هذه المجموعات المختلفة التي كانت العمود الفقري لظاهرة ترامب، أصبحت تمثل معارضة كبيرة وغاضبة للسلطة الفدرالية. إما لأن هذه المجموعات ترى في السياسات التقليدية في العقدين الماضيين مساوئ لا تعد ولا تحصى، أو لأنها ترى أن العمل العام كله أصبح فاسداً ومسخراً لمصالح اقتصادية محدودة...
بقلم: طارق عثمان، كاتب ومعلق سياسي
إذا افترضنا أن إدارة جو بايدن ستستلم الحكم بسلاسة من إدارة دونالد ترامب، فلسوف تُستقبل بترحاب حافل من أغلب مؤسسات الحكم في الولايات المتحدة. ذلك لأن تلك المؤسسات – ومعها كبريات الصحف، وأهم دور الفكر والنشر والاعلام، والأصوات الأعلى في الجامعات وغيرها – رأت في دونالد ترامب تمثيلاً لما هو خطر في الولايات المتحدة.
وعليه، فإن خروجه من البيت الأبيض، ودخول رئيس ذي خبرة واسعة، والمهم، واحد من انتاجات السياسة الامريكية في النصف قرن الماضي، سيعطيهم طمأنينة، أو على الأقل فرصة لالتقاط الأنفاس بعد 4 سنوات من إدارة ترامب، بدت الولايات المتحدة فيهم وكأنها، كما يقول المثل المصري، "على كف عفريت".
لكن فترة الهناء ستكون قصيرة للغاية، لأن هناك مشاكل غاية في الجدية تواجه الولايات المتحدة.
المشكلة الأولى: أن دونالد ترامب لم يمثل حزباً سياسياً هُزِم في انتخابات الرئاسة، بقدر ما يُمثل تيارات اجتماعية متعددة وقوية.
كلمة "متعددة" هنا مهمة. ذلك لأن أهم نجاح لترامب كان في جمعِه تيارات مختلفة ورائه.. تيارات لها ليس فقط مصالح مختلفة، ولكن أيضاً أفكار وتصورات متضاربة.
أهم هذه التيارات هي:
- أقصى اليمين الرأسمالي، الذي يريد تحجيماً كبيراً لدور الدولة في كل قطاعات الاقتصاد الأمريكي تقريبا.
- أقصى اليمين المسيحي، الذي يريد قوانين داخلية يراها متبعة رؤيته لقوانين الله. والذي أيضاً يريد سياسة خارجية تعكس قناعات دينية لذلك التيار.
- مجموعات واسعة في أسفل الطبقة الوسطى، خاصة من ذوي البشرة البيضاء، الذين يرون في التغيُرات الاقتصادية في الولايات المتحدة في العقدين الماضيين إفقارا لهم وتراجعاً لمستويات معيشتهم. وعليه يريدون سياسات داخلية وتوجهات خارجية ضد تلك التغيُرات الاقتصادية.
ترامب نجح في جمع هذه المجموعات وراءه. صحيح، أن جغرافيا الولايات المتحدة الشاسعة، وهيكل الإعلام فيها (بتعدديته)، والنظام الانتخابي فيها، يُسهِل على أي سياسي أن يصل لمجموعات مختلفة من الناخبين برسائل مختلفة، وأحيانا متعارضة. لكن ترامب برع في ذلك الوصول المتعدد لتلك المجموعات المختلفة.
واستطاع في 2020 أن يحصل على عدد أصوات شعبية أكبر مما حصل عليه في 2016. كما أن النظر إلى أي خريطة انتخابية للولايات المتحدة يوضح كيف أنه استطاع الحصول على تمثيل ساحق في أغلب ولايات الوسط.. وتلك معروفه بالحزام الإنجيلي (نسبة الى دور المسيحية السياسية فيها) وهي أيضاً معقل عدد من الصناعات التقليدية، كما أنها تاريخياً التركيز الأوضح للطبقة الوسطى من الأمريكيين البيض. ومن قبل ومن بعد ذلك، تلك الولايات في الوسط هي القلب وهي المساحات الشاسعة وهي مئات المدن حيث تكونت الفكرة ونمت التجربة الأمريكية في القرنين الماضيين.
معنى ذلك أن:
- ترامب لم يكن استثناء يمكن شطبه من تسلسل السياسة الأمريكية في العقود الماضية. على العكس، وجود الرجل في البيت الأبيض كان التقاء تيارات كبيرة بهدف إيصاله إلى أهم مواقع القرار في الدولة.
- لكن الأهم من ترامب هو قوة الدعم السياسي الذي تقدمه هذه المجموعات لمن يمثل أفكارها.
- وبالطبع هذه المجموعات باقية.
هذا يوصلنا إلى المشكلة الثانية، وهي أن هناك تحديات صاعدة أمام شرعية الفيدرالية الأمريكية، وهي أساس نظام الحكم في الدولة.
هذه نقطة ذات أهمية خاصة في الولايات المتحدة. ذلك لأن أمريكا اتحاد فيدرالي يتكون من ولايات أغلبها لديه سلطات واسعة فيما يتعلق بالتعامل مع الدولة الفيدرالية (المركز في واشنطن ومقاطعة كولومبيا)، ولكنها ذات سلطات محددة أمام مقاطعاتها الداخلية. وذلك نتيجة تاريخ طويل منذ بداية التقاء الولايات الأولى في اتحاد وكيفية اتفاقهم على دستور يترك حريات واسعة في يد السلطات المنتخبة هناك، بعيداً عن الهيكل الفيدرالي، ومروراً بنتائج الحرب الأهلية ومحاولات الشمال إرضاء الجنوب بعد مآسي هذه الحرب، وصولاً إلى قوانين سُنت في الستينات أثناء فترة الإصلاحات الاجتماعية التي وازنت بين حقوق أكبر للأمريكيين ذوي البشرة السوداء وبين تحفظات مجموعات أخرى.
خلاصة كل ذلك أن فكرة قبول الولايات بصلاحيات السلطة التنفيذية الفيدرالية في غاية الأهمية لعمل الجمهورية الأمريكية. ولعل أي متابع للكونغرس الأمريكي في العقدين الماضيين يلاحظ المرات المختلفة التي كادت فيها السلطة التنفيذية الفيدرالية أن تتوقف عن العمل بسبب امتناع الكونغرس عن منح تمويل هنا أو هناك أو لكل الهيكل الفيدرالي في بعض الأحيان. المهم هنا إذن هو هشاشة قدرات السلطة الفدرالية في حالة وجود رفض كبير من الولايات.
والحاصل الآن أن هذه المجموعات المختلفة التي كانت العمود الفقري لظاهرة ترامب، أصبحت تمثل معارضة كبيرة وغاضبة للسلطة الفدرالية. إما لأن هذه المجموعات ترى في السياسات التقليدية في العقدين الماضيين مساوئ لا تعد ولا تحصى، أو لأنها ترى أن العمل العام كله أصبح فاسداً ومسخراً لمصالح اقتصادية محدودة وعليه تريد تغييراً جذرياً في أسس السياسة الأمريكية، أو لأنها تؤمن بأن مواقفها هي الحق المطلق (والكثير من ذلك خارج من اتجاهات دينية).. وفي كل الحالات نحن أمام لحظة تحد لم تشهدها السلطة الفيدرالية في المائة سنة الماضية (منذ الكساد الأكبر الذي زلزل الاقتصاد الأمريكي وقتها).
المشكلة الثالثة هي أن كل ذلك يحدث بينما الولايات المتحدة تمر بمتغيرات جديدة بعيدة الأثر في مجتمعها:
1- ديموغرافيتها تتغير، بحيث تتوجه بوضوح لتصبح لأول مرة، في عقود قليلة قادمة، ذات أغلبية غير بيضاء، وقد حدث هذا فعلاً في عدد من المدن الكبرى.
