التحدي المعرفي الذي يواجه المؤسسات الإخبارية لا يتمثل في تلبية اهتمامات الجمهور فحسب، بل يتطلب التمثيل الذاتي والعميق في معالجة وقراءة الأحداث، والفهم المتخصص والخبرة وفهم العوامل التي تؤثر على المحتوى الإخباري والآثار المترتبة على الجمهور، وصولا الى عملية صنع القرار لنأخذ مثالا عن تجربة...
للمعرفة مجالات دلالية واسعة، ابتداء من المعاني العمومية كالقدرة على المعرفة وتطور طرق فهم الواقع، وصولا إلى المعاني الخاصة وتميز محتوى أو موقف أو نظام عن آخر، أو كما يحددها قاموس اكسفورد بانها "الخبرات والمهارات المكتسبة والفهم النظري والعملي من خلال التجربة أو التعليم والحقائق والمعلومات، والوعي أو الخبرة التي اكتسبتها من الواقع.."
وبما أن للمعرفة حضورا في مختلف العلوم، فمن المؤكد أنها تدخل ضمن دائرة إهتمام الصحافة، بما تستفيد منه المؤسسات الإعلامية والصحفيين، وتساعد على تنمية المؤسسات الإخبارية وتعزيز مواردها المختلفة من خلال الأهمية التي تكتسبها بما يخدم الجمهور.
التحدي المعرفي الذي يواجه المؤسسات الإخبارية لا يتمثل في تلبية اهتمامات الجمهور فحسب، بل يتطلب التمثيل الذاتي والعميق في معالجة وقراءة الأحداث، والفهم المتخصص والخبرة وفهم العوامل التي تؤثر على المحتوى الإخباري والآثار المترتبة على الجمهور، وصولا الى عملية صنع القرار...
لنأخذ مثالا عن تجربة قام بها الصحفي المتخصص بشؤون البيئة "أندرو ريفكين"، وفي مدونته السابقة "دوت إيرث" في صحيفة نيويورك تايمز، حذر مراراً وتكراراً من ميل المؤسسات البحثية والمجلات إلى تضخيم النتائج العلمية حول تغير المناخ، والتي تم تضخيمها والمبالغة من قبل القائمين على الحملات التثقيفية والصحفيين والمدونين على هامش المناقشة البيئية الذين لديهم حافز قوي لنشر المعلومات.
لنتأمل هنا الدور الذي لعبه عالم المناخ "جيمس هانسن" بالدراسة التي نشرها عام 2015 وباستخدام أدلة من نماذج حاسوبية معقدة، حذر هانسن أن الصفائح الجليدية القطبية من المرجح أن تذوب بمعدل أسرع بكثير مما كان متوقعا في السابق، وفي غضون بضعة عقود من الزمن، قد تغرق المدن الساحلية من بوسطن إلى شنغهاي تحت الماء، مما يهدد بالصراع العسكري، والهجرة الجماعية، والانهيار الاقتصادي الذي قد يجعل الكوكب غير قابل للحكم، مما يهدد نسيج الحضارة.
على الرغم من الاستنتاجات المثيرة للقلق، احتلت دراسة هانسن موقفاً متناقضاً وغير مستقر ضمن تقليد النشر الخاضع لمراجعة الخبراء وتم تقديمه إلى مجلة كيمياء وفيزياء الغلاف الجوي حيث تتم معظم عمليات مراجعة الخبراء عبر الإنترنت.
وعلى مدى أشهر، يُطلب من الخبراء قراءة الورقة ونشر تعليقات موضوعية عبر الإنترنت، فقط بعد مراجعة تعليقات الخبراء المجمعة، يقرر المحررون ما إذا كان سيتم قبول الورقة للنشر الرسمي ومراجعتها قبل ذلك، عمل هانسن مع شركة علاقات عامة لتوزيع الورقة على الصحفيين وعقد لقاءات متعددة عبر الهاتف لطرح الأسئلة، وقال للصحفيين إن هدفه هو التأثير على نتائج المفاوضات الدولية بشأن تغير المناخ المقرر عقدها في نهاية العام.
كان الصحفيون في نيويورك تايمز، وأسوشيتد برس، وبي بي سي، والجارديان من بين أولئك الذين اختاروا عدم تغطية الصحيفة، معتبرين أنه من السابق لأوانه نشر قصة قبل بدء مراجعة النظراء اختار مما اضطر ريفكين في مدونتهالاعتماد على استراتيجية بديلة.
رفع الوعي العام
وفي مثال آخر تعد لوري جاريت مثالا رائدا على وظيفة وسيط المعرفة إذ بلغت تقاريرها المهنية المبكرة من الخطوط الأمامية لتهديدات الصحة العامة العالمية ذروتها في كتاب صدر عام 1994 "الطاعون القادم: الأمراض الناشئة حديثا في عالم خارج التوازن".
