تُدرك الولايات المتحدة أنّها لن تستطيع تأجيل الانسحاب من العراق إلى ما لا نهاية، وخصوصًا مع فقدانها الإجماع العراقي على استمرار عمليّات التحالف الدولي. ولذلك، تفاوض الإدارة الأميركيّة منذ فترة على رزمة من اتفاقيّات الشراكة الدفاعيّة والأمنيّة مع بغداد، والتي يمكن أن تغنيها لاحقًا عن الحضور العسكري المباشر داخل العراق...
خلال شهر آب/أغسطس 2024، أعلن وزير الخارجيّة العراقي فؤاد الحسين عن تأجيل موعد إنهاء مهمّة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركيّة في العراق، وذلك "بسبب التطوّرات الأخيرة التي تشهدها المنطقة"، دون أن يوضّح علاقة هذه التطوّرات بالقرار المُستجد.
وبهذا الشكل تراجعت الحكومة العراقيّة عن قرارها السابق، الذي قضى منذ يناير/كانون الثاني 2024 بوضع جدول زمني "لإنهاء المهمّة العسكريّة" لهذا التحالف، وانسحاب القوّات الأميركيّة من العراق.
وعلى هذا النحو، يكون رئيس الحكومة العراقيّة محمد شيّاع السوداني قد ابتعد أيضًا عن الوعود التي أطلقها في مطلع العام 2024، والتي شدّدت على اتجاه العراق للتفاوض على “انسحاب سريع ومنظّم” للقوات التي تقودها الولايات المتحدة.
كما يكون قد أرجأ مجددا تنفيذ قرار البرلمان العراقي الصادر في يناير/كانون الثاني 2020، والذي قضى بإلزام الحكومة العراقيّة بإلغاء طلب المساعدة المقدّم منها إلى التحالف الدولي، بعد إنجاز المهمّة ضد تنظيم داعش.
الحكومة العراقيّة وإدارة التوازنات الداخليّة
بعد نحو أسبوعين من قرار التأجيل، أعلنت القيادة المركزيّة الأميركيّة في أواخر آب/أغسطس 2024 أنّ قوّاتها قد نفّذت مداهمة مشتركة مع قوّات الأمن العراقي، ضد عناصر من تنظيم “داعش” عبر البلاد.
وبمجرّد الإعلان عن الخبر، نُظر إلى العمليّة كمحاولة للإيحاء بأنّ بقاء القوّات الأميركيّة في العراق بات مرتبطًا بعودة خطر تنظيم داعش، بدل ربطه بأي توازنات سياسيّة داخليّة في العراق، أو بالأحداث الإقليميّة التي تجري خارجه. مع الإشارة إلى أنّ النطاق المحدود للعمليّة، كان يسمح بتنفيذها من قبل القوّات العراقيّة وحدها، دون أي مساعدة أميركيّة.
من الجدير الإشارة أولًا إلى أن قرار تأجيل انسحاب قوّات التحالف الدولي جاء كحصيلة لتفاهمات عراقيّة أميركيّة مشتركة، وفي إطار لجنة عليا تمَّ تشكيلها لدراسة الجدول الزمني لهذا الانسحاب. ولذلك، يمكن القول إن الحكومة العراقيّة امتلكت أسبابها السياسيّة الداخليّة للموافقة على هذا التأجيل، على الرغم من الإحراج الذي يسببه التراجع عن خطوة الانسحاب الأميركي.
أمّا موقف الحكومة العراقيّة فيرتبط أولاً بالهجمات التي شنّتها بعض الجماعات العراقيّة المُسلّحة المقرّبة من إيران، على القواعد الأميركيّة في العراق، منذ بدء الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة في تشرين الأوّل/أكتوبر 2023. إذ بات من الواضح أنّ أي انسحاب أميركي في ظل هذه الهجمات، سيبدو أقرب إلى هزيمة عسكريّة للولايات المتحدة في العراق.
وهذا ما يتعارض مع مصالح الحكومة العراقيّة، وخصوصًا على المستوى الاقتصادي، والتي تفرض الحفاظ على علاقات وثيقة بواشنطن بعد انحسابها.
وبشكلٍ أدق، تسود خشية في أوساط المسؤولين العراقيين من مواجهة أزمات نقديّة خانقة، في حال تعرّضت تداولات العراق الماليّة مع الخارج إلى مضايقات في المستقبل، خصوصًا أن البلاد تعتمد –في ميزانيّتها العامّة- على إيرادات تصدير النفط، بالدولار الأميركي. ولهذا السبب، تتمسّك الحكومة العراقيّة بالحفاظ على الحد الأدنى من التوازن، في علاقتها مع الولايات المتحدة من جهة، ومع طهران من جهة أخرى.
في الواقع، كانت حكومة محمد شياع السوداني نفسها ثمرة التقاطع ما بين النفوذين الأميركي والإيراني داخل العراق. فعلى الرغم من أن تحالف الإطار التنسيقي الذي أفرز هذه الحكومة ضمّ أقرب حلفاء طهران الشّيعة داخل العراق، ومنهم بعض فصائل الحشد الشّعبي، حافظت الحكومة على أولويّة تنظيم العلاقة مع واشنطن، والحفاظ على دعمها.
وبشكلٍ ضمنيّ، عملت بعض مكونات هذا التحالف على مُوازنة النفوذ الإيراني في العراق، بعلاقةٍ قويّة مع الولايات المتحدة، وذلك للحؤول دون الوقوع كليًا تحت الهيمنة الإيرانيّة.
وخارج الإطار التنسيقي، لطالما تمَّ اعتبار الوجود العسكري الأميركي بمثابة ضمانة للمكونات الكرديّة والسنيّة، التي تخشى من تمدّد نفوذ إيران داخل العراق. وهذا ما يفسّر مثلًا غياب النوّاب السنّة والأكراد، عن جلسة البرلمان العراقي المخصّصة لمناقشة إنسحاب القوّات الأميركيّة من العراق، في شباط/فبراير 2024.
ولذلك، يبدو أن حكومة السوداني تحرص على عدم إثارة هواجس هذه المكوّنات المحليّة، من خلال تراجعٍ غير ودّي وغير منظّم للقوّات الأميركيّة.
وبعد تأجيل انسحاب قوّات التحالف الدولي، أكّد مستشار رئيس الحكومة العراقيّة ضياء الناصري أن العراق لم يعد بحاجة إلى هذه القوّات على أراضيه. إلا أنّ الناصري أشار في مقابلته إلى أنّ استهداف قاعدة عين الأسد هو ما أدّى إلى تأجيل إعلان انتهاء مهمّة هذا التحالف، كاشفًا أن السوداني دخل في وساطة مع الفصائل المحليّة المسلّحة لوقف هذا النوع من الهجمات.
وهكذا، أكّدت تصريحات الناصري أن تأجيل الانسحاب جاء بهدف وضع مخرج لائق ومنظّم للقوات الأميركيّة من العراق، دون أن يؤثّر الانسحاب على التوازنات السياسيّة الداخليّة أو سياسة العراق الخارجيّة.
الولايات المتحدة والحسابات الإقليميّة
من ناحيتها، لا يبدو أنّ الإدارة الأميركيّة امتلكت الحماسة الكافية لإنهاء وجودها العسكري في العراق، في هذه المرحلة بالتحديد. مع الإشارة إلى أنّ حجم القوّات الأميركيّة في العراق انخفض اليوم إلى 2500 جندي، مقارنة بأكثر من 5000 جندي عند سيطرة تنظيم داعش على أنحاء واسعة من العراق سنة 2014. كما بات يقتصر وجود هذه القوّات على قاعدتين، بجوار مناطق ذات أغلبيّة سنيّة وكرديّة، بعد إغلاق سبع قواعد عسكريّة في محافظات أخرى.
في الوقت الراهن، تعتبر واشنطن وجودها في العراق مُهمًا من الناحية الإستراتيجيّة، في مواجهة طهران التي تدعم جماعات مسلحة على امتداد المحور الممتد من طهران إلى بيروت، مرورًا ببغداد ودمشق. وتصاعد التوتّر الإقليمي بين طهران وواشنطن، خلال الحرب الإسرائيليّة المستمرّة على قطاع غزّة، يزيد من اهتمام الإدارة الأميركيّة بالساحة العراقيّة.
ومن المعلوم أن الولايات المتحدة تحتفظ بوجود عسكري مماثل، وللغاية نفسها، في شرق سوريا وجنوبها. كما تدعم مجموعات مسلّحة محليّة عربيّة وكرديّة، للسيطرة على المناطق المحيطة بقواعدها العسكريّة.
على هذا الأساس، وفي سياق هذا التجاذب الإقليمي، يمكن قراءة إصرار الجماعات المُسلّحة العراقيّة الأكثر قربًا من إيران، على تسريع الانسحاب الأميركي من العراق. إذ ترى هذه القوى أن تلك الخطوة المنتظرة ستقلّل من حجم التأثير السياسي والاقتصادي الأميركي في بغداد، وهو ما سيصب لصالحها تدريجيًا.
أمّا بعض هذه القوى، مثل حركة عصائب أهل الحق، فلا تزال تلوّح بخيار تكثيف العمليّات العسكريّة ضد القواعد الأميركيّة، لإجبار واشنطن على إنهاء عمليّات التحالف.
وبطبيعة الحال، تُدرك الولايات المتحدة أنّها لن تستطيع تأجيل الانسحاب من العراق إلى ما لا نهاية، وخصوصًا مع فقدانها الإجماع العراقي على استمرار عمليّات التحالف الدولي. ولذلك، تفاوض الإدارة الأميركيّة منذ فترة على رزمة من اتفاقيّات الشراكة الدفاعيّة والأمنيّة مع بغداد، والتي يمكن أن تغنيها لاحقًا عن الحضور العسكري المباشر داخل العراق.
وهذا ما يذكّر بتجربة اتفاقيّة الإطار الإستراتيجي، التي وقعها العراق مع الولايات المتحدة سنة 2008، والتي أفضت لاحقًا إلى انسحاب القوّات الأميركيّة من العراق للمرّة الأولى عام 2011. واتفاقيّة من هذا النوع، يمكن أن تحقّق أيضًا أهداف بعض الأطراف المحليّة العراقيّة، التي تحرص على بقاء حد أدنى من النفوذ الأميركي، في مواجهة النفوذ الإيراني الحاضر عبر الفصائل المُسلّحة.
أمّا تفاصيل الاتفاقيّة الجديدة فلم تنضج بعد، كما يبدو أن الإدارة الأميركيّة تفضّل إرجاء التفاوض حولها إلى ما بعد انتهاء الحرب الدائرة في قطاع غزّة، كي لا تتخلّى عن حضورها في العراق وسط التوتّرات الإقليميّة الراهنة.
كما من المستبعد أن يشهد هذا الملف أي تطوّر يُذكر، قبل انقضاء الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، ووضع إستراتيجيّة الإدارة الأميركيّة الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك مقاربتها لملف المواجهة الإقليميّة مع طهران.
اضف تعليق