصص نسبة ضئيلة من مادتها الصحفية لهذا الغرض، أما الباقي فيخصص للموضوعات الصحفية الاعتيادية مع التركيز على نشر الليبرالية، وقد تزامن ذلك مع صدور العدد الأول من صحيفة تصدر في مصر بترخيص أجنبي هي " نهضة مصر " شعارها الرئيسي هو " الليبرالية طريقنا إلى المستقبل "، والتي جزم رئيس تحريرها (عماد الدين أديب) بأنها آتية لا ريب فيها! من خلال مقال افتتاحي يحمل الاسم نفسه: "الليبرالية آتية لا ريب فيها"، حيث أخذت تذكرها هذه الصحيفة وتجربة طالبان الأفغانية وكأن الاختيار المتاح أمامنا حسب السرجاني هو بين بوش وعصابته من الصقور الجدد أو حكم طالبان...
ومن هنا تنطلق المشكلة الحقيقية حول إمكانيات اختراق الصحافة العربية من خلال صحف تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية، تعمل على تحسين صورتها ومدى قبول وقدرة الليبراليين العرب على أن يكونوا قاعدة تؤسس عليها الولايات المتحدة إستراتيجيتها الدعائية في المرحلة المقبلة، ولعل آخر ما قرأناه مقالا غاضبا نُشر لأحد أساتذة الفلسفة يدعونا فيه لأن نُسقط من قاموس حياتنا العقلية تعبير الفلسفة الإسلامية لأن في استخدامنا لهذا التعبير: " تشجيع للفكر اللاعقلاني ونشر الخرافة" فضلا عن أنه لا يعجب السادة المستشرقين.
من جهة ثانية هنالك بعض الحالات التي تدّعي الوجهة الإسلامية ولكنها تخدم العقيدة الليبرالية والعلمانية والتغريبية، والتي تأخذ أشكالا متعددة كلها تصب في مصلحة التغريب وتوهين الدعوة إلى الله وتهيئة المجتمعات المسلمة لتلك العقائد والدعوات الهدامة، ومن بين هذه الأشكال:
1- استكتاب تلك الرموز في تلك المجلات لتطرح أفكارها التغريبية المناوئة لشريعة الله تعالى بكل حرية.
2- استضافة تلك الرموز في شكل مقابلات وحوارات، وتتصدر صورهم تلك المقابلات، ومن المؤلم أن الذين يقومون بإجراء تلك الحوارات من صحفيي تلك المجلات دون مستوى ضيوفهم دهاءً ومكرا وخبرة في أساليب الدس والخداع بمراحل، بحيث يصبح دور المحاور تلميع تلك الرموز وتطهيرها أمام القراء الذين يفقد الكثير منهم يقينهم بدينهم بين ضيف لسن حاذق يعرف من أين تؤكَل الكتف، وبين صحفي فقير الثقافة قليل الفهم جاهل بما يديره ضيفه من أفكار وحِيَل.
3- من أخطر صور تلك المجلات قيامها باستضافة رموز التغريب والفساد والعناد لدين الله في حوارات أو ما شابه، ثم يقوم المشرفون على تلك المجلات بمطالبة بعض الكتاب والدعاة إلى الله بالرد على أولئك المرجفين الذين يطرحون في مقالاتهم وحواراتهم وسمومهم ضد أحكام الله تعالى وتشكيكهم في صلاحية شريعة الله للحكم والقيادة في هذه الحياة، ثم يُطلب من الكُتاب والدعاة الرد عليهم، وهذا بلا ريب خدمة عظيمة لأعداء الإسلام وأعداء شريعته، حيث يصير دين الله تعالى وأحكامه موضوعا للتسفيه من هذا الجانب والرد عليه من الجانب الآخر، وهكذا يفقد دين الله قدسيته وحرمته ويصير كلاما مباحا لكل والغ.
وهكذا سعى الغرب وأمريكا بكل السبل، واستخدموا أساليب ماكرة لكي يصلوا إلى جعل الإسلام غريبا بين أهله، وتطويع عقول المسلمين كي تكون قابلة لتلقي الأفكار المناهضة لدينهم وثقافتهم، والهدف الأكبر في كل هذه الأنشطة والفعاليات الصحفية الفكرية، أن ينقلب الإنسان العربي المسلم على ثقافته ودينه وجذوره، ويغير انتماءه لصالح الغرب، ليكون أداة يمكن الاستفادة منها لصالح التغريب وإلغاء الهوية الإسلامية عبر استخدام الصحف وبعض رجالاتها الذين تم توظيفها بشكل غير مباشر عبر المال والفكر المناوئ للإسلام.
اضف تعليق