قدرة الشخص على عصيان الأوامر ليست مرهونة بشجاعته أو جرأته ولا ثقته أو عناده، إذ اكتشف العلماء مؤخرا عمليات ومناطق في الدماغ تتحكم في قدرتنا على رفض الانصياع لأوامر أصحاب السلطة والنفوذ. وقد يكون مدى تمسكنا بالغاية من وراء الأوامر وتعلقنا بها هو العامل الأهم...
مارثا هنريكز-صحفية

 

تنفذ غالبية الناس - حتى وإن كانوا معترضين - ما يأمرهم به أصحاب السلطة. السبب في هذا يكمن في الدماغ. لكن الخبر السار هو أنه يمكن للمرء التحكم في الأمر وعدم تنفيذ الأوامر.

نحب أن نعتقد أن بوسعنا اتخاذ القرار الصائب في المواقف الصعبة.

فقد نخالف أوامر رئيسنا في العمل إذا لزم الأمر، أو ندافع عن شخص مظلوم عندما نرى شخصا آخر يستضعفه، أو نرفض تنفيذ الأوامر التي نشعر أنها جائرة.

ولقد درجنا على إرجاع شجاعتنا في هذه المواقف إلى الوازع الأخلاقي الذي يوجهنا إلى اتخاذ التصرف المناسب مهما كلفنا الأمر.

لكن بحثا جديدا كشف عن الأسباب الحقيقية التي تجعلنا نطيع أوامر أصحاب السلطة أو نعصيها. وعرض البحث بالتفصيل طرق استجابة الدماغ عند مواجهة هذه المواقف الحرجة. وربما يساعدنا هذا البحث في أن نصبح أصعب مراسا، وأكثر تمسكا بآرائنا ومبادئنا إذا اقتضت الضرورة.

وأجرت عالمة الأعصاب الاجتماعية إيميلي كاسبار بالمعهد الهولندي لعلم الأعصاب تجارب على متطوعين، طُلب من مجموعة منهم صعق زملائهم بالكهرباء 60 مرة مقابل قروش معدودة في كل مرة. وجرى هذا البحث على منوال تجارب ستانلي ميليغرام سيئة الصيت، التي أجريت في ستينيات القرن الماضي، لكن بأساليب علمية وأخلاقية.

في البداية، كان بعض أعضاء المجموعة يصعقون زملاءهم تارة ويمتنعون تارة، بينما رفض ما بين 5 و10 في المئة منهم صعق زملائهم تماما. ولكن الحال تغيرت عندما وقفت لهم كاسبر بالمرصاد وأمرت كل واحد منهم بصعق زميله. حينها، أخذ المشاركون، حتى الرافضين منهم، يضغطون على الزر لصعق زملائهم.

وقد تبين من جهاز التخطيط الكهربائي للدماغ أن نشاط أدمغة المشاركين أيضا قد تغير عندما شرعت كاسبر في توجيه الأوامر. إذ كتب الباحثون أن أدمغة المشاركين في هذه الحالة أصبحت أقل قدرة على التفكير في تبعات سلوكهم المتمثل في صعق الزملاء.

وشعرت الغالبية العظمى من المشاركين أنها فقدت السيطرة على تصرفاتها وأنها غير مسؤولة عن التبعات لأنها تمتثل للأوامر فحسب، إذ يعتمد الشعور بالمسؤولية على الربط بين التصرف والتبعات في الدماغ.

وتقول كاسبر "أجريت الاختبار نفسه على 450 متطوعا، ولم يرفض الامتثال للأوامر سوى ثلاثة مشاركين فقط. فما الذي يميز هؤلاء الثلاثة عن الباقين؟".

ربما تكمن إجابة هذا السؤال في الدراسات التي أجريت على المصابين بتلف أو خلل في مناطق من الدماغ. إذ خلصت دراسة إلى أن المصابين بتلف القشرة الجبهية الأمامية أكثر عرضة من غيرهم للامتثال للأوامر.

يقول إيريك آسب، الأستاذ المساعد لعلم النفس بكلية الفنون الحرة بجامعة هاملاين بالولايات المتحدة، إن "هؤلاء المرضى ينقادون ويستسلمون تماما لأصحاب السلطة والقرار وليس لديهم القدرة على الشك في مدى صدق دوافعهم. هذا يعني أنهم إذا أمرهم شخص مسؤول أن يؤذوا شخصا آخر، فأغلب الظن أنهم سينفذون أوامره دون إبطاء".

لكي نجيب عن هذا السؤال سنعرّج على موضوعات فلسفية مثل الطبيعة والعلاقة بين الأعصاب واليقين. إذ يرى اسبينوزا، الفيلسوف الهولندي، أن العقل لا يستوعب فكرة أو حقيقة جديدة إلا إذا آمن بصحتها ولو لجزء من الثانية.

يقول آسب إن "الفهم يترادف مع اليقين. وبغض النظر عن طبيعة العمليتين، فهما وجهان لعملة واحدة".

وبعد مرور هذا الجزء من الثانية، يشرع العقل في الشك في المعلومة أو حتى رفضها. ويقول آسب "ثمة عملية نفسية وعصبية منفصلة لتمحيص الفكرة في الذهن وإنكارها. أي أنك تعيد النظر في الفكرة وتشك فيها".

لكن آسب يرى أن تلف القشرة الجبهية الأمامية يعطل هذه العملية، أي النقد والمراجعة، وهذا يعني أن المرضى في الغالب سيصدقون كلام الشخص المسؤول على علاته دون تمحيص ويطيعونه طاعة عمياء.

فإذا كانت القشرة الجبهية الأمامية هي التي تمكننا من الشك ومعارضة السلطة، فربما توجد طريقة ما لتحسين هذه القدرات لدى الأصحاء.

أشارت إحدى الدراسات إلى أن التجارب التي نمر بها في حياتنا اليومية تؤثر على وظائف القشرة الجبهية الأمامية وبنيتها. ويقول آسب "أعتقد أنه من الممكن تحسين القدرة على الشك والتفكير النقدي، فهذه القدرات ليست راسخة، بل تتأثر بعوامل عديدة".

ويقول آسب إن التعليم يعد واحدا من أفضل العوامل التي تحسن قدرة الإنسان على الشك والتساؤل، ومن ثم التفكير النقدي قبل المضي في تنفيذ الأوامر.

وثمة عامل حاسم آخر يؤثر أيضا على سلوكياتنا. إذ تقول ميغان بيرني، عالمة النفس وكبيرة المحاضرين بجامعة تشستر، إننا نميل إلى طاعة الأوامر عادة عندما ننساق وراء مزاعم صاحب السلطة عن الدوافع وراء هذه الأوامر.

وأجرت بيرني وزملاؤها تجربة لقياس عدد الأشخاص الذين ينسحبون من التجربة اعتراضا على أوامر تتنافى مع مبادئهم الأخلاقية. إذ طلب من المشاركين أن يلصقوا عبارات مهينة على صور لبعض الأشخاص.

وكانت الصور في البداية تظهر جماعات سيئة الصيت، مثل النازيين أو جماعة كو كلوكس كلان الأمريكية المعروفة اختصارا باسم "كي كي كي". ثم طلب منهم لصق التعليقات المهينة على صور لشخصيات عادية وأسر وحتى أطفال.

وكان الغرض من ذلك وضع المشاركين تحت ضغط عاطفي حتى يشعر أغلبهم بالحرج. وانسحب العديد من المشاركين الذين لم يتحملوا إهانة أشخاص لم يتعرضوا لهم بالأذى. في حين دفع إيمان البعض بالهدف المهم وراء الدراسة العلمية إلى استكمال الاختبار.

تقول بيرني "عندما يواجه المرء تحديا أخلاقيا، كأن يأمره صاحب السلطة بإيذاء شخص ما، فإنه يتجاذبه رأيان متناقضان، إما أن يطيع الأوامر أو يرفضها، وفي النهاية يختار الرأي الذي يتفق مع قناعاته، أي يفعل ما يراه صائبا".

ولكن الخطورة عندما يقتنع الناس بقضية أو غاية، ولا تتزعزع قناعتهم مهما ساءت العواقب.

ربما تتوقع أن تأتي لحظة إفاقة أخلاقية يدرك الناس عندها أنهم على خطأ. ولكن في الحقيقة عندما يقتنع الناس بشدة بأهمية الغاية، انطلاقا من مبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة، لن تأتي هذه اللحظة، وكأنما على أعينهم غشاوة تمنعهم من رؤية الحقيقة.

إذن فإن قدرة الشخص على عصيان الأوامر ليست مرهونة بشجاعته أو جرأته ولا ثقته أو عناده، إذ اكتشف العلماء مؤخرا عمليات ومناطق في الدماغ تتحكم في قدرتنا على رفض الانصياع لأوامر أصحاب السلطة والنفوذ. وقد يكون مدى تمسكنا بالغاية من وراء الأوامر وتعلقنا بها هو العامل الأهم الذي تُبنى عليه سلوكياتنا وقراراتنا.

ولا يزال العلماء، مثل كاسبر، يبحثون عن طرق مناسبة لتدريب الناس على عدم الانصياع للأوامر دون تفكير. وحتى هذه اللحظة، لم تظهر برامج تدريبية متخصصة لتحسين قدرات الناس على التصرف في المواقف الحرجة.

تقول كاسبر "الواجب العسكري يحتم على الجنود قانونا أن يطيعوا الأوامر، ولكنه يحتم عليهم أيضا أن يرفضوها إذا كانت منافية للقانون أو الأخلاق. أتمنى أن أعلم الناس كيف يخالفوا الأوامر التي تتعارض مع مبادئهم. وهذا سيتوقف على تدريبهم على التفكير في مسؤوليتهم عن تصرفاتهم، حتى لو كانوا يعتقدون أن إطاعة الأوامر تعفيهم من المسؤولية".

وتضيف "نبحث عن طرق لتدريب الناس على استشعار المسؤولية عن تبعات أفعالهم عندما يواجهون هذه التحديات الأخلاقية".

http://www.bbc.com/arabic

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق