في لبنان، حيث المصيرُ قيدَ المراجَعة، تُشكّلُ الانتخاباتُ النيابيّةُ القاعدةَ المركزيّةَ التي يَنطلقُ منها المصيرُ الجديد. فالانتخاباتُ تُعطي للشرعيّةِ الدستوريّةِ شرعيّةً شعبيّةً أو تَنزَعُها عنها. وبالتالي، ليست الانتخاباتُ، هذه المرّةَ، واجبًا دوريًّا بقَدْرِ ما هي فعلٌ وطنيٌّ يُقدِمُ عليه المواطِنُ كما يقتحِمُ الجنديُّ المعركة. عظمةُ الديمقراطيّةِ أنّها...
لا نعيشُ في لبنان تداولَ سلطةٍ بين موالاةٍ ومعارضَةٍ لكي يَقتنعَ الشعبُ بحكمِ الأكثريّةِ. الحاصِلُ منذ سنواتٍ هو سيطرةُ تحالفٍ سياسيٍّ وطائفيٍّ وعسكريٍّ على الدولةِ بالقوّةِ والترهيبِ، أو ببِدعةِ "الديمقراطيّةِ التوافقيّةِ"، أو بتسوياتِ "لا حولَ ولا قوة"، أو بتعطيلِ الاستحقاقاتِ الديمقراطيّةِ. وليتَ سيطرةَ هذا التحالفِ على السلطةِ والشرعيّةِ تَهدِفُ إلى أن يَحكُمَ على أساسِ دستورِ البلادِ وتقاليدِها وأعرافِها؛ فغايةُ السيطرةِ هي نَقضُ ما هو قائمٌ وإقامةُ ما هو مُنافٍ مفهومَ لبنان.
لذلك، وما لم نُقرِّر المواجهةَ الوطنيّةَ، يُخشى أن يكونَ الاستحقاقُ الانتخابيُّ المقبلُ، أيًّا تَكُن نتائجُه، من دونِ مفعولٍ تَغييريّ. فالقِوى المهيمِنةُ ــــ حزبُ الله وحلفاؤه ـــ ستتَخطّى، كعادتِها، نتائجَ الانتخاباتِ النيابيّةِ وستَلتَفُّ عليها، إنْ لم تكن لمصلحتِها، بألفِ طريقةٍ وطريقة ٍكما فَعلت إِثْرَ انتخاباتِ 2005 و2009 و2018. مَن لا يَتذكّرُ كيفَ ضَغطَت الأقليّةُ النيابيّةُ لإعادةِ انتخابِ نبيه برّي رئيسًا للمجلسِ النيابي، وأخّرَت تشكيلَ الحكومات، وفَرضَت حكوماتٍ توافقيّةً، وأغْلقت البرلمان، وأحْدثَت شُغورًا رئاسيًّا حتى كان لها ما تريد، إلخ... إنّه جُبنُ بعضِ قِوى 14 أذار.
من هنا إنَّ فوزَ قوى التغييرِ بالأكثريّةِ النيابيّةِ ـــ في حالِ حصولِه ـــ ليس نهايةَ المعركةِ بل بدايتُها، إذ يَتوجَّبُ عليها النضالُ لكي تُترجِمَ فوزَها الانتخابيَّ باحترامِ أكثريّتِها، بأداءٍ سياسيٍّ تغييريّ، وبحكومةٍ وبرئيسِ جُمهوريّةٍ جديدَين من الأكثريّة. خِلافَ ذلك، لا ضرورةَ للانتخاباتِ ولا فائدةَ من الانتصار. لكنَّ الخوفَ أن تكونَ معركةُ قوى التغييرِ الأساسيّةُ داخل مكوّناتِها المشَتَّتةِ بين الأحزابِ السياديّةِ والشخصيّاتِ المستقلَّةِ ومجموعاتِ المجتمعِ المدنيِّ المبعثَرة. قوى التغييرِ متّفقةٌ على معارضةِ السلطة، لكنّها مختلِفةٌ حولَ الشراكةِ في الحكمِ والخِيارات والتحالفاتِ والاستحقاقاتِ الوطنيّةِ الآتية.
في مثلِ هذه البيئةِ المتنافرةِ يَطيبُ الخرقُ والتفْرقةُ ونَسْجُ التسوياتِ والمساومات. أنْ تُخيِّبَ قِوى التغييرِ آمالَ الشعبِ وتَنقلِبَ على ثقتِه بها جريمةٌ، بل خيانةٌ لا تَقِلُّ عن جريمةِ انقلابِ التحالفِ الحاكِم على شرعيّةِ الدولة. وإذ نثيرُ هذا الأمرَ فلأنَّ شخصيّاتٍ من هذه القوى تَشتهي شعبيّةَ قريبِها تَنبُشُ القبورَ وتَضُخُّ الأحقاد، وأُخرى تَتعالى على غيرِها ولَــمّا تَزَلْ دبيبةً في السياسة، وأُخرى من حديثي النِعمِ والعطايا حدَّ اعتبارِ نفسِها مُتحدِّرةً مباشرةً من نفَحاتِ العذارى.
في لبنان، حيث المصيرُ قيدَ المراجَعة، تُشكّلُ الانتخاباتُ النيابيّةُ القاعدةَ المركزيّةَ التي يَنطلقُ منها المصيرُ الجديد. فالانتخاباتُ تُعطي للشرعيّةِ الدستوريّةِ شرعيّةً شعبيّةً أو تَنزَعُها عنها. وبالتالي، ليست الانتخاباتُ، هذه المرّةَ، واجبًا دوريًّا بقَدْرِ ما هي فعلٌ وطنيٌّ يُقدِمُ عليه المواطِنُ كما يقتحِمُ الجنديُّ المعركة. عظمةُ الديمقراطيّةِ أنّها اسْتَبدلَت مفهومَ الحربِ بمفهومِ الانتخاباتِ لتحديدِ المنتصرِ والخاسرِ، ونَقلَت قرارَ تقريرِ المصير من حكّامٍ يَخوضون الحروبَ إلى شعوبٍ تمارسُ حَقَّ الانتخاب وتُقرّر ماذا تريد. لذلك حَريٌّ باللبنانيّين أنْ يُحسِنوا الاختيارَ ليربَحوا المعركةَ الديمقراطيّة.
على أساسِ أيِّ معيارٍ يختارُ اللبنانيّون نوّابَهم في الانتخاباتِ المقبلة؟ في انتخاباتِ 2018 جرى الخِيارُ في سياقِ التسويةِ الرئاسيّةِ وتَـمّ التجديدُ، على العموم، للطبقةِ السياسيّةِ بأحزابِها وشخصيّاتِها المناطقيّة. لكن بين الانتخاباتِ الماضيةِ والآتيةِ ربيعَ 2022 زَلزلَ لبنانُ (جائحةُ كورونا، انطلاقُ الانتفاضةِ الشعبيّة، تفجيرُ مرفأِ بيروت، هَدْمُ العاصمة، انهيارُ الليرةِ اللبنانيّة، تَعطُّلُ النظامِ الـمَصرَفيّ، تَدهورُ الاقتصاد، انتشارُ الفَقرِ والجوع، انقطاعُ الكهرباءِ والمحروقات، فِقدانُ الأغذيةِ والأدويةِ، جنونُ الأسعار، إذلالُ الشعب)، وحَصَلت تطوّراتٌ سياسيّة (انفراطُ التسويةِ الرئاسيّة، سيطرةُ حزبِ الله على النظام، خروجُ الحكمِ عن الثوابتِ اللبنانيّةِ التاريخيّة، ابتعادُ الدولةِ عن محيطِها العربيِّ وانحيازُها إلى المحورِ السوريِّ/الإيرانيّ، عَزلُ لبنان، إغلاقُ البلاد، أزمةُ القضاء، تشكيكُ اللبنانيّين بصيغةِ التعايشِ ومركزيّةِ النظام، وتَرنّحُ الدولة).
بعدَ كلِّ ما اسْتجَدَّ لا يجوزُ أن يكونَ اختيارُ 2022 ذاتُه اختيارَ 2018، فكلُّ حدثٍ كافٍ وحدَه لأن يَهُزَّ كِيانَنا الذاتيّ ويُغيّرَ خِياراتِنا السابقة. هناك ما قبلَ الزلزالِ وما بعدَه. ويُفترضُ بكلِّ مواطنٍ ومواطِنةٍ أن يسألَ عن المعاييرِ الجديدةِ قبلَ اختيارِ المرشَّح. هذا السؤالُ المحوريُّ يَستدعي وَقفةَ ضميرٍ يتمّ في خلالها ما يلي: تحديدُ مُسبِّبي الأزَماتِ والانهيار. استشرافُ القوى القادرةِ على إخراجِ لبنان من الانحطاطِ والهيمنةِ وعلى حملِ القضيّةِ اللبنانيّةِ نحو آفاقٍ جديدة. غربلةُ قِوى التغييرِ والنهضةِ. درسُ البرامجِ ومقارنتُها. مراجعةُ مسارِ المرشّحين ووفائِهم بوعودِهم ومدى جِدّيتِهم وثَباتِهم وإنتاجيّتِهم وتأثيرِهم. تقييمُ الجُددِ منهم وتَخمينُ كفاءاتِهم.
