كان الشيعة العرب، من بين الفئات الاجتماعية الأكثر عرضة للتهميش والتمييز، وغالباً على أسس دينية مذهبية قومية. تكاد هذه الحقيقة تغيب عن التداول السياسي والفكري في بلدان المشرق والعراق والجزيرة العربية واليمن، حيث يتمركز الشيعة العرب أساساً فالحكومات والأنظمة السائدة، ما زالت تمعن في حالة الإنكار...
ثمة ما يشبه الإجماع بين المثقفين والباحثين العرب، حول ما يمكن وصفه بإخفاق "الدولة الوطنية"، دولة ما بعد "تصفية الاستعمار" في بناء علاقات صحية وصحيحة، مع مواطنيها ومواطناتها، قائمة على مفهوم "المواطنة المتساوية والفاعلة"، دولة تحترم حقوق أبنائها ومكوناتها الفردية والجمعية، وتقف على مسافة متساوية من الجميع... لقد كان الشيعة العرب، من بين الفئات الاجتماعية الأكثر عرضة للتهميش والتمييز، وغالباً على أسس دينية – مذهبية - قومية.
تكاد هذه الحقيقة تغيب عن التداول السياسي والفكري في بلدان المشرق والعراق والجزيرة العربية واليمن، حيث يتمركز الشيعة العرب أساساً... فالحكومات والأنظمة السائدة، ما زالت تمعن في "حالة الإنكار"، فيما الانقسام المذهبي الذي شطر الإقليم برمته، بنتيجة صراع المحاور الإقليمية، يكاد يطمس الحقائق والدروس المستفادة خلال تلك السنوات والعقود.
في الدرك الاجتماعي الأسفل
في لبنان، عُرف الشيعة العرب بـ"المحرومين"، وهم كانوا كذلك منذ الاستقلال وحتى منتصف سبعينات القرن الفائت، لقد تموضعوا في أسفل السلم الاجتماعي اللبناني... لم يحظوا بخدمات صحية وتعليمية وفرص عمل وتمثيل بصورة تتناسب مع "مواطنتهم" ونسبتهم إلى عدد سكان البلاد، واستأثرت حفنة من العائلات الاقطاعية بنصيب الأسد من حصة الشيعة في كعكة السلطة اللبنانية الموزعة حصصاً على الطوائف والمذاهب... حتى أن الحركة التي أطلقتها إحدى أبرز شخصياتهم، الإمام موسى الصدر، في العام 1974، حملت اسماً يعكس هذه الحالة: حركة المحرومين، قبل أن يصبح أسمها "أفواج المقاومة اللبنانية – أمل" التي يتزعمها نبيه بري اليوم.
في العراق كذلك، واجه العرب الشيعة، ظرفاً مشابهاً، سيما بعد سقوط العهد الملكي، وبالأخص مع استلام الرئيس العراقي صدام حسين مقاليد السلطة في البلاد، واندلاع الحرب العراقية – الإيرانية بعد مرور عام على انتصار الثورة الإسلامية في إيران، لتُوَاجه أول وأكبر ثورات الشيعة ضد نظام البعث في المحافظات العراقية الجنوبية (1991) بأعنف حملات القمع والتنكيل، وليتعرض بعدها شيعة العراق، لموجة جديدة من الاقصاء والتمييز.
في الجزيرة العربية، وبالأخص في المملكة العربية السعودية، التي جعلت من "الوهابية" مذهباً رسمياً للبلاد، مع كل ما يستبطنه هذا المذهب وفتاوى شيوخه ودعاته، من مشاعر العداء والتكفير للشيعة "الروافض"، تمتع الشيعة بحقوق مواطنة من الدرجة الثانية، وامتدت تأثيرات هذا المنهج الإقصائي – الاستعلائي إلى دول خليجية وعربية أخرى، وإن بتفاوت، إذ بلغ التمييز حداً غير مسبوق كما في حالة البحرين، مقابل مستويات أقل من ذلك بكثير كما في الكويت وعُمان.
أما اليمن، فيكفي أن نستذكر حروباً ست، شنها الرئيس السابق علي عبد الله صالح ضد الحوثيين في جبال صعدة وعمران، وبدعم نشط من السعودية، واستخدام مشبوه للقاعدة والحركات السلفية، حتى ندرك حجم التمييز والإقصاء الذي تعرض له هذا المكون اليمني، الذي لم يكن حينها على صلة من أي نوع، مع إيران، بل ولم تكن صلاته بالمذهب الشيعي قد تظهّرت كما هي عليه اليوم.
وفي سوريا، لطالما احتل العلويون مكانة متدنية في التراتبية الاجتماعية السورية، ولطالما عانت مناطقهم من الفقر والتهميش والتمييز ونقص في الخدمات... صحيح أن العلوين طائفة قائمة بذاتها، ولا صلة عقائدية لها بالتشيع، لكن مقتضيات السياسة، بدءاً من التدخل السوري في لبنان والعلاقة مع حركة أمل الشيعية، وصولاً إلى الأزمة السورية المندلعة منذ ثمانية سنوات، دفعت البعض لإصدار الفتاوى التي تقضي باعتبار العلويين ضرباً من "التشييع".
