امتاز الأدب الروسي في القرن التاسع عشر بأيديولوجياته الفكرية الخاصة، وبطابعه الإنساني الواضح ، ولا شك أن الروافد الإنسانية تصب في معالجة مشاكل المجتمع في تلك الحقبة من الزمن، كما اتسم الأدب الروسي بالسمة الاجتماعية التي تعالج مشاكل الفرد، ولعل هذا هو أهم خصائصه، ويمكن القول بأن الحالة الفكرية لروسيا في القرن التاسع عشر قد تشربت من منابع متعددة، ويمكن تصنيف هذه المنابع والاتجاهات - كما ذكرها الدكتور محمد حمود - على النحو التالي:
1/ أنصار الغرب: وهم الذين دعوا إلى نشر الأفكار الخيرة الواردة من الغرب واظهار العيوب التي تحط من مقام روسيا وكانوا ضد فكرة الفن للفن ومنهم بيلينيسكي (2811م-1841م) وهرزن (1812م-1879م).
2/ أنصار السلوفانية: وكانوا يرغبون بالإصلاح والتطلع لكل ما هو جديد ومفيد ولكن بروح روسية صرفة وليس تقليداً للشعوب الأخرى ومنهم: إسكاكوف، وكيريافسكي، وخومياكوف.
3/ شعبيون ماركسيون: وهم الذين دعوا إلى إصلاح وتغيير روسيا، وقد اهتلفوا على الوسائل الواجب اتباعها.
4/ الفلاسفة الدينيون: لم تستطع التقلبات الاجتماعية والمشاكل السياسية أن تخنق في روسيا النزعات الدينية، بل تأثرت باتجاهات ليو تولستوي وديستوفسكي.
اما عند الحديث عن العلاقات بين روسيا والبلدان العربية، فيمكن القول انها تمتد عبر ما يزيد عن الألف سنة حين شرع الرحالة العربي أحمد بن فضلان في رحلته الشهيرة من بغداد إلى الأصقاع الشمالية من الكرة الأرضية، اذ وصل الى روسيا سنة 921م ، وكتب عنها ما يمكن عده وثيقة أولى في اللقاء بين الشعبين، وهناك امر آخر يمكن عده اتصالا حقيقياً بين الأمتين ، إذ ترجع أقدم الآثار المدونة باللغة الروسية عن رحلات الروس الى الشرق.
ويمكن القول أن حضارة وادي الرافدين ووادي النيل كانتا محط انظار الغرب، وعاملين أساسيين لجذب أغنياء الروس ومستشرقيها.
والكثير من الأدباء الروس عنوا بالتراث العربي ومنهم الشاعر المشهور بوشكين والشاعر ليرمونتوف الذي ذكر في قصيدة له مدناً ومناطق عربية لم يزرها قط بيد أنه ذكرها لصديقه الذي حجّ الى بيت المقدس وجلب معه أغصان الزيتون للتبرك بها ومن هذه القصيدة:
حدّثني ياغصن فلسطين
في أيّ مكان نموتُ وأزهرتَ؟
وأيّةِ ربواتٍ ووهادٍ ازدانت بك؟
هل لاطفتك أشعة الشرق قرب مياه الأردن الصافية؟
أم هزتك الرياحُ الغصوبُ ليلاً في جبال لبنان2
أما ليو تولستوي (1828م-1910م) فكان ارستقراطياً رفض نعمة الرفاه ليلتحم بقضايا الشعب الروسي ، ولم يكن كادحاً غير أنه كان طموحاً يبحث عن الصفاء والثراء الإنساني.
وكان أحد الرجالات الذين اتخذوا من أفكارهم ورؤاهم دعوة لإصلاح الصدوع والتشققات التي حدثت في كيان روسيا الاجتماعي فاهتم بالفكر والدين والفلسفة كما اطلع على بقية الثقافات والفلسفات القريبة من افكاره وتطلعاته.
لقد عاش تولستوي للحب الواقعي ، للحب المجرد البعيد عن التهويمات والتعتيم الصوري التخيلي ،وقد ضحى بكل مايملك من أجل هذا الحب، وقد وضع من خلال فلسفته المبنية على أساس الحب والعطاء والمثل السامية قاعدتين أساسيتين، وطالب الأسقف والقيصر وجميع الطبقات الاجتماعية بتطبيقها ليسود الأمن والاستقرار وهذه القاعدتان هما colonthree رمز تعبيري
أحبوا بعضكم بعضاً
لاتقاوموا الشر بالشر
فهو بهاتين القاعدتين يدعو للسلام والمحبة وعدم مقابلة الشر بالشر والعنف نفسه أو اشد منه مستقياً رأيه من تعاليم السيد المسيح (ع) وكذلك من الدين الإسلامي الحنيف.