اتّباعُ هذه المنهجيّةِ يُحوِّلُ الانتخاباتِ النيابيّةَ فرصةً تاريخيّةً لإنقاذِ لبنان. ليس الانتخابُ اختيارَ مَن يُمّثلُ دائرةً انتخابيّةً، إنّما مَن يقود الوطنَ والأجيالَ ويُحقِّقُ الإصلاحاتِ ويُعيدُ السيادةَ والاستقلالَ وهيبةَ الدولة. من دون مبالغةٍ، إنَّ قرارَ الناخبِ باختيارِ مرشّحٍ، لا يَقِلُّ هذه المرّة عن قرارِ الحربِ والسلمِ لأنّنا عشيّةَ حربٍ أو سِلم.
منذ اليومِ يبدأ تحضيرُ الفعلِ الانتخابيِّ للربيعِ المقبل. واجبُ المواطنين والمواطنات أن يَرصُدوا باكرًا الحياةَ السياسيّةَ والمواقف، فلا يأتي الخِيارُ ابنَ ساعتِه، ولا يَفرِضُ المرشَّحون على الناخبين لوائحَهم. حقُّ الناخبِين في القانونِ الانتخابيِّ الحاليّ أن يُشاركوا المرشَّحين في تشكيلِ اللوائح، لئلّا ترتفعَ نسبةُ المقاطعة. وأصلًا، هذا القانونُ يُشجِّعُ على عدمِ التصويتِ لأنّه يَحصُرُ الصوتَ التفضيليَّ بمرشّحٍ واحد، ويَفرِضَ التصويتَ للّائحةِ بكاملِها فيما لسنا في نظام حزبيٍّ متكامِل.
مساوئُ قانونِ الانتخابات لا تُلغي إجراءَها وتحصينَ العمليّةِ الانتخابيّةِ التي تَحومُ شكوكٌ كثيرةٌ حولَ نزاهتِها من ناحيةِ حرّيةِ الترشُّح في بعضِ المناطق، واستقلاليّةِ الناخبِ الـمُستَهدَفِ بالمالِ السياسيِّ والإعلامِ المنحاز. لذلك نقترحُ ما يلي:
1) تشكيلُ الهيئةِ الوطنيّةِ للإشرافِ على الانتخاباتِ من شخصيّاتٍ رفيعةٍ ومستقلّةٍ ونزيهة، ودعوةُ مراقبِي الأممِ المتّحدةِ إلى المشاركةِ في متابعةِ العمليّةِ الانتخابيّةِ.
2) إعطاءُ الأولويّةِ لمكافحةِ المالِ السياسيِّ، إذ بحكمِ الفَقرِ والعَوَزِ سيكون تأثيرُ المالِ السياسيِّ في المناطقِ "المنزوعةِ السلاح"، أخطرَ من تأثيرِ السلاحِ في المناطقِ الأخرى. المالُ السياسيُّ يحوّل المواطنَ سِلعةً كالدولار، فنرى سعرَ الناخب على المِنصّة، وسعرَه عند الصَرّافين، وسعرَه في السوقِ السوداء، وسعرَه لدى فتحِ صناديقِ الاقتراع، وسعرَه ما قبلَ إغلاقِ الصناديق.
3) التمني على الأحزابِ والتيّاراتِ أن ترشِّحَ أفضلَ نُخبِها، وتُعفي الشعبَ من التعساءِ والتبعيّين والفاشلين والجهَلة. اشتاقَ الشعبُ إلى مرشَّحين مميّزين بشخصيّتِهم وفكرِهم السياسيّ ونزاهتِهم وقُدرتِهم على أن يكونوا على مستوى الوطنِ والمصير. مصلحةُ القِوى السياسيّةِ أن تُشجِّعَ الناسَ على الاقتراع. فإن لم تُغيّر الشعوبُ بأصواتِها تُغيّرُ بأقدامِها...
اضف تعليق