خروج إدارة ترامب الوشيك من البيت الأبيض، كان المحرك الرئيس لقطار المصالحة الخليجية إدارة ترامب، فاقمت الأزمة في البدء، والبعض يقول عملت إلى إنشائها بهدف استحلاب هذه الدول وإبرام صفقات سلاح فلكية معها الإدارة ذاتها، رغبت في غلق هذا الملف، وإدراج المصالحة الخليجية في سجل إنجازاتها...
موجة الترحيب الإقليمي والدولي بنتائج القمة الحادية والأربعين لدول مجلس التعاون الخليجي، لم تنجح في إخفاء العديد من الأسئلة والتساؤلات التي سبقت وأعقبت القمة: هل تمت المصالحة فعلاً، أم أننا أمام "تهدئة" مؤقتة، فيما أسباب الخلاف ما تزال كامنة تحت سطح العلاقات بين الممالك الست؟ هل هي مصالحة خليجية (مصرية) – قطرية، أم أنها مصالحة سعودية – قطرية، بغطاء خليجي - مصري؟ لماذا الآن، وما هي أسباب استعجال المصالحة؟... وأخيراً: كيف يُنظر لهذا التطور من منظور الربح والخسارة؟
ثمة ما يشبه الإجماع بين المصادر والمراقبين والمحللين، على أن خروج إدارة ترامب الوشيك من البيت الأبيض، كان المحرك الرئيس لقطار المصالحة الخليجية... إدارة ترامب، فاقمت الأزمة في البدء، والبعض يقول عملت إلى "إنشائها"، بهدف "استحلاب" هذه الدول، وإبرام صفقات سلاح فلكية معها... الإدارة ذاتها، رغبت في غلق هذا الملف، وإدراج المصالحة الخليجية في سجل إنجازاتها، حتى لا يُنسب إلى إدارة بايدن، وهذا هو الشعور العام في الإقليم.
لكن الاستعجال الأميركي لإتمام المصالحة، لم يكن العامل الوحيد وراء إتمامها، إذ تكاملت رغبة فريق ترامب الرئاسي في الاستحصال على إنجاز دبلوماسي سريع، مع رغبة ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، في استعادة العلاقة مع قطر، وإغلاق ملف الانقسام الخليجي... هنا، تذهب التأويلات لرغبة الحاكم الفعلي في المملكة، في اتجاهات ثلاثة:
(1) إنها حلقة في سلسلة من المراجعات (الاستعدادات) التي يجريها الأمير الشاب لاستقبال إدارة بايدن الديمقراطية، والتي تُجمع كافة التقارير على أنها لن تكون "سلسة" في تعاملها مع الرياض، وأن أياماً صعبة تنتظر العلاقة بين الجانبين.
(2) إنها نتيجة لتفاقم "مخاوف" الأمير من حليفه المقرب، ولي عهد أبو ظبي، فالسعودية والإمارات اللتان جمعتهما "شراكة استراتيجية" في الحرب على اليمن ومحاربة الجماعات الإسلامية، والعداء لإيران، والخشية من تنامي الدور التركي – القطري، بدا في الآونة الأخيرة أنهما تسلكان طرقاً مختلفة، إن في اليمن، أو العلاقة مع تركيا، بل أن "التنافس" بيد الدولتين على زعامة المنظومة الخليجية والإقليم، بات يطغي على "التعاون" الذي ميّز علاقاتهما لسنوات.
(3) إنها خطوة على طريق الصعود إلى "العرش السعودي"، فالأمير الذي ارتسمت له صورة "المتهور" و"المغامر" الذي لا يتردد في فتح الجبهات وتفجير الأزمات، بما فيها الأزمة القطرية، أراد أن يجعل من "قمة العُلا" والمصالحة الخليجية، مدخلاً لتقديم نفسه بصورة رجل الوفاق والاتفاق، وراعي المنظومة الخليجية، الحريص على لحمتها وتماسكها، الرجل القوي في المملكة، أراد أن يستعيد صورة المملكة القائدة لنادي الملكيات الست، بعد أن تعرضت هذه الصورة للاهتزاز والتحدي من قبل قطر أولاً، والإمارات لاحقاً.
يفسر ذلك "سرّ" الحماسة السعودية الفائقة لاستعادة العلاقة مع قطر، كما يفسر "الاستعجال" الذي أبداه ولي العهد لإتمام المصالحة، و"الحفاوة" التي خصّ بها أمير قطر لدى هبوطه عن سلم طائرة "الأشيقر" في مطار "العُلا"، وطوال فترة إقامته القصيرة في المدينة التراثية – التاريخية... كان واضحاً لكل من راقب المشهد، الرغبة السعودية "الجامحة" في طي صفحات هذا الملف.
في المقابل، كان الحذر والتحفظ، باديان على سلوك ومشاركة وردود أفعل، قادة الدول الثلاث الأخر المنضوية في إطار "الرباعي العربي" الذي فرض الحصار على قطر... إذ لولا الضغوط السعودية لما شاركت مصر في القمة، وهي اكتفت بإرسال وزير خارجيتها بعد أن امتنع الرئيس عبد الفتاح السيسي عن الحضور شخصياً، وغاب قادة أبو ظبي عن القمة، واكتفوا بإرسال الشيخ محمد بن راشد ممثلاً لبلادهم، وهو وإن كان في الموقع الثاني، بروتوكولياً، إلا أنه لا يحتفظ بهذه المكانة في مطبخ صنع القرارات السياسية والأمنية للدولة، وتخلف العاهل البحريني عن المشاركة، وأوفد نجله وولي عهده، الذي لم يتمكن من السيطرة على "لغة جسده" وهو يتحضر للتوقيع على "بيان العُلا" أمام عدسات المصورين.
كان واضحاً أننا أمام مصالحة سعودية – قطرية، وأن الأطراف الثلاثة الأخرى، تجرعت كأس المصالحة على مضض، وأنها اضطرت للمشاركة في قمة لم تستوف شروطها، إرضاءً للمملكة ورغبة منها في الحيلولة دون تدهور علاقاتها معها... في حين انعقد الرهان السعودي على إمكانية تحويل "التهدئة" التي تم التوصل إليها في "العُلا" إلى بداية طريق طويلة نسبياً، لإتمام المصالحة.
أما قطر، فقد كان واضحاً أن أكثر ما يعنيها في "ملف المصالحة الخليجية" هو استعادة علاقاتها مع السعودية، فالحصار السعودي البري والبحري والجوي، هو أكثر ما يلحق الضرر بالإمارة، والسعودية قاطرة كبرى، ستجر معها، الدول الأخرى إلى "مربع التهدئة والمصالحة"، وكان للدوحة ما أرادت، حتى أن ثمة ما يشبه الإجماع بين المراقبين، على أنها خرجت "منتصرة" من معركة رفع الحصار، وأنها احتلت المكانة الأولى على رأس قائمين الرابحين من المصالحة الخليجية.
لقد تجاهل "بيان العُلا" شروط الرباعي العربي الثلاثة عشرة، والتي كانت بمثابة "صك إذعان واستسلام"، يجرد قطر من عناصر سيادتها واستقلالها، بل ومن أوراق قوتها ونفوذها في الإقليم، وتضمن بدلاً عن ذلك، قواعد ومبادئ عامة، لا يختلف بشأنها اثنان، وهي قواعد حاكمة للعلاقات الدولية، من نوع بناء الثقة وحسن الجوار واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ومحاربة التطرف والإرهاب والتهديدات الخارجية، إلى غير ذلك مما يمكن لكل دولة من مجموعة "6 + 1" التي التأم شملها في "العُلا" أن تقبل به وتتعايش معه.
في حسابات الربح والخسارة، يمكن القول بخلاف كثيرين، أن ولي العهد السعودي حلّ ثانياً بعد الأمير تميم، في لائحة الرابحين... فهو نجح في إعادة رسم صورته كرجل دولة يتطلع لقيادة المنظومة الخليجية، وهو بتسميته للقمة باسم السلطان قابوس والشيخ صباح، كان يبعث برسائل طمأنينة لكل من عُمان و الكويت، اللتان لم تخفيا قلقهما من النزوع المغامر للأمير الشاب، وهو خطا خطوة إضافية على سلم "وراثة العرش السعودي"، وهو اليوم في وضع أفضل لاستقبال إدارة بايدن.