تأثر روايات تولستوي ونقدها في المنظور العربي
لقد ذُكر فيما سبق عن تولستوي وتطلعه في الأدب العربي، إذ انه التحق بجامعة قازان بقسم اللغة العربية ثم تركها لظروف خاصة، ولكنه وعلى الرغم من اشتغاله بالفن والدعوة الى الانسانية، فإنه لم يشغله أدبه ونتاجاته عن مطالعة الأدب العربي والنتاج الفكري الإسلامي، فأعجب برجالات العرب وزهدهم ووعيهم، والرحمة التي نزلت على قلوبهم والتكافل الاجتماعي فيما بينهم، وحقوق المرأة واحترامها في الإسلام، وغيرها من مبادئ الإسلام الإجتماعية السامية.
إن المجموعة الكاملة لمؤلفات تولستوي تحتوي على مايقارب (40-44) كتاباً يخص التراث العربي، منها ما يتضمن عدداً من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة ومنها ما تحتوي على الحكم والأقوال المأثورة.
ومن الكتب التي ألفها تولستوي متأثراً بشخصية النبي الأكرم (ص)، هو كتاب (حكم النبي محمد) ، كما ألف كتابا صغيرا يحمل عنوان (أحاديث مأثورة لمحَّد) عام 1910 ومن الأحاديث التي استشهد بها في كتابه:
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
إنّما النساء شقائق الرجال
قل الحق وإن كان مرّاً
ويرى النقاد العرب انعكاسات الأدب العربي بشكل واضح في بعض نتاجاته مثل (قصة في كرويترز) حين يتحدث بطل القصة (بوزدينشف) عن معاناته المستوحاة من رواية ( حكاية الملك شهريار ) وتأثره أيضاً بتأريخ وادي الرافدين والأساطير البابلية والآشورية القديمة في حكايته المسماة (الملك الآشوري أسرحدون)4
ويمكن القول أن أهم ما كتبه العرب عن حياة تولستوي وفنه ونتاجه الأدبي الناقد محمد الخفيف الذي درس حياته بشكل علمي وأفاض في كتابه (تولستوي) الآراء التي تدور حول الأديب الروسي، والمراحل التي مرَّت بها واقعية الروايات لدى تولستوي.
والكتاب الآخر الذي يُعَدُّ مهماً في دراسة حياة تولستوي هو كتاب (تولستوي فناناً) للدكتورة حياة شرارة إذ أنه يعتمد على تحليل ودراسة مفصلة للروايتين (أنا كارنينا) و(الحرب والسلام)، وليس تراثه كله، لما تنطوي هاتان الروايتان على موضوعات اجتماعية متعددة، وأهميتها في نتاجه الخالد.
يقول تولستوي في كتابه (حكم النبي محمد): "مما لاريب فيه أن النبي محمداً من عظام الرجال المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة، ويكفيه فخراً أنه هدى أمته برمتها الى نور الحق ، وجعلها تجنح نحو السكينة والسلام وتفضل عيشة الزهد، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية ، وفتح لها طريق الرقي والمدنية ، وهو عمل عظيم لايقوم به إلا شخص أوتي قوة ، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام "5
كما أوضح تولستوي في كتابه جملة من الآراء المتعلقة بالأمور الاجتماعية الهامة ، فأبدى رأيه في الحب والزواج والحقوق الملائمة للمرأة ، وهو أشبه ما يكون بالحقوق الإسلامية المعتدلة إلى غير ذلك من الأمور التي تخص المجتمع والإنسان.
ويمكن القول بأن إطلاع تولستوي على الأدب العربي وإعجابه به ينعكس على ما ترجمه من الأدب العربي إلى الأدب الروسي، إذ انه وضع كتابه (ألف باء) لتدريس أبناء قريته البسطاء في المدرسة التي بناها، وبقية كتب القراءة مستمداً ذلك من حكايات عربية وأقاصيص شعبية مع بعض التعديلات الطفيفة في الأسماء أو إجراء تغيير قليل في الأحداث الجزئية داخل القصة دون إحداث خلل في مجرياتها.
1:ينظر الأدب الروسي، د.محمد حمود ، المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر سنة2008 : 41 و42
2: الكلاسيكيون الروس والأدب العربي : 42
3:حكم النبي محمد، تولستوي ، ترجمة سمير قبعين، دار نينوى سنة 2009 : 33
4: نفس المصدر السابق : 52.
اضف تعليق