يروي هذا الكتاب قصة الانتشار العالمي لفيروسات مثل فيروس نقص المناعة البشرية، والسل، والملاريا، والإيبولا، ويشرح بالتفصيل كيف حرض البشر على ظهور هذه العدوى وعودة ظهورها من خلال أنظمة الصحة العامة العالمية الضعيفة، وإساءة استخدام المضادات الحيوية والأدوية المضادة للفيروسات، والحرب المحلية، والحرب المحلية. هجرة اللاجئين.
في كتاب الطاعون القادم، تدمج مجموعة متنوعة من التخصصات في طريقة جديدة لفهم الأمراض المعدية، ووضعها في إطار مشكلة موحدة لا يمكن التحكم فيها إلا من خلال الأساليب التي تستنير بالأبحاث متعددة التخصصات.
أدى هذا العمل الى رفع الوعي العام بالأمراض المعدية من خلال إظهار الدمار الذي أحدثته هذه الأوبئة الجديدة للقراء، وتعزيز صورة ومكانة وتمويل الباحثين والمنظمات التي تكافح الأمراض.
في عام 2000، تابعت غاريت كتابها "خيانة الثقة: انهيار الصحة العامة العالمية"، حيث دافعت عن حل نظامي لحماية السكان في جميع أنحاء العالم من الأوبئة القاتلة، نقل نقد الكتاب للسياسة الصحية عملها إلى المجال السياسي.
وسطاء المعرفة
إن ظهور العديد من المشاريع الإخبارية الجديدة تركز على أشكال أعمق من الصحافة التقليدية وفق نوع حديث من العمل الصحفي القائم على المعرفة، من خلال التفسير والتحليل، والمبنية على البيانات ضمن دائرة اهتمام الإنسان، ومتطلبات الحياة.
ومع استثمار المؤسسات الإخبارية في مجموعة من المبادرات الرقمية والمبتكرة عبر الإنترنت، فمن المرجح أن تكون الاستراتيجية التكميلية لممارسة الصحافة القائمة على المعرفة ذات أهمية خاصة في نموذج يلعب دور الوسيط في الحوار حيث يستخدم الصحفي الخبير، المدونات والبودكاست ومقابلات الفيديو وتطبيقات التواصل الاجتماعي الاجتماعي لعقد المناقشات بين شبكة من المساهمين والقراء المتنوعين.
ويمكن للصحفيين الاستفادة من خلال التقنيات الرقمية لتطبيق المعرفة التي تشمل سرد القصص التي تشرك الجمهور والحوار والسياسات الإعلامية التي من خلالها يستطيع الصحفي والمؤسسات الإخبارية تسهيل المناقشات، وتعزيز قائمة واسعة من الخيارات أمام الجمهور.
يعد هذا النهج الذي يربط بين مجموعة من المساهمين مثالاً على الصحافة الشبكية بأسلوب وسيط الحوار المدفوع بوجهة نظر مفادها أن الحوار يمكن أن يساعد القراء على فهم وجهة نظر الآخرين وقبول حقيقة الاختلاف، فما نحتاج إليه صحافة قائمة على المعرفة ومناقشات تفرض التفكير النقدي والتحري، فهذا النوع من الصحافة يقوم على ربط الأشياء وتفاعلها ضمن المعرفة العملية والانتاجية.
خطوات معرفية
باعتبار الصحفيين ووسائل الاتصال والاعلام "وسطاء للمعرفة"، في نقل المعلومات المنتجة وتدفقها، فان ما يهمنا هو بالضبط العمل الصحفي القائم على المعرفة، ويمكننا هنا الإشارة الى مجموعة من الخطوات التي تدعم صحافة المعرفة:
- العمل بجد لبناء علاقات مع المتخصصين والباحثين، حتى يتمكن الصحفي المتخصص مواكبة الاتجاهات والاكتشافات العلمية المهمة، وتقديم المعلومات للجمهور، وشرح النتائج العلمية بطريقة يفهمها القراء بسهولة.
- يمكن لصحافة البيانات وبمشاركة الجامعات والهيئات العلمية أن تلعب دوراً حيوياً في دعم عمل الصحفيين كوسطاء للمعرفة، وضمان تعرض الجمهور لمعلومات صادقة ودقيقة.
- إنشاء مراكز معرفة وحواضن علمية يمكن من خلالها يتم تدريب الصحفيين وتمكين المؤسسات الصحفية من الوصول بسهولة إلى المعلومات وإتقان التعامل معها.
- تزدهر الحريات والديمقراطية وتكسب شرعيتها ورؤيتها من خلال المواطنين المتنورين بالمعرفة وبأهمية دور وسائل الاتصال والإعلام مما يمنح المجتمعات والصحافة على حد سواء القوة المعرفية، فالصحافة تتمتع بالقدرة على مشاركة القصص من مختلف أنحاء العالم، وهذا يساعد في تعزيز التعاطف بين المجتمعات ويخلق شعوراً بالإنسانية المشتركة.
