حيثما يوجد الحب، فهنالك الله.. تولستوي
جميعنا اختبر مشاعر الحب، منذ كنا صغارا وحتى اللحظة التي نرحل فيها دون وداع من نحبهم.
ولا تقتصر مشاعر الحب على العلاقة بين (الرجل) و(المرأة) من حيث التقسيم الجندري، (ذكر) و(انثى) بل هي أوسع من ذلك، تمتد من المواقع التي يحتلها الرجل وتحتلها المرأة في حياة كل واحد منهما، (أب – أم – ابن – ابنة -أخ – أخت – خال – خالة – عم – عمة – زوج -زوجة)، ومواقع أخرى تبعا لثقافة المجتمعات.
منذ ولادتنا وسنوات الطفولة الأولى نستشعر هذا الحب، ونكون مستبدين، ومتسلطين، ونحن نعيش متعة حب الابوين لنا، دون سؤال عن ماهية هذا الحب وطبيعته، او حتى محاولة تفسيره. من جانبنا لا نكون معنيين بحبنا لأبوينا، الا بقدر تعلق الامر بتوفير احتياجاتنا والحماية لنا.
في تقدمنا بسنوات العمر، نحب من بعمرنا: أصدقاء الطفولة، وأصدقاء المدرسة، ناهيك عن حبنا لإخواننا واخواتنا، مع بعض التنافس والغضب ومشاعر الغيرة.
في سنوات المراهقة (ومع تنشيط الفطرة التي اودعها الله فينا) نتيجة لعوامل نفسية وبيولوجية، تمتد اعيننا الى المختلف عنا، فخيال عابر خلف شباك موصد، او ظل هارب لخطوات مسرعة، او بقايا صوت يردده الصدى، تشعل الحماسة فينا، وتتركنا في أحضان الحلم. حلم لا نريد ان نصحو منه ابدا، يتناسل الى أحلام أخرى، وأخرى، حتى يمسك برقابنا، يتحول في أحيان كثيرة الى مجرد وهم يستبيح هدوء أيامنا وسنوات عمرنا. ولا نبالي.
في اللغة العربية التي ابتعدنا عن بلاغتها كثيرا، توجد الكثير من التفريعات على كلمة الحب، دلالة على مراتبه ودرجاته، منها:
(العشق الهوى، العلاقة، الكلف، الشغف، الجوى، التتيم، التبتل، التدلّه، الهيام، الصـبابة، الوجد، الدنف، الشجو، الشوق، التباريح، الغمرة، الشجن، الوصـب، الكمد، الأرق، الحنين، الجنون، الود، الغرام، الوله، الرسيس، الجزع، السُّـهْدُ، اللهف، اللوعة، الداء المخامر، السدم).
واعلى تلك المراتب هي الشغف، كما أشار القران الكريم الى ذلك في سورة يوسف (قد شغفها حبا).
لم أكن قد تزوجت بعد، حين قتلت بلقيس زوجة الشاعر نزار قباني، وكتب قصيدته الشهيرة في رثائها، ثم يسجلها بصوته الممثل المصري (عبد الله غيث) الذي قام بدور حمزة في فيلم الرسالة الشهير.
كنت قد اقتنيت الكاسيت الذي يحمل صوت غيث، وكنت احلق معه بعيدا الى حيث يأخذني صوته، وهو يرثي على لسان الشاعر فجيعته برحيل تلك المرأة الرائعة، زوجته.
لم تكن الزوجة حاضرة بكثافة في الشعر العربي قديمة وحديثه ومعاصر، بل كانت صور أخرى للمرأة تحضر في قصائد الشعراء ودواوينهم، المرأة الجدة، والمرأة الام، ولكن تسيّدت صورة طاغية في قصائد الشعراء للمرأة، وهي الحبيبة. (وأكثر ما يقع في الشعر هو ذكر المحبوبة التي يصفها الشاعر وصفاً حسياً دقيقاً لا يترك ملمحاً من ملامحها أو عضواً من أعضائها أو طبعاً من طباعها إلا وأعمل فيه أدوات وصفه وشعره، بل وأجرى عليها أمور الشهوة واللذة.
