يتفق الجميع على أن توفير التعليم الأفضل والمهارات المحسنة لأكبر عدد ممكن من الناس أمر بالغ الأهمية لزيادة الإنتاجية وتحسين مستويات المعيشة ومعالجة فجوة التفاوت المتزايدة الاتساع. ولكن ماذا لو كان الجميع على خطأ؟
يجزم أغلب خبراء الاقتصاد بأن رأس المال البشري لا يقل أهمية عن نمو الإنتاجية باعتباره رأسمال ماديا. وهذا صحيح إلى حد ما بوضوح. فما كانت الاقتصادات الحديثة لتصبح في حكم الإمكان من دون انتشار معرفة القراءة والكتابة والحساب على نطاق واسع: وتعجز العديد من الاقتصادات الناشئة عن تحقيق المزيد من التقدم بسبب نقص المهارات.
ولكن إحدى السمات اللافتة للنظر في الاقتصاد الحديث هي أن دفع مجالات حيوية من النشاط الاقتصادي يتطلب عددا قليلا من ذوي المهارات. تبلغ قيمة فيسبوك السوقية، على سبيل المثال، نحو 374 مليار دولار أميركي ولكن يديرها 14500 موظف فقط. وشركة ميكروسوفت التي تبلغ قيمتها السوقية 400 مليار دولار، توظف نحو 114000 موظف فقط. وشركة جلاكسو سميث كلاين، التي تقدر قيمتها بما يتجاوز 100 مليار دولار، لا يزيد عدد العاملين فيها عن 96 ألف موطف.
الواقع أن قوة العمل في هذه الشركات الثلاث ليست سوى قطرة في محيط سوق العمل العالمية. ولكنها تقدم رغم ذلك خدمات استهلاكية يتمتع بها آلاف الملايين من البشر، وتخلق برمجيات تدعم تحسين الإنتاج على مستوى الاقتصاد بالكامل، أو تُنتِج عقاقير قادرة على تحقيق فوائد صحية هائلة لمئات الملايين من البشر.
ويعكس هذا الانفصال بين العمالة والقيمة المضافة الدور الذي تلعبه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتي تتميز في ناحيتين حاسمتين. فأولا، وبما يتفق مع قانون موور، كانت وتيرة تحسن إنتاج الأجهزة أسرع كثيرا مما كانت عليه في مراحل سابقة من التغير التكنولوجي. وثانيا، بمجرد إنشاء البرمجيات، يصبح من الممكن نسخها مرات لا حصر لها بتكلفة هامشية تكاد تكون صِفرا. وتعمل كل هذه العوامل مجتمعة على تمكين الأتمتة المنخفضة التكلفة للمزيد من الأنشطة الاقتصادية، المدفوعة بمهارات عالية يتمتع بها أفراد أقلية ضئيلة من قوة العمل.
على الرغم من هذه الظاهرة، يسعى عدد من الناس أكبر من أي وقت مضى للحصول على مستويات أعلى من التعليم، وتحفزهم بوضوح حقيقة مفادها أن المهارات الأعلى تجلب أجرا أعلى. ولكن العديد من الوظائف ذات الأجور الأعلى قد لا تلعب أي دور في دفع عجلة تحسين الإنتاجية. فإذا أصبح عدد أكبر من الناس محامين مهرة، فربما تُدار القضايا القانونية بشكل أكثر فعالية وتكلفة على الجانبين، ولكن في غياب أي زيادة صافية في الرفاهة البشرية.
والعواقب الاقتصادية المترتبة على هذا القدر الكبير من التداول المالي محصلتها صِفر هي الأخرى. ولكن هذه قد تكون أيضا حال العديد من الأنشطة المكرسة لتطوير موضات أو علامات تجارية جديدة، مع تكريس المهارات العالية والطاقات العظيمة للتنافس على الفوز باهتمام المستهلكين وحصة في السوق، ولكن لا شيء من هذا يُفضي بالضرورة إلى زيادة في الرفاهة البشرية.
وبالتالي فإن زيادة أعداد الأشخاص الذين يتلقون تعليما عاليا لا تعني أن مهاراتهم الأعلى تدفع في كل الأحوال نمو الإنتاجية. والواقع أن ارتفاع رسوم التعليم الجامعي ــ التي تنمو في الولايات المتحدة بمعدل سنوي يبلغ نحو 6% بالقيمة الحقيقية ــ قد لا يشير إلى أن المهارات المتزايدة الارتفاع مطلوبة لأداء وظائف محددة. فبدلا من ذلك، ربما يصبح طالبو الوظائف في المستقبل راغبين ببساطة في إنفاق قدر كبير من المال للإشارة إلى أرباب العمل أنهم يتمتعون بمهارات عالية القيمة.