- تلعب الصحافة أهمية تاريخية ودوراً في إحداث التغيير الاجتماعي، من خلال تسليط الضوء على القضايا المجتمعية والمصيرية، وأحد المبادئ الأساسية للصحافة هو البحث عن الحقيقة ونقلها إلى الجمهور مباشرة، ويمكن أن توسع من عملها في إجراء تحقيقات أعمق، بل تؤدي الصحافة الاستقصائية إلى الكشف عن الفضائح والممارسات الخاطئة والفساد، وبالتالي مواجهتها والعمل على الإصلاح.
- تكمن أهمية الصحافة في الوقوف كحصن ضد مد المعلومات المضللة، والتحقق منها وإيصالها إلى الجمهور بشكل دقيق.
- للصحافة آثار اقتصادية كبيرة، وهي تبقي الشركات والمستثمرين على علم باتجاهات السوق والسياسات الحكومية وأداء الشركات، وبالتالي يقود ذلك إلى قرارات استثمارية واقتصادية وأسواق عمل وسياسات اقتصادية سليمة تنفع المجتمع.
- تعمل الصحافة كمرآة لحالة التحديات والأزمات التي تواجه المجتمع على مستوى المناخ، والعنف، والعنصرية، والاستبداد، وحقوق الانسان، ووضع المرأة، ومشاكل الشباب، وللصحافة دور مهم خلال أوقات الكوارث الطبيعية، أو الاضطرابات السياسية، أو الأزمات الصحية، وتصبح الصحافة القائمة على المعرفة مصدراً أساسياً للنصائح وتدابير السلامة وفي الاستجابة لإدارة الكوارث والأزمات.
- تقوم الصحافة بنشر قصص الابتكار والإبداع والفن بل تُلهم الآخرين، وتشجيع الأفراد والمجتمعات نحو الابداع والتميز، بل تعزز التفاهم الثقافي من خلال القصص المميزة والمقابلات والتقارير الثقافية، فالصحافة تعرض الفن والأدب والتقاليد من مجتمعات متنوعة، وهو ثراء ثقافي إنساني يعزز الاحترام المتبادل والتفاهم بين المجتمعات.
- تسجل الصحافة اللحظات فور وقوعها، مما يؤدي إلى توثيقها، وبالتالي فان هذا التوثيق لا يقدر بثمن بالنسبة للمؤرخين والباحثين والأجيال القادمة لفهم السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية.
- توفر الصحافة منصة للأصوات المهمشة وتبحث عن القصص في المجتمعات وتجذب الانتباه إلى التحديات التي تواجه المجموعات الضعيفة، وتتمتع الصحافة التي تحمل المعرفة بالقدرة على الدفاع عن القضايا من خلال حملات المناصرة.
- تحديد وتوجيه أولويات الجمهور من خلال توفر المقالات، والأفلام الوثائقية، والمقابلات المتعمقة للجمهور، ودعم الخيارات الشخصية معرفياً.
- تسمح صحافة المعرفة وخاصة في العصر الرقمي، بالحصول على تعليقات الجمهور، حيث يمكن لهذه التعليقات والتفاعلات واستطلاعات الرأي العامة أن تؤثر على بناء تقارير تفتح الباب أمام تحقيقات صحفية مهمة.
خلاصة
الصحافة في جوهرها هي ممارسة جمع الأخبار والمعلومات وتقديمها للجمهور، وهي ركيزة أساسية للمجتمعات الديمقراطية الحديثة، وتضمن وصول المعلومات إلى المواطنين، ونشر الوعي بحقوقهم وأدوارهم ومسؤولياتهم، وتُخضع الحكومات والمؤسسات للمساءلة أمام الجمهور، ويعمل الصحفيون كرسل ومترجمين للأحداث والحقائق، ويقدمون التحليل والرؤى التي تساعد الجمهور على فهم ما يدور حولهم من أحداث.
ويلخص مصطلح "السلطة الرابعة"، القوة الهائلة والمسؤولية التي تحملها الصحافة، بما يؤدي إلى حدوث تغييرات جذرية في المجتمع، وتلعب دورا فعالا في صعود وسقوط الإمبراطوريات، وكما يقول ماكلوهان وغيره من علماء الاتصال الذين يرون "أن وسائل الإعلام لا تغير واقعاً اجتماعياً فحسب، بل تصنع واقعاً جديداً، من خلال نشر المعرفة بما يؤدي إلى تغييرات في مختلف شؤون الحياة."
من خلال ما تقدم يمكننا القول أن الصحفيين المتخصصين والمتنورين هم وسطاء للمعرفة وباستطاعتهم أن يفعلوا أكثر من مجرد تقييم العلوم أو نقدها، بل يمكنهم أيضا تأثير المعرفة المتخصصة من خلال تقديم تفسيرات واستنتاجات جديدة تؤثر لاحقا على تفكير العلماء.
اضف تعليق