q

جيسون باك

 

حاولت الأمم المتحدة لمدة تسعة أشهر فرض ما يعرف بحكومة الوفاق الوطني في ليبيا. وعلى الرغم من تعدد التصريحات الدولية الداعمة، فشلت حكومة الوفاق الوطني فشلا ذريعا في الترسخ على الأرض في ظل خلافات إقليمية وتعقيدات دستورية أثرت على شرعيتها وسط افتقارها لأي قدرة مؤسسية. أضف إلى كل هذه الأسباب التقريبية افتقارها للمدخول وعدم سيطرتها على مراكز إنتاج النفط وتصديره في ليبيا.

في 11 أيلول/ سبتمبر، استولت القوات المتحالفة مع الجنرال خليفة حفتر، المنافس الأبرز لحكومة الوفاق الوطني، على معظم موانئ الهلال النفطي في ليبيا – طاردة بذلك الجماعة المتبقية من فيدراليي إبراهيم الجضران. في أعقاب هذا العمل التاريخي، استؤنفت مباشرةً صادرات النفط من رأس لانوف والسدرة والزويتينة إلى العالم بعد انقطاع دام سنتين فتمت تعبئة ناقلات النفط (خاصة بالنفط الخام الذي كان مخزنا في صهاريج) وخصصت أموال لإصلاح المنشئات النفطية لتعود عائدات هذه الشحنات النفطية للتدفق إلى خزائن ليبيا. في هذا الإطار، السؤال الذي يطرح نفسه هو وجهة هذه الأموال في المشهد المؤسسي الليبي المعقد والمتصدع، ولماذا تم السماح لها بالتدفق؟

في 21 أيلول/ سبتمبر، انطلقت الشحنة الأولى منذ 2014 من النفط الخام من رأس لانوف إلى إيطاليا، وأعلنت المؤسسة الوطنية للنفط إنها تلقت مبلغ 310 مليون دينار ليبي (224 مليون دولار) من المجلس الرئاسي المدعوم من الامم المتحدة والذي يعمل بمثابة الهيئة التنفيذية لحكومة الوفاق الوطني، وذلك لإجراء عمليات إصلاح وصيانة في المنشآت النفطية. وأضافت المؤسسة إنها ستحصل على مبلغ 620 مليون دينار أيضا على دفعتين متساويتين بحلول نهاية العام. في اليوم التالي، أصدرت 22 دولة وهيئة دولية، بما في ذلك اللاعبين الرئيسيين مثل مصر والامارات العربية المتحدة وقطر وروسيا، بيانا مشتركا حول ليبيا، مؤكدة التزامها بالاتفاق السياسي الليبي الذي تم توقيعه في الصخيرات، المغرب، العام الماضي ومرحبة بنقل السيطرة الاسمي على الموانئ في الهلال النفطي إلى المؤسسة الوطنية للنفط واستئناف الصادرات.

إن فتح هذه المنافذ بعد أشهر من الحوادث ونقص في التمويل لدى المؤسسة الوطنية للنفط وتقلص عائدات النفط، يظهر وكأنه مدعاة لاحتفال وطني، لا سيما وسط الضيق الاقتصادي الوخيم الذي تعاني منه ليبيا. إلا أنه من المهم أن نتذكر أن من وراء فتح هذه المنافذ هو حفتر، الرجل الذي لطالما عارض حكومة الوفاق الوطني وعملية الأمم المتحدة للسلام، والرجل الذي يرفض الاعتراف بسلطة المجلس الرئاسي والذي لم يخف إعجابه بالقادة العسكريين كالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مثلا. إلا أنه من المفترض أن يتم تحويل كافة عائدات صادرات النفط التي يسمح بتدفقها من خلال البنك المركزي في طرابلس في ليبيا الخاضع لسيطرة المجلس الرئاسي المدعوم من الامم المتحدة. فلماذا يسمح حفتر بذلك علما أنه من شأن هذه الأموال أن تعزز الكيان السياسي الذي يريد هو الإطاحة به؟

أولا، من خلال الاستيلاء على موانئ الهلال النفطي وإعادة فتحها، حصل حفتر على قدر كبير من الشرعية السياسية بين الليبيين الذين لم يؤيدوه سابقا، سواء في الشرق أو الغرب. وقد تم توقيت خطوة حفتر ببراعة لأن خصومه من مصراتة قد أحرزوا تقدما مؤخرا ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سرت فخفضوا بذلك تهديد الهجمات الإرهابية على البنية التحتية للموانئ إلى حد كبير. كما أن سماح حفتر لتدفق النفط يسمح له بالادعاء أنه يتعالى على السياسة ويتصرف بما يخدم مصلحة الشعب الليبي، وسيصعب على المجتمع الدولي مجادلته في حجته هذه نظراً إلى أنه سلّم المرافئ إلى المؤسسة الوطنية للنفط.

وإذا كان حفتر يسعى علنا للسيطرة على مصرف ليبيا المركزي -سواء عن طريق إعادة توجيه عائدات النفط أو الحصول على عمولات من الخزائن الليبية- فمن شأن ذلك أن يضعف مواصفاته القيادية.

في 21 أيلول/ سبتمبر، أعلن المجلس الأعلى للدولة، وهو هيئة استشارية منصوص عليها في الاتفاق السياسي الليبي، أنه «مضطر» لتولي كافة السلطات التشريعية من مجلس النواب جراء دعمه انقلاب حفتر وإنه ينوي تعيين رئيس جديد لبنك ليبيا المركزي. وقد تمت مواجهة خطوة المجلس الأعلى للدولة هذه برفض شديد وتم اعتبارها على أنها بعيدة كل البعد عن الواقع، علما أن رئيس بنك ليبيا المركزي الصادق الكبير مؤيد لطرابلس وليس من محبي حفتر. كما أن فشل معارضي حفتر في كسب الدعم يدل على أن الليبيين متجهين بشكل متزايد نحو الوحدة والقوة بدلا من الانقسام وسياسة العين بالعين.

ثانيا، يسيطر حفتر الآن على منفذ المجلس الرئاسي لعائدات النفط التي تشتد الحاجة إليها، ويمكنه بالتالي استخدام هذا كأداة مساومة للحصول على ما يريد، كما يمكنه استخدام تكتيكات شبيهة بتلك التي يستخدمها جضران – أي ابتزاز المجلس الرئاسي من خلال تسكير الحنفية. تجدر الإشارة إلى أن إنتاج النفط الخام في ليبيا ارتفع إلى 450،000 برميل يوميا مقارنة بـ 260،000 برميل يوميا الشهر الماضي. لكن تبقى هذه الأرقام مضللة لأن معظم هذه الزيادة ناتجة عن وجود كمية محدودة من الخام المخزن الذي يتم تصديره بعد طول انتظار. ومع ذلك، ستعود بعض الحقول إلى الساحة في ظل احتمال زيادة الإنتاج تدريجيا.

في 27 أيلول/سبتمبر، قال رئيس الوزراء فايز السراج إنه سيتم تمثيل حفتر أو حلفائه المقربين في الحكومة الجديدة التي يعمل المجلس الرئاسي على تشكيلها، وذلك في اعتراف من السراج بمساهمة هذه التطورات الهائلة في أي نجاح مستقبلي تحققه حكومة الوفاق الوطني. ولكن من غير المتوقع أن يحث ذلك جنرال ليبيا القوي على الاشتراك في هذه العملية فجأة. وقد أظهر استيلاء حفتر السريع السلطة القليلة التي يتمتع بها المجلس الرئاسي على أرض الواقع؛ وبالتالي، فإنه من غير المحتمل أن يرضى بأي شيء لا يرقى إلى مستوى إعادة صياغة الاتفاق السياسي الليبي بكامله ليكون هو في موقف سلطة.

ثالثا، من المهم أن نتذكر أنه على الرغم من القتال والتشرذم في ليبيا، واصل مصرف ليبيا المركزي إلى حد كبير دفع رواتب مجموعة كاملة من الميليشيات المعارضة، بما في ذلك معظم قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر. ولذلك، من المحتمل أن تكون أولويات حفتر من حيث التمويل قصير الأجل مركزة على الأسلحة والذخائر بدلا من دفع الرواتب، إذ قل ما يساعد الوصول إلى أموال بنك ليبيا المركزي بحد ذاته في شراء الأسلحة.

لذلك، يتطلع حفتر إلى حلفائه الدوليين بهدف الوصول إلى إمدادات عسكرية. في مقابلاته الأخيرة، اعترف حفتر بالدعم والمشورة الاستخباراتيين اللذين يتلقاهما الجيش الوطني الليبي من مصر، في حين جددت مصر دعمها لحفتر في ظل سعي هذا الأخير لحث روسيا، حليفته الأخرى، على مساعدته في رفع حظر الأمم المتحدة المفروض على الأسلحة بحيث تتمكن قواته من الوصول إلى المزيد من الأسلحة والمعدات العسكرية.

باختصار، تتخطى طموحات حفتر الحصول على تمويل محدد من بنك ليبيا المركزي. ويبدو أنه يلعب لعبة طويلة من خلال بناء نوع من الشرعية والنفوذ والسلطة بشكل تدريجي. فقد لجأ حفتر منذ بداية الانتفاضات ضد الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي إلى مختلف الاساليب والحيل ليستحيل رجل ليبيا القوي. ويجب أن نفسر مناورته العسكرية الحالية في الهلال النفطي وكرمه تجاه حكومة الوفاق الوطني من هذا المنطلق بالذات. فمن الواضح أنه يأمل اكتساب موقف قوي بما فيه الكفاية ليتولى قيادة ليبيا بعد طول انتظار، سواء من خلال المفاوضات السياسية أو على الأرجح من خلال القوة العسكرية.

لحسن حظ الليبيين الذين يتطلعون إلى حكم دستوري، لم يصل حفتر إلى مركز القيادة بعد، علما أن لديه العديد من الخصوم الأقوياء - أبرزهم ميليشيات مصراتة، الذين، ولحسن حظ حفتر، يسحقون داعش. لكن إن حاول حفتر الاستيلاء على السلطة، سيقاتل المصراتيون حتى النهاية المريرة قبل السماح لشخص من النظام السابق وشديد المناهضة للإسلاميين بالاستيلاء على السلطة في ليبيا.

ومع ذلك، يبدو أن الليبيين قد سئموا أكثر من أي وقت مضى الصراع والفوضى والارتباك الذي يشوب البلد؛ فإذا تمكن حفتر من أن يثبت أنه لديه بديلا أكثر استقرارا، وذلك بدعم من حلفاء أقوياء مثل مصر والإمارات العربية المتحدة وروسيا، فمن المتوقع أن يتمكن من تحقيق حلمه - وخاصة إذا خضع المشهد السياسي الدولي لاضطرابات واسعة في نوفمبر/تشرين الثاني جراء الانتخابات الأميركية.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق