q
وسنويا ينتج العالم أكثر من 78 مليون طن من الأغلفة البلاستيكية، ما يدر قرابة 198 مليار دولار جراء تلك الصناعة. ولا يتم تدوير سوى نسبة ضئيلة من مخلفاتها بينما يتم التخلص من أغلبها دون تدوير، فيجد طريقه لكل بقعة من عالمنا من أبعد أصقاعه القطبية...
ريتشارد غراي-صحفي

 

بين خطوة وأخرى، تنحني كلير والودا لدى سيرها بين صخور الشاطئ لالتقاط مخلفات. هذه المرة يلفت انتباهها غطاء ملونا لقارورة بلاستيكية، وما عثرت عليه ليس إلا غيض من فيض قذفته الأمواج بجزيرة ساوث جورجيا النائية حيث لا تهدأ الرياح.

تقع تلك الجزيرة بجنوب الأطلسي على أطراف المحيط المتجمد الجنوبي وتبعد عن أقرب مكان رئيسي يقطنه البشر نحو ألف ميل. ورغم ذلك لا تخفى عن العالمة البيئية بالهيئة البريطانية لاستكشاف المناطق القطبية الجنوبية نذر مخلفات البشر من البلاستيك، فكثيرا ما تجد حيوانات من الفقمة تعلقت بين تلك المخلفات، أو صغار طير القطرس وقد كادت تختنق بعد ابتلاعها قطع من أكياس بلاستيكية.

وسنويا ينتج العالم أكثر من 78 مليون طن من الأغلفة البلاستيكية، ما يدر قرابة 198 مليار دولار جراء تلك الصناعة. ولا يتم تدوير سوى نسبة ضئيلة من مخلفاتها بينما يتم التخلص من أغلبها دون تدوير، فيجد طريقه لكل بقعة من عالمنا من أبعد أصقاعه القطبية وحتى أركان محيطاته.

وقد بدأ العالم يدرك خطورة هذا التلوث بعد حملات التوعية البارزة والبرامج التلفزيونية، ومنها ما قام به سير ديفيد أتنبره في برنامجه "الكوكب الأزرق" الذي تنتجه "بي بي سي" مبرزا الأضرار التي تلحقها تلك المخلفات بمحيطات العالم. وأدى ذلك لحمل الحكومات والجهات الصناعية والتجارية للعمل على الحد من تلك المخلفات.

تدرك كثير من الشركات الساعية للحد من استخدام البلاستيك في تعبئة منتجاتها أن ذلك سيضر بأرباحها. فشركة كوكاكولا تنتتج 38 ألفا و250 طنا من القوارير البلاستيكية في المملكة المتحدة سنويا، وعالميا يُقدر بيعها أكثر من 110 مليارات من تلك القوارير التي تستخدم مرة واحدة ومن ثم تلقى في المهملات.

وقد تعهدت الشركة بمضاعفة المواد المدوَّرة الداخلة في صناعة قواريرها البلاستيكية في المملكة المتحدة بينما تسعى لتجربة قوارير تعاد تعبئتها. وتقول الشركة إن تلك الجهود سترفع تكاليف الإنتاج.

وقد بدأ أكثر من ستين بلدا في فرض قيود على استخدام منتجات البلاستيك، من قبيل الأكياس البلاستيكية، التي تستخدم لمرة واحدة. وخلال الشهر الحالي أصبحت جزر فانواتوا، ذاك البلد الصغير بالمحيط الهادي، أول بلد في العالم يحظر استخدام الأكياس البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد فضلا عن شفاطات العصائر والعبوات الغذائية من البولسترين.

وقد وعدت سلاسل من المحال الكبرى للتسوق، منها تيسكو، وولمارت، في بريطانيا، بخفض كمية البلاستيك المستخدمة في تغليف وتعبئة منتجاتها من البقالة وغيرها. وأسوة بكوكاكولا، تعهدت بيبسي للمشروبات ويونيلفر العالمية للمنتجات الغذائية والمنظفات، فضلا عن نستله للأغذية، ولوريال لمستحضرات التجميل، بجعل كافة عبواتها قابلة لإعادة الاستخدام أو التدوير أو التحلل البيئي بحلول عام 2025.

لكن الوعود شيء والالتزام بها شيء آخر، فبدون انتهاج سبل مناسبة سيؤدي التعجل لحظر تعبئة البلاستيك إلى ارتفاع سعر مشترياتنا، فأكثر من ثلث الأغذية المباعة في الاتحاد الأوروبي تأتي مغلفة بلاستيكيا، بينما ينتج كل فرد من سكان الاتحاد، وعددهم 510 ملايين نسمة، 31 كيلوغراما من مخلفات تعبئة البلاستيك كل عام.

