تَصرَّفَ مصطفى أديب كأنَّ تكليفَه هو لتَـرَؤُّسِ الحكومةِ لا لتأليفِها. جَلس في البلدِ الخلفيِّ، لبنان، يَنتظر هطولَ التشكيلةِ عليه ليعُلنَها؛ فضاعَ في باريس بين لُعبةِ الأمَم، وفي بيروت بين لعبةِ الطوائف. واللُعبتان تلتقيان لأنَّ بعضَ طوائفِ لبنان جنودُ لعبةِ الأمَم على حسابِ مصلحةِ لبنان. ولا أدري...

هل يستطيعُ الرئيسُ المكلَّفُ أن يُطلِعَنا على يوميّاته؟ ماذا فعل في الأسبوعين اللذَين تَلَيا تكليفَه؟ ما هي الاتّصالاتُ التي قام بها والجهودُ التي بَذلها ليؤلِّفَ الحكومة؟ من استقبَل ومن وَدّع؟ تَصرَّفَ مصطفى أديب كأنَّ تكليفَه هو لتَـرَؤُّسِ الحكومةِ لا لتأليفِها. جَلس في البلدِ الخلفيِّ، لبنان، يَنتظر هطولَ التشكيلةِ عليه ليعُلنَها؛ فضاعَ في باريس بين لُعبةِ الأمَم، وفي بيروت بين لعبةِ الطوائف. واللُعبتان تلتقيان لأنَّ بعضَ طوائفِ لبنان جنودُ لعبةِ الأمَم على حسابِ مصلحةِ لبنان. ولا أدري، تاليًا، ما إذا كانت الحكومةُ العتيدةُ ستؤلَّفُ لإنقاذِ الوضعِ اللبنانيِّ أم لإنقاذِ المبادرةِ الفرنسية؟

استغرَبَت مرجعيّاتٌ سياسيّةٌ في بيروت وباريس انتقادي جوانبَ من الأَداءِ الفرنسي في افتتاحيّتي السابقةِ (النهار 10/09/20)، فجاءت التطوّراتُ المتواليةُ، وآخِرُها تصريحاتُ وزيرِ خارجيّةِ أميركا مايك بومبيو أوّلَ من أمس، لتؤكّدَ صِحّةَ الهواجسِ التي أَثــرْتُها. وها هو الرئيسُ ماكرون يَعمل منذ أيّامٍ على إزالةِ الـمُلصَقاتِ التي لَزِقَت على مبادرتِه وعلى الرئيسِ المكَلَّف مصطفى أديب.

كان لهذا الـمُعطى أن يُعزّزَ موقِعَ الرئيسِ المكلَّف على المستوى الدوليِّ، ويُشجِّعَه على الإسراعِ بفَرضِ حكومة. لكنْ، منذ اللحظةِ الأولى لتكليفِه، والمنظومةُ الحاكمةُ، وفي طليعتِها حزبُ الله، تسعى إلى تشكيلِ حكومةٍ تُكْمِلُ مسارَ حكومةِ حسان دياب. الشعبُ والعالمُ يريدان للبنانَ حكومةَ إنقاذٍ، وهذه المنظومةُ تريدُ حكومةً انتقاليّةً تُضيّعُ الوقتَ ولو قَتلت البلاد. ظنَّ حزبُ الله أنّه يُرضي فرنسا بحكومةِ تكنوقراط "ديابيّة"، ويُرضي مشروعَه باختيارِ وزرائها. تَحرّك الأميركيّون ووضَعوا فورًا خطًّا أحمرَ أربكَ الجميع، بمن فيهم الفرنسيّون.

في حالِ شاءَ حزبُ الله "ردَّ الجميل" إلى الرئيس مكرون، بمقدورِه أن يُعطِّلَ موقفَ بومبيو ويُحوّلَه من موقفٍ معرقِلٍ المبادرةَ الفرنسيّةَ إلى مُسهِّلٍ إيّاها، وذلك بقَبولِ تأليفِ الحكومةِ الجديدةِ من دونِ شروطٍ تعجيزيّة ٍكما التزَمت سائرُ القِوى اللبنانيّة. غير أنَّ الثنائيَّ الشيعيَّ، الحِياديَّ العاطفةِ في السياسة، أثارَ موضوعَ الانقلابِ عليه ليُبرِّرَ تَشبّثَه بشروطِه. الحقيقةُ أنَّ ما يجري ليس انقلابًا على الثنائيِّ الشيعي، بل هو وضعُ حَدٍّ لانقلابِ الثنائيِّ الشيعيِّ المستمِرِّ منذ سنواتٍ على الدولةِ ودُستورِها وجيشِها ومؤسّساتِها وماليّتِها.

ما لم تَفْقَهْهُ المنظومةُ الحاكمةُ أنَّ السعيَ هو لتأليفِ حكومةِ "انتقالٍ" لا "انتقاليّة". الأخيرةُ تربطُ الحاضرَ السيِّئَ بالمستقبلِ الأسوأ، بينما "الانتقالُ" يَقطَعُ بينهما من أجلِ مستقبلٍ أفضَل. ومهما مانَعت هذه المنظومةُ وعانَدت وعرقلَت، هناك جَرّافةٌ تُزيلُ أنقاضَ الطبقةِ السياسيّة، يقودها الشعبُ بوقودِ دماءِ شهدائِه وبرعايةٍ دوليّةٍ حاسِمة. قد تَنجحُ هذه المنظومةُ في تأخيرِ إزالةِ الأنقاض، لكنَّها عبثًا تنجحُ في أنْ تُلغيَ العمليّة.

لبنانُ جديدٌ يولد. الخوفُ من هذا التغييرِ يَدفع أطرافًا لبنانيّةً، مدعومةً إقليميًّا، إلى ربطِ تأليفِ الحكومةِ بترسيم الحدودِ اللبنانيّةِ مع إسرائيل، باتفاقيّتَي السلامِ بين إسرائيل والإماراتِ العربيّةِ والبحرَين، بنتائجِ الانتخاباتِ الرئاسيّةِ الأميركيّة، بالمشروعِ النوويِّ الإيرانيّ، بانحسارِ القوّاتِ الإيرانيّةِ عن سوريا والعراق، وبالتسويَتين في سوريا وليبيا. تَحولُ هذه الأطرافُ دون إنقاذِ لبنان قبلَ معرفةِ مصيرِ كلِّ هذه القضايا، فيما فرنسا تَسعى إلى فصلِ حلِّ أزمةِ لبنان عن حلِّ أزماتِ الشرقِ الأوسط من خلالِ الدعوةِ إلى تأليفِ حكومةِ تكنوقراط مستقلَّةٍ وحياديّةِ. يعني حكومةً خارجَ الصراعات لا خارجَ الأحزابِ والطوائف تحديدًا. فالأحزابُ اللبنانيّةُ بغالِـبّيتِها لا تجسِّدُ الديمقراطيّةَ، بل الصراعات، والطوائفُ لا تعبّرُ عن الشراكةِ، بل عن النِزاعات.

هكذا، كلّما شَرَعنا بتأليفِ حكومةٍ جديدةٍ نَشعُر أنّنا نؤسِّسُ وطنًا جديدًا، ونُبرِمُ عَقْدَ شراكةٍ جديدًا، ونَرسُمُ الحدودَ الدوليّةَ من جديد. نَستحضِرُ الدستورَ والميثاقَ والتاريخ. نَربُطُ شرفَ الطائفةِ وعِزّتَها بحقيبةٍ وزاريّةٍ ونقاومُ لتحريرِها كأنّها أرضٌ محتلَّة. هذا يَرفعُ الصليبَ، وذا قميصَ عُثمان، وذاك الـمُصْحَف. إن إصرارَ فريقٍ على حقيبةٍ معيَّنةٍ يَشي بأنَّ لديه مشروعًا خاصًّا به مُنفصِلًا عن مشروعِ الدولة. وفي هذا الإطار، إذا كان مُكوِّنٌ لبنانيٌّ يَشعُر بغُبنٍ ويَرجو دورًا أوسعَ في الحكمِ، فذلك لا يُعالجُ بالاستيلاءِ على حقيبةٍ وزاريّةٍ إلى الأبد، إنما بحوارٍ حولَ النظامِ حين يَحين زمنُ تطويرِه بعيدًا عن ضغطِ السلاح.

