الفكر الاجتماعي منتج جمعي ( كما يقول صموئيل هنتنجتون) وهو وليد جهد ذاتي متكامل للمجتمع ومعبر عن هدف اجتماعي مشترك من حيث الرغبة في عملية التغييروالبناء، هذا اذا افترضنا ان الدور الرقابي لمؤسسات الدولة فعلا اجتماعيا يعبر عن الية جديدة لحماية الدولة والمجتمع من الابتزاز الضمني الذي يتعرض له المجتمع.
ومع اقرارنا ان الاعلام يعد المفصل الرئيسي في تعديل النظام القيمي واشاعة القيم المضادة للفساد، اذ يسعى الى ترويج الوعي بالنزاهة لدى الجمهور ويمارس عملية الحصانة لموظفي المؤسسات الحكومية من مغبة الانزلاق نحو الفساد من خلال السعي لدور اعلامي رقابي يحاول ايجاد ارضية صلبة للنظام القيمي والسعي لتغيير العادات القديمة، هذا اذا ما سلمنا ان الفساد الحكومي ارث اجتماعي واقتصادي قديم، ويبقى السؤال مفتوحا :-
- ما علاقة الاعلام بالنزاهة؟ وهل صحيح ان مسؤولية الاعلام المرئي والمسموع والمقروء في مجتمع يقترح نظاما للعدالة والنزاهة تتقاذفه عدة مفاهيم؟.
- هل دور الاعلام يتلخص في مراقبة اداء الدولة والمشروع التوعوي؟ ام مهمته البحث عن بؤر الفساد؟
- هل مهمة الاعلام تأشير مكامن الخلل في مفاصل الدولة؟ أم في تعزيز قيم الشفافية والنزاهة لمحاربة الفساد المؤسسي والفردي؟
- هل وظيفته الكشف عن السلوكيات الخاطئة في عمل مؤسسات الدولة؟
ان الدراسات الحديثة في العلاقة بين الدور الرقابي للاعلام والنزاهة تؤكد ان الفساد يمكن ان يؤدي الى خلق حالات من عدم الكفاءة وعدم المساواة وتجاوز القانون والقفز على الصلاحيات وتعطيل خطط التنمية، وان دور النزاهة يمكنه ان يقلل من مخاطر الولوج في الفساد وهو وان لم يستطع بازالة الفساد بقدر ما، لكنه يسعى الى تحسين فعالية وشرعية الدولة بشكل عام، وهذا هو البعد الاول الذي نرتكز عليه في ذلك، ويبدو الامر موضوعيا حينما نقول انه لم يكن بالمقدور اولا ازالة الفساد بشكل كامل ولكن يمكننا اخذ خطوات لوضع حدود لتأثيره وتخفيف الاضرار التي يسببها في جسد الدولة والمجتمع، لان الفساد سلوك يحفزه حافز نابع من ضغوط اجتماعية ويؤدي الى انتهاكات معيارية، كما ان المتغيرات المجتمعية تسهم في تفسير مستويات الفساد والتنبؤ بها، لأن كلمة الفساد لها تاريخ، أذ تولدت من معان ودلالات مختلفة ومتباينة على نحو استثنائي، ويؤكد فلاسفة السياسة وجوده في السياسة او في الدولة، بمعنى: جهود لضمان ثروة او سلطة بوسائل غير مشروعة، كسب شخصي على حساب الجمهور.
البعد الثاني في العملية اننا يجب ان ندرك بأن الفساد له معان مختلفة وهو يقترب من المعنى التراثي( يقال فسد الشيء أي تلف وعطب ولم يعد صالحا)، وبهذا يكون معنى الفساد مضادا لمفهوم النزاهة لكننا في عالمنا الثالث صارت له معان مختلفة فالرشوة في مجتمع ما قد تعني هدية في مجتمع اخر، والقائد السياسي او المسؤول الحكومي الذي يساعد اصدقائه وافراد عائلته ومناصريه قد يبدو جديرا بالثناء في بعض المجتمعات وفاسدا في مجتمعات اخرى، وهنا لابد ان نقول ان مفهوم الدور الرقابي للاعلام والنزاهة بات متارجحا بين المعيار الشخصي والمعيار الاجتماعي والمعيار المهني.
وانا هنا كمراقبة، لا يمكنني ان اقدم تعريفا دقيقا او عميقا عن دور الثقافة والموروث الاجتماعي الذي اخترق مفهوم النزاهة وتجاوز حدود الابتزاز الاعلامي، اذ انني لا اكتم الاخرين سرا حينما اقول ان بعض الادوار الرقابية التي يمارسها الاعلام باتت تشك في نزاهتها لانها قائمة على فكرة الثراء في الاستقصاء والبحث عن حجم الخرق الذي تباركه فكرة حجم الغنيمة، فضاعت شفافية الاعلام بمقصلة الدور الاعلامي غير النزيه، فبتنا نعيش يوميا تحت حصار عناوين الصحف وتقارير الفضائيات عن الفساد الاداري والمالي وتهديدهما للمجتمع وخطر استمرارهما.
والبعد الثالث الذي يمكن ان نقترحه للفساد هو في هذا الانتقال بين حجم الفساد في القطاع العام( مؤسسات الدولة) وانتقال الممارسات الفاسدة للقطاع الخاص الى مؤسسات الدولة، فغياب العدالة الاجتماعية والاصلاحات الديمقراطية والوضوح والشفافية يعني شيوع ظاهرة الفساد في مؤسسات الدولة، ونظرا لشيوع الفساد واطراد بقائه على مدى الزمان، واحتمالات عودته بعد زوال، يسود اعتقاد ان لا سبيل الى معالجته كأختلال وظيفي يمكن الحد منه بجهد بشري هادف تقوده وسائل الاعلام المختلفة.
ان تطور مفهوم الموضوعية في الدور الرقابي في وسائل الاعلام كان ينظر اليه كرد فعل على القطيعة الصحفية التي تهدف الى الاثارة بدوافع شخصية، ولذلك يسعى الاعلاميون ان يكونوا غير متحيزين ونزيهين ومتوازنين في تعاطيهم مع حالات الفساد المنتشرة في مفاصل الدولة، غير ان النزاهة والانصاف تختلف عن التوازن، فالتوازن يوحي بان هناك جانبين فقط أي( خبر وهو شيء نادر وذا قيمة وذا سبق وبانه يجب اعطائها قيمة متساوية من التغطية).
والصحفيون الذين يسعون الى التوازن المصطنع تفتقد تقاريرهم اساسا الى الدقة، وبالتالي يكونوا متجاوزين للحقائق العلمية والاقتصادية والخلل الثاني هو الكتابة من وجهة نظر ضيقة غير نزيهة وتقديم صورة ناقصة عن الخرق او الفساد، هذا الامر هو الذي يجعل من الاعلامي المهني المشوش تنتفض منه نزاهته وتسلب منه سلطته الرابعة التي تضاهي السلطات الاخرى وتفوقها احيانا ومن اجل تجاوز الاشكالية العلاقاتية، بين السياسة والاعلام يطرح البعض ما يراه مساعدا لشيوع الشفافية في وسائل الاعلام ودورها الرقابي والاقتراب من مفهوم النزاهة قدر الامكان، فالبعض يقترح:-
1- ان تتسلح مؤسسات الاعلام بالمهنية والنزاهة العالية التي تساعدها على اداء دورها بالمهنية المطلوبة.
2- ان تسهم الحكومة ومؤسساتها التشريعية والمؤسسات القضائية في دعم الاعلام من حيث الاستقلالية وفتح الابواب للكتابة بحرية والكف عن تجيير الصوت الاعلامي لصالحها او تكميم الافواه او تهديد الاعلامي للحد من دوره الرقابي.
3- ان تشرع القوانين المطلوبة من الجهات التشريعية لضمان حيادية ومهنية ونزاهة عمل الاعلام.
4- على المؤسسات الاعلامية وهيئات التحرير وحراس البوابة في وسائل الاعلام المختلفة عليها ان تمارس دور الرقيب الذاتي على مؤسسات الاعلام وكوادرها من النفعين ومن ذوي النظرة القاصرة في فهم الدور الرقابي للاعلام والذي يشك في نزاهته.
5- ان يعمل الطرفان التنفيذي والتشريعي مع المؤسسات الاعلامية على توفير مساحة من الاجواء للعمل بشفافية وان يحترم مبدأ فصل السلطات.
والملاحظة التي يمكن للمراقب المدقق ان يؤشرها على الدور الرقابي لمؤسسة النزاهة اننا لم نلحظ طيلة سنوات عملها الماضية انجازا ملموسا وذا تاثير في مجمل مكافحة الفساد وتحقيق الشفافية في البلاد التي لازالت تصنف عالميا بالاكثر فسادا ومرد ذلك اسباب كبيرة:-
الاول:- غرابة الأليات التي تعتمد في اختيار وانتقاء موظفيها.
ثانيا:- شبحية نظامها الداخلي.
ثالثا:- قلة عدد موظفيها.
رابعا:- غموض واجباتها فهي تتراوح بين الادارية والتحقيقية والقضائية.
خامسا:- ضعف صلاحياتها والتي ظلت مشلولة ولا تتناسب مع قيمها القانونية ووضعها الدستوري الذي وضعها في مرتبة ومنعها حصانة الاستجواب والمحاسبة لكل عناوين الدولة العراقية.
سادسا:- هناك من يؤكد ان تقاطع اعمال هيئة النزاهة مع لجنة النزاهة في مجلس النواب مع ديوان الرقابة المالية مع دوائر المفتشية في دوائر الدولة مع مجلس القضاء ربما سرب الكثير من القضايا الى خارج كواليس هذه المؤسسات فمنح الاخرين فرصة الضغط السياسي او الهروب من ملاحقة كثير من المفسدين فضلا عن تعرض نشاطها الى التجاذبات السياسية والحزبية.
كل هذه الاسباب عطلت من اداء هيئة النزاهة وجعلت البعض يصفها بانها بندقية بيد مواطن بلا اطلاقات او بدن بلا اطراف، ان عدم اقرار قانون للنزاهة وديوان الرقابة المالية والمفتشية العامة وعدم اقرار قانون الاحزاب السياسية ومصادر تمويلها وعدم اصدار قانون الدعاية الانتخابية، وعدم تنفيذ كثير من اجراءات القبض القضائي الصادرة بحق المفسدين وعدم تفعيل قانون من اين لك هذا؟ وعدم اقرار قانون حرية التعبير للاعلام والصحافة، ربما، شل من حركة الاعلام واضعف من حرية الوصول الى المعلومة وجعل المواطن اولا والاعلامي كمواطن ثانيا، تفتر همته في ملاحقة حالات الفساد في مؤسسات الدولة وهذا الامر جعل من شعار النزاهة كهدف لمؤسسات الدولة العراقية يدخل في اطار الحرب الاعلامية.
ان تطوير اداء عمل النزاهة في الدولة العراقية الجديدة يفترض القيام بالاتي:
- تشكيل مجلس اعلى للنزاهة والشفافية يتكون من رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، رئيس مجلس القضاء الاعلى، رئيس مجلس النواب، رئيس هيئة النزاهة، رئيس ديوان الرقابة المالية، تخول هذه الجهات صلاحياتها للمدعي العام بالنزاهة في اصدار اوامر القبض الفورية على المفسدين ايا كانت مواقعهم السياسية والتشريعية والحكومية والحزبية، وهذا الامر يتطلب:-
1- تهيئة مساحة اكبر لحجم محاربة الفساد في وسائل الاعلام المختلفة.
2- فصل المجلس الاعلى للنزاهة عن المؤسسات الاخرى.
3- تشكيل حزام النزاهة او الخط الساخن عبر الانترنت او اجهزة النقال او من خلال الشكاوى المرفوعة من خلال اعضاء مجلس النواب ليتم التحقيق فيها من قبل المدعي العام كل ضمن محافظته.
4- ان يصار الى تقديم الحوافز التشجيعية للناشطين في مجال محاربة الفساد، مؤسسات، افراد، قانونيين، اعلاميين، مواطنين.
5- تبني نظام تعليمي وتربوي من خلال اعادة النظر في المناهج الدراسية وتقديم اعلانات مرئية ومسموعة ومقروءة تحارب الفساد.
6- تعزيز دور منظمات المجتمع المدني في محاربة الفساد.
7- اعتماد اسس الكفاءة والنزاهة في اشغال الوظائف العامة في دوائر هيئة النزاهة ويفضل ان يكونوا قضاة درجة اولى.
اننا ونحن نقدم او نستعرض اهمية دور وسائل الاعلام لاشاعة قيم النزاهة لا نخفي من ان الخطاب الاعلامي الرقابي كثيرا ما يخضع الى اللعبة السياسية حيث استخدم التشهير ضمن الصراعات السياسية بحجة رفع شعار النزاهة.
ان وسائل الاعلام العراقية لم تصل حتى الان الى مرحلة النضج والجدية الاعلامية والتعاطي بوطنية ومهنية مع مصالح البلاد ومع ملفات الفساد لذلك من الصعب ان نحكم على اداء هيئة النزاهة بالسلبية لحداثة التجربة ولان هناك معطيات كثيرة تعيق عمل هذه المؤسسة، كما ان الخطاب الاعلامي للاعلام العراقي تشوبه المحسوبية والمزاجية والشللية، ولذلك نرى تسليطا على هذه الوزارة او تلك دون اخرى فمثلا يذكر حجم الفساد في وزارة التجارة دون ان يذكر حجم الفساد في وزارة الداخلية والدفاع الا ما ندر، ولا نحتاج الى تعليق حين نقول ان سطوة الوزارتين امنيا وسياسيا ربما اطول ذراعا من سطوة الوزارات الاخرى.
ولابد ان نضيف ايضا، ان حال مؤسسات الاعلام بسبب غياب الوطنية والشفافية والمهنية كما اسلفنا والشعور بالمسؤولية وفقدان الحصانة وتدهور المستوى المعيشي للصحفي او الاعلامي تجعله راشيا ومرتشيا في نفس الوقت، كما ان غياب الحس الوطني للسياسي العراقي للعراق الجديد والمافيا السياسية التي تقف ورائه جعلت من عملية الفساد امرا مبررا لانها مدعاة لرضا وقبول رئيس هذه الكتلة او هذا الحزب عنه، لانها مدعاة لتمويل هذه المؤسسة الحزبية او هذه المؤسسة الاعلامية، ولذلك اصبح الفساد في الحكم قاعدة عند اللاوطني والاصلاح استثناءا عند الوطني او عند المواطن.
واخيرا ان النزاهة كمؤسسة رغم انها استثناءا في العراق ولا نعرف مرجعيتها التاريخية من بين (159) دولة في العالم فكرة جيدة لكنها لا تعد صالحة للتطبيق الا اذا وجدت الارادة السياسية لتطبيقها وقانون قوي يحميها وبيئة مجتمعية جاهزة لممارسة دورها واعلام نزيه وشفاف ومهني قادر على ان يتعاطى مع انبل مهمة انسانية الا وهي مصالح الفرد والمجتمع.
اضف تعليق