وسبب انتشار البلاستيك هو تعدد استخداماته، ورخص ثمنه، فالمادة المستخدمة من البلاستيك لصناعة قارورة شرب أقل تكلفة من المادة المستخدمة من الزجاج لنفس الغرض. وتشير سوزان سيلك، مديرة كلية التعبئة بجامعة ولاية ميشيغان، إلى ذلك بالقول: "البلاستيك زهيد السعر خفيف الوزن متعدد الاستخدام بشكل لا تضاهيه بدائل أخرى".

وقبل نصف قرن حين لم يكن البلاستيك قد أحكم سطوته كما هو الحال اليوم، كانت أغلب المشروبات تباع في زجاجات. أما اليوم فكافة المشروبات الغازية، إلا ما ندر منها، تأتي في قوارير مصنوعة من مادة قوية من البلاستيك تسمى ترفتالات البوليثيلين، يطلق عليها اختصارا (PET).

ورغم تذبذب سعر إنتاج القوارير بحسب سعر الخام والوقود في السوق، إلا أن فارق إنتاج الزجاج عن الـ PET هامشي (بنحو 0,01 من الدولار أكثر للزجاج، بحسب بعض الخبراء). لكن الفارق يتسع مع النقل، فوزن قارورة المياه الغازية المصنوعة من البلاستيك عبوة 330 ملليمترا نحو 18 غراما، بينما تزن القارورة الزجاجية نفس العبوة بين 190 غراما و250 غراما.

ويستهلك نقل شحنات أثقل وقودا أكثر بنحو 40 في المئة، ملوثا بدوره الهواء بعادم أكثر من ثاني أكسيد الكربون فضلا عن زيادة تكلفة النقل بما يصل إلى خمسة أضعاف للقارورة الواحدة. أي أن "البلاستيك قد يكون في أحيان كثيرة أفضل بيئيا عن بدائله!" حسبما تقول سيلك.

ويقدر تقرير للمعهد الأمريكي لعلوم الكيمياء ومؤسسة تروكوست للحسابات البيئية أن التكلفة البيئية لاستبدال الزجاج أو القصدير والألمنيوم محل البلاستيك في صناعة المشروبات الغازية ستكون أعلى بخمس مرات - وذلك باحتساب تكلفة التعامل مع التلوث الناجم عن المنتج.

ومع توجه الحكومات لمعاقبة الشركات الملوِثة للبيئة بفرض ضرائب ورسوم إضافية قد تضيف الشركات تلك التكاليف على سعر المنتج للمستهلك. ولا تتوقف التكلفة الزائدة عند المشروبات الغازية، بل تتجاوزها للحليب المعبأ أيضا في قوارير بلاستيكية.

وفي بريطانيا، تعهدت شركة أيسلاند لمنتجات البقالة بالتخلص من التعبئة بالبلاستيك بحلول عام 2023، وانتقلت فعلا إلى تعبئة الوجبات الجاهزة في أطباق ورقية بدلا من البلاستيك الأسود، وتعتزم استخدام مواد تعبئة أخرى مثل الزجاج والسليلوز المصنوع من ألياف الخشب.

ويقول ريتشارد ووكر مدير الشركة إنه رغم ما سيتكلفه الانتقال إلى تلك البدائل، فإن الشركة مصرة على عدم تحميل المستهلك الكلفة الزائدة.

لكن البعض يحذر من أن التخلي عن البلاستيك بعد سبعين عاما من استخدامه في تغليف الأغذية وتعبئتها قد يكون له تبعات أخرى غير متوقعة!

فاللفافة البلاستيكية المحكمة المحيطة بما تشتريه من الخضر جاءت نتاج سنوات بحثية ما جعل الطعام يبقى صالحا للاستهلاك أياما عديدة إضافية، ولولاها لتلف المنتج وزاد المهدر منه.

فالغلاف البلاستيكي المحيط بثمرة من الخيار يكسبها عمرا إضافيا قرابة الضعف فتبقى صالحة في الثلاجة حتى 15 يوما وبالتالي يقل الهادر من الطعام بمقدار النصف. أما ثمرة الخيار غير محكمة التغليف فتبقى صالحة يومين فقط في درجة الحرارة العادية وتسعة أيام في الثلاجة.

إهدار يبلغ تريليون دولار

ويبقى اللحم البقري المثلج في أطباق البولسترين المغلف بغشاء البلاستيك المطاط صالحا بين ثلاثة وسبعة أيام. أما حفظه في أغلفة بلاستيكية متعددة مع تفريغ الهواء فقد يبقيه حتى 45 يوما دون فساد. وتقدر مؤسسة تروكست للحسابات البيئية أن حفظ قطع اللحم الممتاز بتفريغ الهواء قد يحد المهدر غذائيا بنحو النصف مقارنة بتغليف البلاستيك العادي.