أما الزوجة فلم ينزل بها أحد هذه المنازل الفاضحة، وإنما كانوا ينزلونها منازل الصون والعفاف، وما ذلك إلا لأنها لم تكن -غالبا- تظهر في أشعارهم إلا في رثائها عندما تموت) محمود عوض/الزوجة في الشعر.
كان رثاء الزوجة أو حتى البنت أو الأخت يُعدُّ صراعاً مع عُرفٍ اجتماعيٍّ راسخٍ يصعب على الكثير من الشعراء ركوب موجته والغوص في لُجَّته، وهو ما دعا الشُّعراء وغير الشُّعراء إلى أن يسلكوا طريق السلامة دون مُصادمة العيب الاجتماعي الذي ربما عزلهم عن مجتمعهم.
(إنَّ ندرة رثاء الزوجات من قِبَل أزواجهنَّ في الأدب العربيّ، لا يُعدُّ ظاهرةً بقدر ما هو سياقٌ اجتماعيٌّ تحوطُهُ ثقافةٌ اجتماعيَّةٌ وأعرافٌ مُتوارثةٌ منذ العصر الجاهليّ، وأنَّ الخروج على هذا السياق هو الظاهرة التي يجب التساؤل عن أسبابها)، منصور العسّاف/رثاء الزوجات.. الحب يبقى وروحه معلقة في السماء.
نقرأ من الشعر الجاهلي هذا النموذج عند شاعرٍ أعرابي فقد زوجته: فَواللهِ مَا أدْرِيْ إذَا الْلَيْلُ جَنَّني/ وَذَكَّرَنيهَا أيُّنا هُوَ أَوْجعْ؟/أمُنْفَصِلٌ عَنْ ثَدْيِ أمٍّ كَرِيْمَة/ أَمِ الْعَاشِقُ النَّابِيْ بِهِ كُلُّ مَضْجَعْ؟.
وفي العصر الإسلامي، اول صور الوفاء والحزن على رحيل الزوجة، ما نلمسه من نبينا (صلى الله عليه واله وسلم) على زوجته خديجة (رضوان الله عليها) حيث كان يحفظ لتلك المرأة التي وقفت معه حين كذبه قومه، حُسن الصحبة، والاعتراف بجميلها، وقد ظلَّ وفيَّاً لها في حياتها وبعد وفاتها، حتَّى إنَّه -صلى الله عليه واله سلم- كان يُقدّمها على كافة زوجاته، ولم ينس أن يُحسن لصُويحباتها، وكان يُعبِّر عن هذه المحبة ولا يُخفيها.
الاقتداء بهذا الخُلق العظيم جاء على يد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وهو يرثي السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في قصائد تفيض صدقاً ووفاءً ومحبة لأم بنيه:
قال (عليه السلام) عند قبرها:
ما لي وقفتُ على قبورِ مُسلِّماً... قبرَ الحبيب فلمْ يرُدّ جوابي
أحبيبُ ! ما لك لا تردُّ جوابنا... أنسيتَ بعدي خُلَّةَ الأحباب
فسمع هاتفا يقول له:
قال الحبيبُ وكيفَ لي بجوابِكُمْ... وأنا رهينُ جنادلٍ وترابِ
فعليكمُ منّي السلامُ تقطعتْ... منّي ومنكُم خلَّةَ الأحبابِ
وقال عليه السلام :
كُنّا كزوجٍ حمامةٍ في أيكةٍ... متمتعينَ بصحةٍ وشبابِ
دخلّ الزّمانُ وفرّق بيننا... إن الزمانَ مفرِّقُ الأحبابِ
وقال (عليه السلام):
حبيبُ ليس يُعدُله حبيبُ... وما لسواه في قلبي نصيبُ
حبيبٌ غاب عن عيني وجسمي... وعن قلبي حبيبي لا يغيبُ
ولم يكن الامام الحسين (عليه السلام) بعيدا هذا الحب الذي منحه لزوجته (الرباب) وهي التي انجبت له (سكينة) عقيلة قريش، و(عبد الله الرضيع)، وكان (عليه السلام) يبادلها الحب والمودة الخالصة وكان يشعر نحوها بمزيد من الإعجاب والارتياح حتى قال فيها شعراً :
لعمركَ أنّني لأحبّ داراً........تحلُّ بها سكينةُ والربابُ
أحبّهمـا وأبذلُ جُـلَّ مالـي........ولـيس لعاتب عندي عتابُ
ولستُ لهم وإنْ عَتبوا مطيعاً......حياتي أو يغيّبني التراب
في العصر الاموي، يرثي الشاعر (جرير) زوجته وأُمَّ أبنائه بقصيدته المشهورة:
لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ
ولزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ
صلى الملائكة الذين تخيّروا
والصالحون عليك والأبرار
وللشريف الرضي أبيات يرثي فيها زوجته بلوعة وحزن فيقول:
ذكرتك ذكرة لا ذاهل
ولا نازع قلبه والجنان
أعاود منك عداد السليم
فيا دين قلبي ماذا يدان
فيا أثر الحب إني بقيت
وقد بان فمن أحب العيان
وقالوا تسل بأترابها
فأين الشباب وأين الزمان
وللطغراني أكثر من خمس قصائد في رثاء زوجته وكلها تدل على شديد حرقته ومنها قوله:
إن ساغ بعدك لي ماء على ظمأ
فلها تجرعت غير الصابر والصبر
وإن نظرت من الدنيا إلى حسن
منذ غبت عني فلا متعت بالنظر
غير ذلك، يذكر لنا تاريخ الشعر والشعراء، مراثي متعددة لعدد من الشعراء منهم (المعلى الطائي) و(الصفدي) و(الأعمى التطيلي الأندلسي) و(ابن هند الداني) و(إسحاق الألبيري)، وقد تفرّد الرَّحالة (ابن جبير) بقصب السبق في ديوان شعريّ كامل أسماه (نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح)، في رثاء زوجته (عاتكة) المُلقَّبة ب(أُمّ المجد)، التي بكى عليها دمعاً ودماً.
ومن الشعراء الحديثين الذين كرسوا دواوين شعر في رثاء زوجاتهم، الشاعر عبد الرحمن صدقي في ديوانه (من وحي امرأة)، ومحمد البيومي في ديوانه (حصاد الدمع)، وطاهر أبو فاشا وديوانه (دموع لا تجف)، ورابح جمعة في ديوانه (لذكراك)، وروكس العزيزي وديوانه (جمد الدمع)، وعزيز أباظة وديوانه الباكي (أنَّاتٌ حائرة).
اختم بما توصل اليه الكاتب العراقي محمد مظلوم في كتابه (ديوانُ مراثي الزوجات) حيث كتب:
(مراثي النساء إذن مدائح حزينة في غياب الممدوح، وغزل بلا غايات تحضر فيه جماليات الغائب بكثافة دون حضوره الجسدي، فهو بهذا المعنى شعر – في كلتا الحالتين – أو الغرضين تحرَّرَ من غرضيته وغائيته النفعية فهو لا يتوجَّهُ إلى شخص موجود يطمح أن يحظى منه بجائزة ما أو يستحقُّ عنه مطمعاً ما أو يتقرَّب منه بتوسل، انتفاء الغاية العابرة والغرضية المباشرة بجعل من هذا النوع الشعر، مستودعاً شعورياً هائلاً لكثافة صوفية تنبثق من بواطن العزلة وطبقات الوحشة المتعدِّدَة. لتشيِّدَ نشيداً عالياً في تأبين الجمال". وينبه مظلوم إلى أن هذه المراثي تنطوي أيضا، على تصوير اللحظات الأخيرة بين شخصين عاشا معنا زمناً، ومن هنا فإنها تنطوي كذلك على رثاء للنفس، للروح التي بقيت مفردة بعد شريك يومياتها، ومن هنا كذلك، تكثر نبرة الزهد في مغريات العالم، والرغبة في أن يكون الشاعر شريكاً للراحلة في رحلتها، وهذه نبرة تكاد تشكِّل واحدةً من العناصر المشتركة واللافتة في معظم القصائد في الكتاب).
اضف تعليق