الثورة الأولى
لم يكن لحال الشيعة العرب، كما بقية الأقليات الدينية والقومية، المغلوبة على أمرها، من قبل أنظمة الفساد والاستبداد، أنظمة الجنرالات والسلالات، أن يستمر على هذا المنوال... في لبنان وجدت أمل في تحالف المقاومة الفلسطينية واليسار اللبناني، مدخلاً لثورة المحرومين... وفي سوريا، جاء "الحركة التصحيحية 1970" لتحدث استدارة كاملة في السلم الاجتماعي... وسيسهم الاحتلال الأمريكي للعراق في نقل السلطة إلى الأغلبية الشيعية... بعد أن وفّر اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، لكثيرٍ من الأقليات الشيعية العربية، بارقة الأمل للنجاة من أطواق العزلة والتهميش والتمييز...
صحيح أن معظم محاولات انعتاق الشيعة العرب وصلت إلى طرق مسدودة، وجاءت بنظم طائفية وحركات مذهبية، لكنها كانت المحاولات الجدية الأولى لاسترداد بعض الحقوق منذ عهود الاستقلال الوطني، وسوف يكون لثورات الربيع العربي وانتفاضاته، دوراً كبيراً في استنهاض الحركات المعارضة في أوساط شيعة البحرين والخليج واليمن، وستنجح إيران في كسب تعاطف شرائح واسعة منهم، في ظل استمرار حالة الانكار لدى العديد من الحكومات والأنظمة العربية، وإصرارها على المضي في تطبيق السياسات التميزية ذاتها، بل وتحول الشيعة في عدد من البلدان العربية، إلى "حالة أمنية" تستوجب اليقظة والحذر، وتستدعي التعامل مع هذه الشريحة من المواطنين، بوصفهم "جاليات" و"رؤوس جسور لإيران" و"طابور خامس" لها.
وكلما كانت الحكومات العربية، تمعن في التضييق على مواطنيها لأسباب تتعلق بمذهبهم، كلما أمعن هؤلاء في طلب الدعم والتضامن من لدن إيران، وكلما وجدت طهران، ضالتها في بناء أسس وقواعد نفوذها الإقليمي، متسللة من شقوق الاختلال العميق بين الدولة ومواطنيها... وإذا كانت طهران قد اعتمدت "سياسة مذهبية" لتوسيع قاعدة نفوذها الإقليمي (الهلال الشيعي)، فإن خصومها من الحكومات العربية، قد اعتمدوا "السياسة المذهبية" ذاتها لمواجهة نفوذ إيران والحد من طموحاتها في التوسع والهيمنة، إلى أن انتهى الإقليمي إلى حدوث هذا "الفالق الزلزالي" الذي شطر المنطقة وما زال يشطرها إلى معسكرين متصارعين.
الثورة الثانية
اليوم، وبعد مضي ما بين عقد وعقدين من الزمان، على استتباب النفوذ الإيراني في عدد من دول المنطقة ومجتمعاتها، تبدو الصورة آخذة في الانقلاب رأساً على عقب، وبدءاً من العراق ولبنان هذه المرة، فالشيعة العرب ينضمون بمئات الآلف إن لم نقل بالملايين، إلى حراك الشوارع والميادين مطالبين بإزاحة أحزاب الفساد والاستبداد، وغالبيتها شيعية ومحسوبة على إيران... وفي اليمن، يدور حديث هامس عن انقسامات داخل البيت الحوثي، تدور في الأساس حول طبيعة العلاقة مع إيران، وما إذا كان يتعين تعزيزها وتوطيدها، أم الاحتفاظ بمسافة واضحة عن "دولة المركز الشيعي"... وفي الجزيرة العربية، ينخرط شيعة كثيرون في صفوف حركات المعارضة، بهويتهم الوطنية لا بهويتهم المذهبية، أما في سوريا، فإن نهاية الحرب فيها وعليها، ستضع الطائفة العلوية التي دفعت من كيسها، أبهظ الأثمان، أمام الأسئلة المصيرية ذاتها.
وثمة جدل واسع، في أوساط الشيعة العرب، وغالباً حول العلاقة مع إيران، وما إذا كان يتعين على هذه الفئة من المواطنين، أن تعيد التموضع في صفوف حركات التغيير والإصلاح الوطنية، أم الاستمرار في البحث عن "خلاص فئوي" من أنظمة الفساد والاستبداد.
وتُجادل كثير من المرجعيات السياسية والدينية الشيعية، ضد ما بات يُعرف بنظرية "حلف الأقليات" في المنطقة، ومثلما توصلت شرائح واسعة من مسيحي المشرق إلى خلاصة مفادها "أن لا حل مسيحياً لمشكلة المسيحيين" في المشرق، فإن كثيرين من الشيعة، يصلون اليوم، وبعد اصطدام طموحاتهم التحررية بجدار الهيمنة الإيرانية، إلى نتيجة مفادها: "أن لا حل شيعياً لمشكلة الشيعة في المنطقة"، وأن "الترياق" الذي انتظروه مطولاً من إيران، لن يأتيهم إلا من العراق ولبنان، ومن داخل أوطانهم، ومن خلال انخراطهم في النضال الوطني العريض من أجل الحرية والكرامة والعيش اللائق، وضد أنظمة الفساد والاستبداد والأحزاب "المُعمّمة"، فالخلاص لشعوبنا وبلداننا، يكون وطنياً أو لا يكون، ويكون ديمقراطياً ومدنياً أو لا يكون، ويكون للجميع من دون استثناء أو لـ"لا أحد".
اضف تعليق