وسط تباين حول ما إذا كانت هذه اللا-استراتيجية هي الاستراتيجية المعتمدة عن وعي وإصرار، أم أن الأمر عائد لضعف الاهتمام وكثرة الانشغالات واختلاف الأولويات وسوء الإدارة وضعف الموارد وأياً كان التباين في تفسير هذه المسألة، فإن النتيجة واحدة: لا استراتيجية أمريكية واضحة للتعامل مع أزمات المنطقة...
يحار المراقبون في منطقة الشرق الأوسط في فهم كنه استراتيجية واشنطن الشرق أوسطية، وسبر أغوارها، وبات من الشائع أن تقرأ وتسمع لمواقف وتحليلات تنكر أصلاً وجود استراتيجية أمريكية واضحة حيال أزمات المنطقة المفتوحة من حيث معايير وشروط وآليات حلها، وسط تباين حول ما إذا كانت هذه "اللا - استراتيجية" هي الاستراتيجية المعتمدة عن وعي وإصرار، أم أن الأمر عائد لضعف الاهتمام وكثرة الانشغالات واختلاف الأولويات وسوء الإدارة وضعف الموارد...وأياً كان التباين في تفسير هذه المسألة، فإن النتيجة واحدة: لا استراتيجية أمريكية واضحة للتعامل مع معظم، إن لم نقل جميع أزمات المنطقة.
إيران وبرنامجها النووي، هي القضية التي تتصدر سلم أولويات واشنطن في الإقليم، ولواشنطن رغبة لا تخفى على أحد في العودة إلى اتفاق فيينا 2015، لكن هذه الرغبة تصطدم بشروط إيرانية يصعب على إدارة بايدن ابتلاعها، سيما وأن طهران باتت وفقاً لتقديرات عدة، على مبعدة عشرة أسابيع من "القنبلة"، فيما يخضع بايدن وفريقه التفاوضي لضغوط كثيفة من الداخل (جمهوريين وبعض الديمقراطيين) والخارج (إسرائيل وبعض حلفاء واشنطن من العرب) للتخفيف من حدة اندفاعتها صوب طهران.
لا تتوفر إدارة بايدن على كثيرٍ من الخيارات للتعامل مع الملف النووي الإيراني، فهي تدرك، وسبق لها أن صرحت، بأن تكتيك "أقصى العقوبات" الذي اعتمدته إدارة ترامب بعد انسحابها أحادي الجانب من اتفاق فيينا، قرّبت طهران من "القنبلة" ولم تبعدها عنها، وأنه فشل في إجبار طهران على تقديم المزيد من التنازلات... لكن إدارة بايدن وهي تقر بفشل سابقتها، لا تمتلك بدورها خياراً بديلاً، وهنا تستوقفنا تصريحات وليم بيرنز، مدير الـ "سي آي إيه"، لدى زيارته إسرائيل، بأن بلاده لن تذهب إلى حرب على إيران على خلفية برنامجه النووي.
ويبدو أن محدثي بيرنز من الإسرائيليين، لم يجدوا بدورهم بدائل أفضل ليعرضونها على المسؤول الأمريكي الزائر، حتى أن يائير لبيد، وزير خارجيتهم، الذي لم يُخفِ رفضه للاتفاق النووي، قال في اليوم ذاته، أن ليس ثمة خطة بديلة عنه، ولا بديل جيداً لهذا الاتفاق... انسداد البدائل والخيارات، دفع بمسؤولين أمريكيين مرموقين سابقين، لتقديم اقتراحات "ساذجة" للخروج من الاستعصاء: على واشنطن تسليم إسرائيل قنابل كبيرة، ووسائط لنقلها، لتقوم هي بمهمة تدمير البرنامج النووي الإيراني، وفقاً لدينس روس، أية سذاجة هذه، وأي خفّة واستخفاف بأمن المنطقة وسلامتها وحياة أبنائها وشعوبها.
ينفتح الانسداد في خيارات واشنطن للتعامل مع "النووي الإيراني" على احتمالين اثنين، لا ثالث لهما: المضيّ في مفاوضات فيينا بمزيد من الاستعداد لتقديم التنازلات، خصوصاً في مجال رفع العقوبات وفصل ملفات العلاقة مع إيران أحدها عن الآخر: البرنامج النووي والصاروخي ودور إيران الإقليمي... أو الإقرار بإيران، عضواً جديداً في النادي النووي، إن لم تكن كدولة متوفرة على "القنبلة"، فبوصفها دولة قادرة على انتاجها ما أن يتخذ القرار بذلك، دولة على حافة انتاج "القنبلة".
إيران في المقابل، ليست في وضع تفاوضي حَسن، جراء ما يعتصرها من أزمات اقتصادية وصحية ومعيشية، وتآكل قدرة الدولة على تقديم خدمات أساسية لمواطنيها: "انتفاضة المياه"...لكنها في المقابل، ليست دولة على "حافة الانهيار"، ولديها بدائل ومخارج لدى عواصم وقوى دولية صاعدة: الصين وروسيا وغيرهما، والأهم أنها تقرأ جيداً "مأزق خيارات واشنطن وبدائلها".
إيران هذه، تواجه بدورها، أزمة خيارات وبدائل... فهي من جهة، ما زالت تتمسك بمبدأ "عدم جواز امتلاك القنبلة شرعاً"، وهو موقفه شدد عليه رئيسها المتشدد إبراهيم رئيسي في أول خطاب له أمام مجلس الشورى، لكنها من جهة ثانية، لا تفصح عن السبب الذي يدفعها للاقتراب من حافة انتاج "القنبلة" مع كل خطوة تتخذها رداً على العقوبات الأمريكية والاستنكاف الأوروبي عن الوفاء بالتزامات اتفاق 2015، فمن يُحرم انتاج القنبلة، لا يذهب بعيداً في رفع نسب التخصيب ومعدلاته، وثمة بدائل أخرى للضغط على الأطراف الموقعة على الاتفاق النووي، غير هذا الطريق.
هنا يمكن القول: أن إيران إما أنها تكذب في حكاية "فتوى تحريم القنبلة"، أو أنها تعطيها تفسيراً مختلفاً: الوقوف على عتبة انتاج "القنبلة" دون المقامرة بقطع الخطوة الأخيرة لتصنيعها... في مطلق الأحوال، حاجة إيران لرفع العقوبات، لا تقل أبداً عن حاجة واشنطن وحلفائها في الإقليم وأوروبا، لمنع إيران من الوصول إلى "القنبلة"... الأمر الذي يُبقي نافذة الأمل مفتوحة، وإن بشكل موارب وإلى حين.
أياً يكن من أمر، فإن الوقت المتبقي لحالة الضياع والشتات في الموقف الأمريكي حيال إيران، بات يُعدُّ بالأسابيع، لا أكثر، وأغلب الظن، أن طهران بأدائها التفاوضي في فيينا الشهر المقبل، ستحسم الكثير من الأسئلة الحائرة في واشنطن، وسيكون بمقدور إدارة بايدن، بعدها، أن تقرر خطواتها التالية: أما اتفاق ورفع للعقوبات والدخول في حالة "اشتباك إيجابي" مع إيران، وإما إقرار بانضمام عضو جديد لنادي الدول النووية، والمقامرة باستقبال "القنبلة الشيعية" بكثير من القلق والتحفظ، كما استقبلت من قبل، "القنبلة السنيّة" في الباكستان، طالما أن القنابل النووية، لا هوية دينية – مذهبية لها، إلا حين تكون من صنع دولة إسلامية!