تجاه هذه الصراعاتِ حولَ مصيرِ لبنان، لا يجوزُ للرئيسِ المكلَّفِ مصطفى أديب أن يَعتذرَ، بل أن يواجِه. الاعتذارُ هزيمةٌ لا تَتحمّلُها البلاد. واجبُه، والشعبُ معه، أن يُقدِّمَ تشكيلةَ حكومةِ أمرٍ واقع إنقاذية. مثلُ هذه الحكومةِ لا تُباغِتُ اللبنانيّين، فجميعُ الحكوماتِ بعدَ اتّفاقِ الطائف هي حكوماتُ أمْرٍ واقعٍ مُغْفَلةٌ. في التسعيناتِ الماضيةِ كانت سوريا تَفرِضُها، وبعد انسحابِها خَلفَها حزبُ الله في فرضِ حكوماتِ الأمرِ الواقع تحت شعارِ الوفاقِ الوطنيّ، واليوم يحاول المجتمعُ الدوليُّ أنْ يُشكِّلَها لتكونَ حكومةَ إنقاذٍ أيضًا خلافَ حكوماتِ الأمرِ الواقِع العاديّةِ السابقة.

لا تكون أيُّ حكومةٍ إنقاذيّةً برئيسها أو بوزرائِها أو بحجمِها أو بكونِها مستقلّةً أو غيرَ حزبية، إنّما ببرنامجها. فالحكومةُ المقبلةُ، برئاسةِ أديب أو سواه، لو ضَمَّت كلَّ نوابغ لبنان في الوطنِ والمهجَر لا تكون بمستوى الوضعِ ما لم يَتضمّنْ بيانُها الوزاريُّ البنودَ المنقِذةَ التالية:

1) الابتعادُ عن سياسةِ المحاوِرِ في الـمِنطقةِ واعتمادُ سياسةِ الحِيادِ تجاه الصراعات.

2) التزامُ خُطّةٍ إصلاحيّةٍ تَضمَنُ ودائعَ اللبنانيّين في المصارفِ وتَتلاقى مع "مؤتمرِ سيدر" والدولِ المانحةِ وصندوقِ النقدِ الدولي.

3) إعادةُ إعمارِ أحياءِ بيروت التي تَدمّرت بعدَ تفجير المرفأ.

4) تطبيقُ "اتّفاقِ الطائف" بشكلٍ صحيحٍ لتعزيزِ الروحِ الميثاقيّةِ وتأكيدِ انتماءِ لبنان إلى محيطه العربي.

5) تنفيذُ اللامركزيّةِ الموسَّعة فورًا وتعزيزُ السلطاتِ والمرافقِ والمؤسّساتِ الشرعيّةِ المناطقيّةِ كافة.

6) الالتزامُ بأن يَضعَ الجيشُ اللبنانيُّ استراتيجيّةً دفاعيّةً تُنهي دورَ أيِّ سلاحٍ خارجَ مؤسّساتِ الدولةِ وإمرتِها.

7) تنفيذٌ دقيقٌ لجميعِ القراراتِ الدوليّة بشأنِ لبنان وجَنوبِه.

8) التحضيرُ لعقدِ مؤتمرٍ وطنيٍّ لاحقًا يَطرح تصوّرًا حديثًا وديمقراطيًّا وميثاقيًّا للبنان الجديد.

خلافُ ذلك: أيُّ حكومةٍ، سياسيّةً كانت أم تكنوقراطيّة، لن تَكسِبَ ثقةَ المجتمعِ الدولي وتأييدَه، بل ستَجْلُب مزيدًا من العقوباتِ وما بعدَها... (سنَنتصر).

* سجعان قزي، وزير سابق، جريدة النهار-لبنان

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق