q
ثقافة وإعلام - أدب

اللون الرمادي

كل شيء يقوم على الثنائيات في هذا العالم، رجل – امرأة، صغير – كبير، واسع – ضيق، وغير ذلك، ولايقتصر الامر على الاصناف او الماديات بل يتعدى ذلك الى المعنويات ايضا، خير – شر، بطل – جبان، معي – ضدي، خوف – امان، وغير ذلك ايضا.

هذه الثنائيات ومنذ فجر الانسان والحضارة والتجمعات البشرية، كانت السبب الابرز لهذا الصراع المحتدم والذي ارضه الانسان اولا وفضاؤه كذلك.

اول صورة للصراع الارضي وربما هي الاشهر على الاطلاق بين الاخوين قابيل وهابيل، وكانت النتيجة الصادمة لهذا الصراع، والتي يذكرها التاريخ دوما.

هذه الثنائية كثيرا ما عرفت بتسمية الابيض والاسود، تبعا لوقوع التوصيفات والدلالات في خانة منها، وكانت هناك مساحات شاسعة من لون اخر لم يلتفت اليها الاخرون الا قليلا، واقصد بها المساحات الرمادية، والتي تقع في المنتصف بين اللونين الشهيرين.

رومان جاري واسمه الحقيقي رومان كاسو، دبلوماسي وروائي فرنسي يكتب باللغة الفرنسية والإنجليزية. وُلد في 8 مايو 1914 بجمهورية فيلنا (الإمبراطورية الروسية) ويلنو (الجمهورية البولندية الثانية) بعد الحرب العالمية الأولى. وتوفى في 2 ديسمبر 1980 (عن عمر يناهز 66 عاماً) بباريس.

ورومان غاري، اسم شهير في عالم الأدب بفرنسا وعلى الصعيد العالمي. وهو الروائي الوحيد الذي حاز على جائزة «الغونكور»، أكبر جائزة أدبية في فرنسا، مرتين. مرة باسمه الذي عُرف فيه «رومان غاري» ومرة ثانية باسم مستعار هو «ايميل آجار». وكان قد انتحلّ عامّة خمسة أسماء تعامل بكل منها في فترة أو عندما يقتضي الظرف ذلك.

في روايته (الطائرات الورقية) وهي اخر مانشر له، كتب في الصفحة الاولى اهداء تحت عنوان (الى الذاكرة)، وهو عنوان فيه الكثير من الغموض.

وكتب في روايته ايضا: (لقد طفح بنا الكيل من اللونين الابيض والاسود، فاللون الرمادي هو وحده الذي يعكس الروح الانسانية).

وفي روايته الشهيرة تلك، لم يحاول رومان غاري وهو الذي اشترك في الكثير من المعارك ضد الالمان، ان يتجاهل او ان يخفف من وطأة الفظائع التي اقترفها النازيون. لقد اورد ممارسات الشنق، والاغتصاب، واشكال التعذيب، والهمجية في مكانها الطبيعي. مايرفضه هذا الكاتب هو ان يتهم الالمان بانهم لا انسانيون، اي انهم مختلفون تماما عنا نحن البشر الطبيعيون. فالالمان ليسوا كلهم نازيين، وحتى اولئك الذين يتصرفون بطريقة همجية، نجد من بينهم من يحافظ على سلوكه الانساني عندما يعصم نفسه عن خيانة الطبيعة البشرية التي نشترك كلنا فيها. انهم ليسوا الالمان فقط. فالشر يتجول في كل مكان منذ الازل. انه يستحوذ على قلوبنا وعقولنا نحن البشر. وعندما يقترب من احدنا، او حتى يتسلل الينا، فاننا نسارع الى تقليد شخصية الالمان، حتى لو كنا مواطنين من دولة هاجمها الالمان. ان الاكتشاف الذي توصل اليه الكاتب، في اثناء فترة الحرب، ان الالمان بتصرفهم على النحو الذي يظهر منهم، يكشف لنا احدى الوجوه البشرية، التي ماهي في الحقيقة الا وجوهنا، ان قيامنا بقهر هذا الشر المتأصل فينا لهو اصعب من هزيمة النازيين انفسهم. فالذين يحرزون النصر في الحرب ليسوا سوى منتصرين مزيفين، حين يعتقدون انهم قد تغلبوا على اواصر الشر، وقد عموا عن جذوره المتأصلة في اعماقهم. والكاتب على يقين ايضا، ان الانسانية يلزمها سنوات عديدة، بل قرونا طويلة، فيما لو وافقت على تغيير سلوكها في يوم من الايام بتخليها عن الشر.

ان الخطر الاعظم الذي اكدت عليه روايات هذا الكاتب، الذي يترصدنا هو في الصعوبة التي نجدها في التعرف على انسانية الانسان. قد تساعدنا الشفقة احيانا في الكشف عن وجودها من حولنا. انها تسمو فوق كل التباس، في معزل عن الاخطاء والحقائق، انها هويتنا الدفينة. فالبشر لايستحقون ان نبادرهم بالإعجاب، ولكنهم بلا استثناء بحاجة الى أن نبادرهم بالحب.

الاهداء الذي قدمه رومان غاري في روايته السالفة الذكر، يمكن ان يقرأ من خلال ماسبق من معاني، وهو ان الذاكرة عند اللون الرمادي تسمح بإثارة الفضيلتين البشريتين: العدالة والحب، لهذا السبب فإنها تستحق مكانة الشرف التي خصها المؤلف في بداية روايته.

 

اضف تعليق