والحقيقة أن "التيه" الأمريكي في الشرق الأوسط، لا يقتصر على إدارة الملف الإيراني، بل بات سمة عامة للكيفية التي تدير بها واشنطن مختلف أزمات المنطقة... ونقول إدارة هذه الأزمات وإخماد حرائقها، لأن واشنطن لا تتوفر على خطة استراتيجية لحل أي منها حلاً جذرياً وشاملاً...فالموقف الأمريكي من الأزمة الأبعد مدى في التاريخ: الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا يتخطى حدّي: التهدئة على جبهة غزة، وإجراءات بناء الثقة على محور الضفة – إسرائيل... أما "حل الدولتين"، فهو أقرب للرؤيا وليس للرؤية، والفرق بين الكلمتين لا يخفى على أحد، رؤيا بمعنى حلم لا يرتبط بخطط وبرامج لإنجازه، أما "الرؤية" بمعنى "vision"، فهي تُستتبع عادة، برسالة وأهداف وبرامج وجداول زمنية وأدوات قياس للتقدم والتراجع... لا شيء يشي بأن واشنطن لديها مثل هذه "الرؤية"، أو أن حراكها الدبلوماسي الذي فرضه حريق القدس وغزة في أيار الفائت، سيتخطى هدفي إخماد الحرائق ومنع حدوث انفجارات لاحقة، إلى بحث في عمق الأزمة وملفات حلها النهائي.
وفي اليمن، باتت المخاوف تتسرب لدى أطراف يمنية عديدة، من ميلٍ أمريكي لاجتراح صيغة حل، تكتفي بوقف إطلاق النار وتسيير المساعدات الإنسانية، فيما تبقى الأطراف المتنازعة، مرابطةً عند الحدود التي وصلتها دباباتهم وأقدام جنودهم ومقاتليهم... وفي العراق وبالأخص في أفغانستان، لا يبدو أن أسئلة اليوم التالي لسحب القوات الأمريكية من البلدين، تلقى اهتماماً كافياً في واشنطن، يتخطى تأمين الجاليات وسحب السفارات وتأمين الدبلوماسيين الأمريكيين، وتقديم الحد الأدنى من العون والإمداد لحلفاء واشنطن، ولا يدري أحدٌ في المنطقة، كيف سينتهي حال القوات الأمريكية في شمال سوريا الشرقي، بعد أن يسحب البنتاغون "وحداته القتالية" من العراق، أما الوضع في ليبيا، والأداء الأمريكي في لبنان، فلا يختلفان كثيراً عن بقية ساحات الاشتباك الساخنة.
خلاصة القول، أن ما نشهده اليوم من "فراغ قيادي" أمريكي في طول الإقليم وعرضه، إنما هو النتيجة الحتمية لتبدل أولويات الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة، وهو تبدل سابق لإدارة بايدن، بل وسابق لإدارة ترامب كذلك، فراغ لا يبدو أن أيٍ من القوى الدولية مستعدة أو مؤهلة لملئه، والأرجح أنه سيُبقي باب التنافس مفتوحاً على مصراعيه بين القوى الإقليمية لملئه أو الحصول على قطعة من "كعكته"، وهنا تبرز على السطح قوى كإيران وتركيا وإسرائيل، بوصفها الأكثر تأهيلاً لملء هذه الفراغ، والصراع على أوسع مساحة على خرائطه.
في هذه الأثناء، ستستمر واشنطن بالعمل بتكتيك "القيادة من الخلف"، أو "القيادة عبر الوكلاء"، وفي هذا السياق، يبدو أنها لا تمانع في توكيل مصر لبعض صفحات الملف الفلسطيني – الإسرائيلي الأكثر سخونة: التهدئة، المساعدات، إعادة الإعمار، المصالحة الداخلية، كما أنها شجعت تركيا على القيام بدور الوكيل في كابول ومطارها، وليس مستعبداً أن تستمر إدارة بايدن في سياسة البحث عن "وكلاء" لتلزيمهم بعض الملفات، حتى وإن اضطرت لابتلاع تحفظاتها على سجلات هؤلاء في مجال الديمقراطية وحقوق الانسان والفساد، وهي الملفات التي سيخصص لها الرئيس بايدن، قمتان عالميتان: افتراضية وشيكة، ووجاهية العام المقبل.
اضف تعليق