والجامعات بدورها من الممكن أن تقع في خِضَم منافسة محصلتها صِفر على الإنفاق المتزايد لاجتذاب الطلاب القادرين على الدفع. وربما تعمل ديون الطلاب السريعة الارتفاع ــ من 400 مليار دولار إلى 1.3 تريليون دولار أميركي في الولايات المتحدة وحدها منذ عام 2005 ــ على تمويل المزيد من المنافسة الشديدة جزئيا على الوظائف الأعلى أجرا، وليس الاستثمارات المطلوبة اجتماعيا في رأس المال البشري.
على نحو مماثل، عند الطرف الأدنى من سلم الدخل، ليس من الواضح أن المهارات الأفضل من الممكن أن تعوض بشكل كبير عن فجوة التفاوت المتزايدة الاتساع. فمن الممكن خلق الوظائف الجديدة دائما مع أتمتة العديد من الوظائف القائمة، ولكن الوظائف الجديدة تكون أجورها أقل غالبا.
وتوضح توقعات المكتب الأميركي لإحصاءات العمل في ما يتصل بخلق فرص العمل على مدار السنوات العشر المقبلة هذا النمط. فبين الفئات المهنية العشر الأوائل التي تمثل 29% من كل توقعات خلق فرص العمل، سنجد أن فئتين فقط ــ الممرضات المسجلات والمديرين التنفيذيين ــ تدفع في المتوسط أجورا أكبر من الدخل المتوسط في الولايات المتحدة، في حين تدفع أغلب الفئات الثماني الأخرى أقل من ذلك كثيرا.
وينمو تشغيل العمالة على أسرع نحو في الخدمات التي تتطلب التعامل المباشر مع متلقي الخدمة مثل الرعاية الشخصية. وأتمتة هذه الوظائف أكثر صعوبة من التصنيع أو خدمات المعلومات؛ ولكنها وفقا للمكتب الأميركي لإحصاءات العمل تتطلب مهارات رسمية محدودة أو التدريب على رأس العمل. ولا تأتي فئات الوظائف التي تتطلب مهارات متخصصة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات حتى بين الفئات العشر الأولى. ويتوقع المكتب الأميركي لإحصاءات العمل 458 ألف وظيفة أخرى لمساعدي الرعاية الشخصية، و نحو 348 ألف وظيفة لمساعدي الصحة المنزلية، ولكن 135 ألف وظيفة فقط للمبرمجين ومطوري التطبيقات.
ولكن ألن تساعد المهارات الأفضل في تمكين الناس الذين يمارسون حاليا فئات من العمل سريعة النمو ولكنها منخفضة الأجر من الحصول على وظائف أعلى أجرا؟ في العديد من الحالات، قد تكون الإجابة "كلا". فمهما كان عدد الأشخاص القادرين على التشفير، فإن عددا ضئيلا للغاية منهم سوف يحصلون على وظيفة لمهارتهم في التشفير. وحتى لو قمنا بتجهيز شخص ما يعمل حاليا في وظيفة لا تتطلب مهارات عالية لتمكينه من أداء وظيفة تتطلب مهارات عالية بكفاءة على الأقل، فإن مثل هذه الوظيفة قد تذهب إلى موظف يتمتع بمهارات أعلى، وربما يظل الفارق في الأجر كبيرا: ففي العديد من الوظائف ربما يكون التصنيف النسبي للمهارات أكثر أهمية من القدرة المطلقة.
وعلى هذا فربما يكون "التعليم الأفضل والمزيد من المهارات للجميع" أقل أهمية في تعزيز نمو الإنتاجية وأداة أقل قوة في التعويض عن التفاوت بين الناس مما يفترض الرأي التقليدي. ولكن هذا لن يقوض بأي درجة القيمة الشخصية والاجتماعية للتعليم.
ينبغي لأكبر عدد ممكن من الناس أن يكون تعليمهم عاليا، وأن يكونوا مدركين لمبادئ العلوم الأساسية ومفتونين بها، ومتحمسين للتصميم الجيد أو الموسيقى وقادرين على فهمها. في نهاية المطاف، وفي عالم حيث من الممكن أن تحررنا الأتمتة من كدح العمل الذي لا ينتهي، يساعد التعليم الجيد في تجهيزنا على نحو أفضل لعيش حياة مُرضية، بصرف النظر عن قدرته على زيادة الأجور الفردية أو الرخاء القابل للقياس.
أما عن التفاوت بين الناس، فربما نكون في احتياج إلى التعويض عنه من خلال إعادة التوزيع العلني، مع عدم ارتباط الزيادة في أجور الحد الأدنى أو دعم الدخل بسعر الناس في سوق العمل، ومن خلال توفير السلع العامة العالية الجودة بسخاء.
في عالم حيث يصبح بوسع الروبوتات أن تقوم بالعمل على نحو متزايد، تتعاظم أهمية التعليم والمهارات أكثر من أي وقت مضى ــ ليس لأنها قادرة على زيادة أسعار الجميع في سوق العمل، بل لأنها من الممكن أن تعدنا لحياة حيث تصبح وظائف عديدة غير قادرة على تحقيق القدر الكافي من الدخل، أو الرضا، أو المكانة.
اضف تعليق