النرجسيون هم زملاءٌ لا يرتاح المرء للعمل برفقتهم، ويمكن القول هنا إن الافتقار إلى التعاطف مع الآخرين والنزعة إلى التركيز بشكلٍ كامل على هدفٍ واحدٍ أو محدودٍ لتحقيقه بجانب الانخراط في التلاعب والتفوه بالأكاذيب، تمثل كلها خصالاً شائعةً بين من ينجذبون عادةً إلى مواقع السلطة...
ساره كيتينغ-صحفية علمية
لا يخلو مكتبٌ تقريباً من زميل عمل تفوق ثقته في نفسه ما يتحلى به فعلياً من قدرات وإمكانيات، ويقلل من شأن زملائه، ويعتبر أنه متفردٌ للغاية وذو أهمية خاصة بشدة، بل ويشعر بالحنق عندما لا يُقَدِّر الآخرون مواهبه المفترضة. حديثنا هنا إذن عن زملاء العمل أو المدراء النرجسيين.
بينما اشْتُقَتْ لفظة "نرجسي" من أسطورة إغريقية عن صيادٍ يُدعى "نرجس" أو "نرسيس"، هام بنفسه حباً عندما رأى وجهه منعكساً على صفحة بحيرة، فإن النرجسيين المهووسين بقدراتهم المفترضة في أماكن العمل في عصرنا الحالي ليسوا بأسطورة أو خرافة للأسف الشديد. ومن شأن تحديد طبيعة سلوكهم هذا مبكراً أن يوفر عليك الكثير من التوتر والعناء.
من بين أصحاب التجارب التي يمكن الحديث عنها في هذا السياق كارلين بوريسينكو، مؤلفة كتاب "اتبع مذهب الزن البوذي في مكان عملك"، والتي عملت في مقتبل مسيرتها المهنية مع امرأة نرجسية.
وتقول بوريسينكو في هذا الشأن: "لقد أحببتها دون ريب، واعتقدت أنها ذكيةٌ وذات شخصية جذابة. كنت متحمسةً بحق لأن أذهب وأعمل تحت إمرتها. تطلب الأمر نحو ثلاثة شهور من العمل، رأيتها خلالها يومياً، لأدرك أنه كان هناك خطأٌ يشوب الموقف برمته، ولاستخلص حقيقة أنني كنت أعمل تحت إمرة امرأة نرجسية".
وتمضي بوريسينكو قائلةً إنها اكتشفت أنه بات من بين الجوانب المهمة والرئيسية لعملها تملق رئيستها وجعلها تشعر بالسعادة والارتياح، وتحسين صورتها وتعزيز مكانتها والترويج لها في الشركة. وتضيف أن عدم القيام بذلك كان يعني أن يتلقى المرء "عقاباً هائلاً".
وتشير هذه الكاتبة إلى أن حدوث ذلك بشكلٍ مستمرٍ، على مدار فترة من الوقت، قد يجعلك تشعر بأنك في سبيلك إلى الجنون، ويدفعك لطرح أسئلة من قبيل "ما الذي يراه هذا الشخص ولا أراه أنا؟ وما الذي يفهمه ولا استطيع أنا فهمه؟ ثم سيتعين عليك إدراك حقيقة أن الأمر يتعلق بالكيفية التي يدرك بها هؤلاء العالم أكثر من ارتباطه بما تقوم أنت به".
ولم تكن بوريسينكو الوحيدة في مكان عملها التي شعرت بالغضب بشأن نرجسية رئيستها. لكن بدلاً من أن يتوحد الزملاء على الإقرار بهذا الموقف الذي يواجههم جميعاً، بدأوا في اتخاذ مواقف ضد بعضهم البعض، بفعل الضغوط الناجمة عن شعورهم بالعجز عن تغيير ذلك الوضع. وتتذكر هذه السيدة تلك الفترة بالقول إن الأمر غدا بمثابة "منافسة لرؤية مَنْ (مِنّا) سينعم بحظوة المديرة ورضاها".
وتستطرد بوريسينكو قائلةً إن المسألة كلها بالنسبة للنرجسيين تعود إلى قدرتهم على أن يخترعوا حرفياً "واقعهم المحيط بهم بغض النظر عن الحقائق الموضوعية أو الأدلة أو البيانات المتوافرة. فكل شيء يجب أن يصب في صالح الحفاظ على الصورة التي كَوَّنوها هم عن أنفسهم" وتثبيتها.
لكن النبأ غير السار يتمثل في أنه بالرغم من أن النرجسيين هم زملاءٌ لا يرتاح المرء للعمل برفقتهم، فإن دراساتٍ لا حصر لها أظهرت أن بوسعهم أن يبلوا بلاءً حسناً على الصعيد المهني، بل وأنهم قد يكونون في بعض الأحيان مفيدين لأماكن عملهم.
ويمكن القول هنا إن الافتقار إلى التعاطف مع الآخرين والنزعة إلى التركيز بشكلٍ كامل على هدفٍ واحدٍ أو محدودٍ لتحقيقه بجانب الانخراط في التلاعب والتفوه بالأكاذيب، تمثل كلها خصالاً شائعةً بين من ينجذبون عادةً إلى مواقع السلطة.
ويمكننا في هذا السياق الاستعانة برأي تيم جادج، الخبير في علم نفس السلوك التنظيمي والقيادي في جامعة "أوهايو ستَيت"، والذي أجرى دراسات تُحلل التأثير الذي يُخلّفه النرجسيون على أماكن العمل.
ويرى جادج أن هؤلاء الأشخاص يتحلون في أغلب الأحيان بصفات معينة تجعلهم ملائمين بشكلٍ أكبر لتولي المناصب القيادية.
ويقول في هذا الشأن: "نعلم أن النرجسيين أميل إلى أن يكونوا أصحاب شخصيات أكثر جاذبية، وهم الأشخاص الذين يُرجح أن يُمسكوا بزمام الأمور، وهو أمرٌ ضروري أحياناً. كما أنهم أكثر استعداداً وقدرةً على الإقدام على مجازفاتٍ حينما يكون ذلك مطلوباً. خصالٌ مثل هذه تكون مرغوبةً في مواقف تمر بها الشركات والمؤسسات التي تعاني من أزمات".
وهنا تُطرح المسألة القديمة للغاية المتعلقة بـ"الطبع في مواجهة التطبع"، لنتساءل عما إذا كانت النرجسية خصلةً يُولَدُ بها الإنسان، أم أنه يكتسبها ويطوّرها بمرور الوقت؟
يرى جادج أنها مزيجٌ يجمع بين الاثنين. فبينما تشير بعض الدراسات إلى أن هناك خصالاً فطريةً مرتبطة بالنرجسية، تُظهر أبحاث أخرى أن هناك عوامل تسهم في وجود هذه الصفات لدى البعض، مثل طريقة تصرف الوالديْن ومستوى الدخل، وكذلك الأمور التي تحدث في مكان العمل.
ويقول الخبير النفسي في هذا الشأن إن من يُوْلَدُون لأُسَرٍ ذات دخلٍ كبير أو من يتمتعون بوضعٍ اجتماعي واقتصادي مرتفعٍ يميلون لأن يكونوا أكثر نرجسية. ويشير إلى أن تبني الأبوين نمطاً سلوكياً في تربية الأبناء يميل إلى تشجيع أطفالهم على الشعور بالاعتداد بالنفس إلى درجة مفرطة يمكن أن يؤدي كذلك إلى أن يصبح الأطفال نرجسيين.
هل يبدو ما سبق مألوفاً لكم؟ حسناً ليس ذلك بمستغرب، في ضوء أن الكثير من الشخصيات المرموقة يمكن أن يُصَنَّف أصحابها ضمن قائمة النرجسيين.
ويقول تيم جادج إنه يعتقد أن النرجسية سمةٌ شائعةٌ بين القادة السياسيين عندما يمرون بأزمات وحينما يتبنون نمطاً قيادياً يستهدف إحداث تغيير. ويضيف بالقول: "ليس من العسير التفكير في أن الكثير من الرؤساء الأمريكيين ذوي الجاذبية الشخصية كانوا نرجسيين"، مُشيراً في هذا الشأن إلى الرئيسيْن جون إف. كينيدي ورونالد ريغان كمثاليْن محتمليْن.
لكن ماذا عن التصور الذي يُكِنُهُ البعض والمتمثل في أن النرجسيين يميلون لأن يحققوا نجاحات مهنية فعليةً رغم أنهم لا يكونون بالضرورة ممن يؤدون عملهم بكفاءة؟
يقول جادج إن ذلك ينبع من حقيقة أن أولئك الأشخاص يتصرفون على نحوٍ "يركز بشكلٍ مباشرٍ على تحقيق أهدافهم الشخصية"، وهو ما يعني أنهم يركزون على نحوٍ كامل على احتياجاتهم، لا احتياجات الآخرين.
وفي سياق تفسيره لتحقيق البعض من هؤلاء النرجسيين نجاحاً متميزاً على الصعيد المهني، يقول جادج:"نعلم أن هذه النزعة للتركيز على تحقيق الأهداف الشخصية قد تكون مفيدةً، لذا يصبح تحقيق الأرباح ونيل حظوة مهنية هما - بوجهٍ عامٍ - ما يهتم به النرجسيون". ويشير الخبير النفسي إلى أن الإقرار بذلك ربما يكون صادماً بشكلٍ ما "على الرغم من كونه صحيحاً".
ومن هذا المنظور، هل يمكن أن يشكل التحلي بالقليل من النرجسية دعماً مفيداً لمسيرتك المهنية؟ لعل من الدقيق القول هنا إن إيمانك بقدراتك وإمكانياتك يمثل أمراً جوهرياً إذا ما كنت تسعى لإقناع مستثمرين أو زبائن بمنحك أموالهم. ولكن في أي مرحلة يمكن أن تتحول هذه الثقة في النفس إلى خداعٍ لها؟
يرى دون مور، الأستاذ في علم السلوك القيادي في كلية هاس للأعمال في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، أن هذا الأمر محفوفٌ بالمخاطر، في ضوء أن هناك الكثير من الظروف الحياتية التي قد تدفع المرء للاعتقاد أو حتى التوهم بأنه أفضل مما هو عليه في واقع الأمر، "وهو ما قد يقود إلى حدوث عددٍ من الأخطاء المتوقعة، والتي يُؤسَفُ لها في الوقت ذاته".
ومن اللافت أن عالم المال والأعمال يشهد في غالب الأحيان ظروفاً يبدو في غمارها أن من يتحلون بالثقة المفرطة في أنفسهم يصلون إلى أعلى المناصب. ويحذر مور من أن "التعامل مع ما يدعيه هؤلاء بشأن ثقتهم في أنفسهم على محمله الظاهري، سيجعلنا أسوأ حالاً، وسينتهي بنا المطاف لتملق الحمقى الذين يثقون بأنفسهم أكثر من اللازم، والترويج لهم والتصويت لصالحهم"، رغم أنهم عاجزون في واقع الأمر عن الوفاء بما يقولون إن بوسعهم القيام به.
ويشير مور إلى أنه "يتعين عليك لكي تترقى لوظيفة ذات مسؤوليات قيادية أن تكون كفئاً ومحظوظاً. ودائماً ما سيكون هناك إغراءٌ بأن يُعزى حظ شخصٍ ما - عن طريق الخطأ - إلى قدراته، وعندما تفعل ذلك فإنك ستظن أنك أفضل مما أنت عليه بالفعل".
ومع ذلك، فإن ثمة مزايا للمقولة الإنجليزية التي تنصح المرء بأن يتظاهر بأنه يحظى بشيءٍ ما إلى أن يتمكن من اكتسابه فعلياً. وينصح مور في هذا الصدد بألا يقع الإنسان "فريسةً لمتلازمة المحتال"، مُشيراً إلى ذلك النمط من التفكير الذي يؤمن صاحبه بأنه غير مؤهل لوظيفة أو مهمة بعينها، أو عاجزٌ عن الوفاء بمتطلباتها.
وبنظر مور، تشكل هذه المتلازمة مسألةً جديةً، قائلاً إن شعور المرء بنقص في الثقة في نفسه يحدث في ظروفٍ يمكن التنبؤ بها، مثل الاضطلاع بمهام شاقة "نكون فيها أكثر وعياً بأوجه القصور لدينا". ويشير إلى أن النصيحة السديدة للغاية في هذا السياق تتمثل في أن "يتحلى المرء بقليلٍ من الشجاعة، مُتجاوزاً `متلازمة المحتال` هذه عبر الإيمان بقدراته على نحوٍ يكفي لاكتساب القدرة على إتقان أداء المهمة" المنوطة به.
وفي واقع الأمر، يمكننا بالفعل أن نستخلص من النرجسيين درساً شديد الأهمية يتعلق بمسألة الثقة في النفس.
وتشير كارلين بوريسينكو في هذا الصدد إلى قدرة النرجسيين على خلق "الواقع" الذي يريدونه، والذي يصبح في بعض الأحيان عاملاً مساعداً لهم على إيصالهم إلى حيث يريدون. وتقول إن ذلك يعود إلى أن هؤلاء الأشخاص يتصرفون كما لو أن هذا "الواقع المُفترض" حقيقيٌ. وتضيف بوريسينكو قائلةً إن ذلك يمثل في كثيرٍ من الأحيان العامل الذي يدفعهم إلى مستوى النجاح الذي يصلون إليه.
وتخلص إلى القول: "نرى ذلك مع دونالد ترامب في الولايات المتحدة. فقد آمن بالقطع أنه يمكن أن يكون رئيساً وهكذا أصبح كذلك، وهو ما لم يكن ليحدث" إذا لم يكن قد صدقه سلفاً.
اضف تعليق