أما القاهرة وأبو ظبي، فقد خرجتا من "مولد المصالحة بقليل من الحمص"، ولم تحقق العاصمتان ما كانتا تتطلعان إلى تحقيقه بعد سنوات أربع من حصار قطر، فقناة الجزيرة ستواصل نقدها للنظام المصري، و الدوحة لن تقطع علاقاتها بجماعات الاسلام السياسي، أما علاقاتها مع إيران، فقد تمكنت من الاحتفاظ بها، بل وتطويرها، في ظل إدارة بايدن وسياسة "الضغوط القصوى" على إيران، وهيهات أن تقدم على تقطيعها غداة مجيء إدارة بايدن، التي تعد بالانفتاح على طهران والعودة للاتفاق النووي.
تبقى العلاقة مع تركيا، والتي كانت قضية خلافية بين الدوحة وعواصم "الرباعي العربي"، هنا تجدر ملاحظة "الديناميات" الجديدة في علاقات هذه الدول بأنقرة... السعودية تنتهج مقاربة جديدة حيال تركيا، منذ المكالمة الهاتفية بين الملك سلمان والرئيس التركي رجب طيب إردوغان عشية قمة العشرين التي استضافتها الرياض، ووزيرا خارجية البلدين اجتمعا في النيجر على هامش مؤتمر لمنظمة التعاون الإسلامي، و"الغزل المتبادل" لا يكاد يتوقف بين الجانبين... القاهرة بدورها، بدأت تشق طريقاً مغايراً في علاقاتها مع أنقرة، مع تغير مقاربتها للأزمة الليبية، وتحولها من "العداء" لحكومة الوفاق، إلى الانفتاح عليها، ورغبتها في الانتقال من موقع "الطرف" في هذه الأزمة إلى موقع "الوسيط النزيه"، الذي يقف على مسافة واحدة من الأطراف المتصارعة... هذا التحول سيُملي على الدبلوماسية المصرية انتهاج مقاربة جديدة حيال تركيا، وسينقل التواصل بين الجانبين، من القنوات الأمنية - الاستخبارية الخلفية، إلى فضاء الدبلوماسية العلنية الرحب.
تترك هذه التطورات المتسارعة في علاقات كلٍ من القاهرة والرياض مع أنقرة، أبو ظبي وحيدة في سياسة العداء لتركيا، لكن الدبلوماسية الإماراتية التي خبرت التغيرات والتبدلات السريعة، وتميزت بالمرونة القصوى في بعض الملفات، لن تتخلف عن الركب، وستكون "التبادلات التجارية والاقتصادية الكبرى" بين الإمارات وتركيا، بوابة رحبة، لطي صفحة العداء، وربما "تطبيع" العلاقات بين البلدين، وهذه هي فحوى التصريحات "الاستباقية" التي أدلى بها وزير الدولة الإماراتي بخصوص تركيا، وجاء فيها: "نكره أن نكون على عداء مع تركيا".
في مثل هذه المناخات المتقلبة، لم يعد مطلب قطع العلاقة مع تركيا، أو إغلاق قاعدتها العسكرية في قطر، بذي معنى... ولهذا السبب بالذات، يتشجع نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، وبعد أيام قلائل من "قمة العُلا" للقول بإن بلاده لن تقطع علاقاتها بإيران وتركيا.
خلاصة القول: إن المصالحة بين السعودية وقطر، والتهدئة بين الأخيرة وبقية أطراف الرباعي، ستفتح الباب لانفراجة في العلاقات الخليجية – الخليجية، وربما العربية – العربية، لكن ذلك لا يعني أن "المنافسة" بين الأقطاب الخليجية الثلاثة: الرياض، أبو ظبي والدوحة، ستنتهي، أو أن مجلس التعاون الخليجي سيعاود مسيرته بقيادة سعودية متفرّدة... الأزمة القطرية تطرح على قادة دول مجلس التعاون سؤالاً حول كيفية إدارة هذه المنظومة الإقليمية، فالقواعد القديمة لم تعد صالحة للتعامل مع مستجدات المصالح وموازين القوى، والتحالفات الإقليمية والدولية التي نسجتها بعض الدول الأعضاء، وكل هذا يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار، والمجلس يحتفل بالذكرى الأربعين لتأسيسه، ويعقد أول قمة له، بعد رحيل جميع "الآباء المؤسسين" لنادي الأثرياء العرب.
اضف تعليق