في العراق، تدور خلف الكواليس رحى معركة لا ترصدها عيون الإعلام المنشغل منذ سنوات بإحصاء غارات التحالف وعدد الجثث المستخرجة من تحت ركام المنازل، أو عدد مقذوفات المعارك، وحجم الدمار، وعدد من يسقطون ضحايا هذا الصراع الدموي؛ هي معركة ثقافية بامتياز، أدواتها فكرية ومعرفية ومنهجية، وساحاتها الجامعات والمدارس، فكيف أثر الصراع الذي أسس له الغزو الأمريكي عام 2003 على وضع المكتبات العراقية؟
في العراق، تدور خلف الكواليس رحى معركة لا ترصدها عيون الإعلام المنشغل منذ سنوات بإحصاء غارات التحالف وعدد الجثث المستخرجة من تحت ركام المنازل، أو عدد مقذوفات المعارك، وحجم الدمار، وعدد من يسقطون ضحايا هذا الصراع الدموي؛ هي معركة ثقافية بامتياز، أدواتها فكرية ومعرفية ومنهجية، وساحاتها الجامعات والمدارس، فكيف أثر الصراع الذي أسس له الغزو الأمريكي عام 2003 على وضع المكتبات العراقية؟
بعد الغزو الأمريكي تعرضت العديد من المكتبات والصروح العلمية والثقافية، التي تزود القارئ العراقي والعربي بأشكال العلوم المعرفية والآداب والفنون، للدمار والتخريب، بالاستهداف والتفجير والمفخخات والحرق والتدمير، من قبل جهات متعددة لا شك أنها تريد طمس معالم الحضارة الإنسانية التي تحملها المكتبات وترفد بها الأجيال المتعاقبة.
يتزامن ذلك مع انحدار التعليم في العراق بعد عام 2003 إلى مستوى غير مسبوق، إذ بدأ بهجرة الأساتذة والتربويين والمفكرين والمختصين والمهنيين، فضلاً عن تصفية المجاميع المسلحة للمئات منهم، لترتفع نسبة الأمية في البلاد إلى أرقام مخيفة، مع ترك مليونَي طفل (من مجموع 8 ملايين) للدراسة بعد هجوم "داعش" وسيطرته على 6 محافظات شمالي العراق وغربيه عام 2014، بحسب نتائج مسحية أجراها الجهاز المركزي للإحصاء في 2015.
جريمة حضارية
عُرف عن العراق قديماً أنه بلاد الرافدين أو بلاد ما بين النهرين، الذي يُعد مهداً للحضارات الإنسانية الأولى، ولعل من أهمها اختراع الكتابة التي ظهرت على يد السومريين، إحدى أهم الحضارات القديمة.
وكان للإنتاج الفكري الغزير في بلاد الرافدين الأثر المباشر في إنشاء العديد من المكتبات التي تجمع وتنظم وتيسر الإفادة من هذا الإنتاج، ووصل إلينا عدد كبير من مكتبات الحقب القديمة، وتحوي آلاف الرقم الطينية، منها مكتبة آشوربانيبال الموجودة محتوياتها من الألواح الطينية كاملة حتى الآن، معطية معلومات وافية عن تاريخ المكتبات في العراق القديم.
لكن هذه المكتبات والعلوم غالباً ما تكون ضريبة حفاظها على محتوها قاسية جداً، إذ تعرضت لعمليات محو بطرق بشعة على مر العصور، فحينما احتل المغول بغداد سنة 656هـ، كان فريق من التتار يواجه المسلمين بالسلاح، في حين اتجه فريق آخر إلى تدمير كل ما يوثق حضارة المسلمين في ذلك الوقت.
مكتبة بغداد أول ضحية للحرق
الشيخ راغب السرجاني اعتبر، في مقال نشره عام 2014، تحت عنوان: "المغول وحرق مكتبة بغداد"، أن إقدامهم على حرق الإرث الإسلامي هو "لشعور التتار بالفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين المسلمين؛ فالمسلمون لهم تاريخ طويل في العلوم والدراسة والأخلاق وكافة فروع العلم الديني والدنيوي"، مشيراً إلى أن "هذا الانهيار الذي رأيناه في تاريخ بغداد من المستحيل أن يمحو التاريخ العظيم لهذه الأمة العظيمة".