2- مراكز السلطة والمال والفكر والنفوذ التقليدي، وكلها في الشمال الشرقي على ساحل الاطلنطي، في نزول منذ عقد او أكثر (خاصة منذ الأزمة المالية في 2008)، في مقابل ارتفاع مهول، وراءه ثراء طائل، لمراكز قوة (جديدة نسبياً) في الساحل الغربي.
3- قلب الاتحاد – واشنطن ومقاطعة كولومبيا – حدث فيه تراجع كبير، نتيجة تغييرات مهمة في قواعد تمويل الحملات الانتخابية للكونغرس.
ونتيجة لذلك، فإن:
- الولايات المتحدة تواجه أزمة في نظرتها لنفسها كمجتمع دائماً ما قادته مجموعات بيضاء ذات أصول أوروبية، ترى ثقافتها كاستمرار وتجديد في الثقافة الغربية.
- التغيُرات في مراكز القوة في الولايات المتحدة واضح أنها ذاهبة إلى تحالف بينها (لكن مع انتقال دوائر القرار إلى الساحل الغربي). ولعل هذا واحد من أسباب تراجع ديناميكيات الحركة التي دائماً ما ميزت المجتمع الأمريكي عن المجتمعات الأوروبية المعروفة بثبات هيكلها الاجتماعي. والحاصل الآن أن هناك زيادة مهولة في الفروقات الاجتماعية في الولايات المتحدة وتراجع كبير في فرص الصعود الاجتماعي في العقود القليلة الماضية.
- هذه الفروقات في كل أنحاء أمريكا، ولكنها – وهذا جديد – شديدة الوضوح بين، من جهة، الساحلين الأطلسي والهادئ (او الباسيفيك)، ومن جهة أخرى، الوسط وأغلب ولايات الجنوب.
- وأخيراً، دوائر السياسة في واشنطن أصبحت طاردة للمواهب الكفؤة المحترمة، وداعية لمن يقبلون بسهولة التعامل مع مصالح اقتصادية تمول وتتحكم. وقد أدى هذا الى تراجع كبير في كفاءة صُنع القرار.
المشكلة الرابعة هي أن هناك ظواهر وهن في المجتمع الأمريكي:
- أهم هذه الظواهر هو تفشي الإدمان، خاصة للأدوية ذات المكون الأفيوني. وهناك عدد من الدراسات الجادة التي تتحدث عن أرقام مذهلة لتعاطي تلك الأدوية خارج نطاق العلاج التقليدي.
- ظاهرة أخرى خطيرة هي ازدياد ملاحظ في الانتحار.
- هناك أيضا ازدياد واضح في جرائم أخلاقية داخل نطاق العائلات.
تلك كلها ظواهر لتراجع الأمل في أنحاء كبيرة داخل المجتمع الأمريكي.
بالطبع، هناك عوامل قوة مختلفة في الولايات المتحدة. كما أن حجم أمريكا (كقارة كبيرة، شديدة الثراء) يجعلها، كما كانت دائماً، قادرة على استيعاب الكثير من الاختلافات والمشاكل، لكن بعض المشاكل الحالية جديدة، وأغلبها خطير.
ولعل لفتة إلى العلم مفيدة هنا. نظرية الفوضى، وهي في الأساس من ملاحظات الفيزياء الحديثة، تصف الفوضى على أنها خارجة من أنماط (patterns) تُبنى وتقوى عبر الزمن، وتأخذ قدرتها على الفعل عندما تصل إلى درجات عالية من التعقيد. وربما أن كل المشاكل التي أشرت إليها هنا هي أنماط قويت في العقدين الماضيين.
والسؤال الآن: هل ستستمر وتتعقد لتُحدِث فِعلاً مهماً يؤثر في المجتمع الأمريكي؟ الإجابة ستُحدد احتمالية الفوضى في الولايات المتحدة في المستقبل المنظور.
اضف تعليق