وأسس مكتبة بغداد هارون الرشيد، الذي حكم من سنة 170 - 193هـ، ثم ازدهرت المكتبة جداً في عهد المأمون من سنة 198 - 218هـ. وما زال العباسيون بعدهم يضيفون إلى المكتبة الكتب والنفائس حتى أصبحت داراً للمعرفة والعلم، تحتوي على ملايين المجلدات في ذلك الزمن، ملايين الكتب في مكتبة واحدة في زمان ليس فيه طباعة، ولا يمكن تخيل كمّ العلم في بطون هذه الكتب.
ويقول السرجاني: "اتجه فريق من أشقياء التتار لعمل إجرامي بشع، وهو تدمير وإحراق مكتبة بغداد العظيمة، التي تُعد أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن، وكانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من 600 عام، وجمعت فيها العلوم والآداب والفنون (..)؛ من علوم شرعية وحياتية كالطب والفلك والهندسة والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وعلوم الأرض، ومن علوم إنسانية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والتاريخ والفلسفة، فضلاً عن الترجمات المختلفة للعلوم الأجنبية، منها اليونانية والفارسية والهندية، التي تعتبر معجزة حقيقية من معجزات ذلك الزمان".
"داعش".. تتار القرن الحادي والعشرين
أعاد تنظيم "داعش" أثناء سيطرته على مناطق واسعة من العراق في يونيو عام 2014، ما قام به المغول والتتار في حرقهم لمكتبات بغداد آنذاك، إذ عمد إلى المساس بصلب العملية التعليمية ووضع بصماته فيها، من خلال مجموعة إجراءات، كانت تهدف إلى إنشاء جيل يحمل ثقافته وفكره وتصوراته عن الإسلام والحياة، وبدأ تلك الإجراءات بالتدخل في عمل الجامعات، وانتهى بتغيير مناهج الدراسة، لتكون مقررات دراسية، وتشهد الموصل أول منهج أقره "داعش".
وأثناء سيطرته التامة على مدينة الموصل، أقدم التنظيم على خطوة مفاجئة وصادمة لأهل المدينة؛ إذ دمّر مبنى المكتبة المركزية العامة في الجانب الأيسر من مدينة الموصل وسط حالة من الذعر والألم.
وتعد المكتبة المركزية في الموصل من أقدم المكتبات بعد مكتبة الأوقاف العامة، إذ حوت مكتبات شخصية لعلماء ومفكرين وأساتذة أودعها أصحابها فيها، رغبة في تعميم المعرفة في المجتمع، التي يعتبرها التنظيم الارهابي أنها تحوي كتباً فيها معارف تناقض تعاليم الإسلام.
وحول آثار الغزو الأمريكي وتنظيم "داعش" على المكتبة العراقية وبنيته الثقافية بشكل عام، أكد الأديب والصحفي العراقي، عبد الأمير المجر، في حديث لموقع "الخليج أونلاين"، أنه من دون أدنى شك الآثار كثيرة ومتنوعة، بدأت قبل هذا التاريخ (2003)، أي منذ بداية الحصار الاقتصادي، الذي بدأ فيه المثقف العراقي، الضحية الأولى للحصار، يبيع كتبه ليشتري الخبز له ولعائلته، بالإضافة إلى صعوبة دخول الكتاب ونشره للأسباب المعروفة وقتذاك".
وأضاف الأديب العراقي أنه رغم الآثار الموجودة قبل عام 2003، فإن "الغزو الأمريكي واحتلاله تسبب بتداعيات كبيرة على المشهد الثقافي، ليس في حدوده الكلاسيكية، أي شريحة المثقفين فقط، وإنما في الحياة الثقافية والمكتبة بشكل عام، إذ تم حرق وتدمير الكثير من المكتبات المهمة بعد الغزو مباشرة والفوضى التي أعقبت ذلك".
وتابع الأديب المجر، "قام بعض المدفوعين من جهات خارجية بحرق مكتبات كبيرة، ونهب محتوياتها، إضافة إلى تداعيات الاحتلال، التي من بينها ظهور التطرف بشكل غير مسبوق في العراق، وتدمير داعش آثاراً عراقية، تعتبر ضمن التراث العالمي، وأحرق الكثير من المكتبات في المدن التي سيطر عليها، لأنها لا تنسجم مع فكره المريض".
وأشار إلى أن "الموصل الشاهد الأكبر على تلك الفجيعة، إذ فقدت هذه المدينة الرئيسية والمعروفة كنوزها الثقافية المختلفة، وهي نفائس لا تقدر بثمن، وفقدت مكتباتها العامة، أما الغزو الأمريكي فقد ترك في ذمة التاريخ فظائع يصعب عدها، وكانت الثقافة العراقية وبنيتها الأساسية الضحية الكبرى".
شارع المتنبي ومحاولة طمر المعرفة!
شارع المتنبي الذي يجسد معالم الثقافة والمعرفة في البلاد، كغيره من مناطق بغداد والعراق، تعرض لعدة تفجيرات بعد العام 2003، أدت إلى مقتل المئات من المتسوقين وأصحاب المكتبات، بالإضافة إلى تدمير العديد من المكتبات والمباني بشكلٍ كامل، منها المكتبة العصرية، وهي أقدم مكتبة في الشارع، أُسست عام 1908، وكذلك مقهى "الشابندر"، الذي يُعد من معالم بغداد العريقة، وبذلك لم تستثنِ عدوى التفجيرات المكتبات والمعالم الثقافية.
وبسبب الهجمات المتكررة يعاني شارع المتنبي، أو ما يعرف بـ"شارع الثقافة"، وسط العاصمة بغداد، الذي يحتضن عدداً كبيراً من محال بيع الكتب واللوازم المكتبية، غياباً واضحاً لرواده المثقفين والمتبضعين الذين كانوا يقضون معظم أوقاتهم فيه، يشترون ويقلبون بطون وأمهات الكتب والبحوث، فضلاً عن الجلوس في المقاهي القديمة الموجودة في زوايا الشارع، بسبب الأحداث الطائفية وتدهور الوضع الأمني.
ويعتبر "المتنبي" السوق الثقافي لأهالي بغداد، حيث تزدهر فيه تجارة الكتب بمختلف أنواعها ومجالاتها، وينشط عادة في يوم الجمعة. كما يوجد فيه مطابع تعود إلى القرن التاسع عشر، ويحتوي أيضاً على عدد من المكتبات التي تضم كُتباً ومخطوطات نادرة، إضافة إلى بعض المباني البغدادية القديمة.
ومن بين العديد من الصور الجميلة التي يتميز بها الشارع الأشهر في بغداد بصفته رئة العراق الثقافية، يبرز باعة الكتب وهم يتخذون مكاناً في جوانب الشارع، وتفترش مكتباتهم المتواضعة رصيف الشارع، الذي يضفي جمالاً للمتجول وسط البناء البغدادي العريق، وهو ما يعتبره المتسوقون بأنه يبث الروح مجدداً لدى الشغوفين ببيع وشراء الكتب للاستمرار بنشر الثقافة والعلم، بعد كل هجوم يسعى المخربون من خلاله إلى إزالة هذا الإرث الحضاري من قلوب وعقول الناس.
ويرى كثير من أصحاب المكتبات في شارع المتنبي أنهم ليسوا بحاجة للعمل في بيع الكتب لأجل كسب رزق، فهم متخرجون ويحملون أرقى الشهادات الجامعية ومن مختلف البلدان العربية والغربية، لكن حب الكتب والقراءة والمطالعة يسحبهم إلى عالمه الساحر كل يوم.
وفي بارقة أمل جديدة، كما يراها كُتّاب ومثقفون في عراق ما بعد "داعش"، انطلقت فعاليات معرض بغداد الدولي للكتاب لعام 2018 (29 مارس - 8 أبريل)، بمشاركة 600 دار نشر عراقية وعربية وأجنبية، لتعود ذكرى إقامة أول معرض للكتاب في العراق مطلع عام 1978.
رئيس اتحاد الناشرين العراقيين، عبد الوهاب الراضي، أكد أن "أهمية المعرض هذا العام أنه ترجم توجه العراقيين بشكل لافت نحو الثقافة بعد تخلصهم من تنظيم داعش". وأضاف الراضي لوكالة الأناضول أن "أغلب شباب ومثقفي وأدباء العراق يتوجهون هذا العام نحو الثقافة ويحتفون بالقراءة مع عرب وأجانب على أرض المعرض".
وبعد كل هذا الدمار التي تعرضت له المكتبات العراقية طيلة القرون السابقة، لا سيما وقت الحروب، يتساءل المثقف العراقي، هل ستعود المكتبة العراقية، التي تصارع من أجل البقاء، إلى سابق عهدها، في ظل إهمال حكومي وعدم إيلاء المواقع الأثرية والمكتبات الوطنية أهمية استثنائية؛ لكونها تحتوي على تاريخ العراق القديم والحديث؟.
اضف تعليق