وكثير مما نشتريه من طعام في الأسواق اليوم يأتي مغلفا بإحكام في غشاء من البلاستيك الخاص وأطباق لحفظ اللحم بمنأى عن الأكسجين، كما تحفظ الفواكه والخضروات الطازجة في عبوات بلاستيكية تقيها التلف جراء الصدمات ومن ثم يقبل عليها المستهلك، كما أن وضع العنب في عبوات بلاستيكية منفصلة يقلل الهادر منه بنحو 75 في المئة.

كما يحفظ التغليف البلاستيكي الخضر والفاكهة من النضج المبكر، وحفظ الفلفل الحلو في أكياس البلاستيك المعزول يبقيه صالحا من أربعة أيام حتى 20 يوما، بحسب رابطة التعبئة والتغليف المرن.

وتمديد صلاحية الأغذية يعني خفض التكلفة بفارق كبير في الأسواق، فمد صلاحية المنتج يوما واحدا يوفر على المستهلك في بريطانيا ما يصل إلى نصف مليار جنيه، حسبما تقول هيئة "راب" الخيرية المناهضة للإهدار.

وعالميا تقدر تكلفة الهادر والتالف من الأغذية بقرابة تريليون دولار سنويا يتحملها غالبا المنتجون وتجار التجزئة. ويقول البعض إن ما اعتدناه من استخدام البلاستيك للتغليف ومن ثم التخلص منه أدى إلى زيادة ما نلقيه من طعام بتشجيع ثقافة الإهدار. لكن الكثير ممن يعملون في صناعة البلاستيكيات يؤكدون أنه لولا التعبئة والتغليف البلاستيكي لارتفعت تكلفة إهدار الغذاء.

حلول ذكية

وفي ضوء ما سبق يتضح أنه ربما بدلا من حظر البلاستيك بالكامل يتعين تحسين خواصه.

ويقول إيليوت ويتينغتون، مدير السياسات بمعهد الريادة المستدامة بجامعة كامبريدج، إن الحل "ليس في إدارة عقارب الساعة إلى الوراء بل في الإبداع؛ فهناك شركات عديدة بدأت تبتكر مواد بلاستيكية بإضافة عناصر تجعلها أكثر قابلية للتحلل والامتصاص بيئيا".

وما يشير إليه ويتينغتون هو الصناعة المتنامية لما غدا يعرف بالبلاستيكيات الحيوية التي تستعين بالنشا أو ببروتينات نباتية مشتقة من قصب السكر وغيره للإمداد بخام الهيدروكربون المستخدم لتخليق البلاستيك، وبعض تلك المواد يمكنها التحلل تدريجيا وبعضها لا يلحق ضررا بالبيئة إذ يختفي كلية بدلا من التفتت إلى جزئيات بلاستيكية أصغر.

وهناك شركات، مثل شركة بولدوغ البريطانية للعناية بالبشرة التي تحولت إلى البلاستيكيات الحيوية بالكامل متخلية عن أنابيب البلاستيك القديمة لتستعين بالمنتج من البوليثلين المشتق من قصب السكر، ورغم كون الأنبوب الجديد أكثر تكلفة إلا أن مؤسس الشركة، سايمون دافي، يؤكد أن شركته اتخذت القرار الصائب بالتحول عن البلاستيك.

كما أطلقت كوكاكولا قبل عامين ما سمته "القارورة النباتية" مستعينة بقوارير للمياه الغازية مصنوعة جزئيا من مخلفات قصب السكر المنتج في البرازيل، وتقول هي أيضا إن تكلفة ذلك أعلى من تكلفة القوارير العادية، دون أن تكشف لبي بي سي عن أرقام محددة.

وتكاد تكون تكلفة علبة الهامبرغر المصنوعة من ألياف قصب السكر ضعف المصنوعة من البولسترين، والشوكة المصنوعة من مواد تتحلل بيئيا من النشا النباتي تتكلف ثلاثة ونصف ضعف شوكة البلاستيك البيضاء المعتادة.

والبلاستيكيات الحيوية التي تستخدمها شركة بولدوغ أو كوكاكولا ليست تامة التحلل بيئيا، بل تشجع الشركتان المستهلك على إعادة تدوير تلك العبوات المصنوعة من البلاستيك الحيوي.

وهناك مشكلة في استخدام المواد التي تتحلل بيئيا على نطاق واسع، إذ تختلط مع مخلفات أخرى قابلة للتدوير وتنتج منتجا ضعيفا، فالقارورة التي انتجت بإعادة التدوير ودخلت فيها مادة تتحلل بيئيا تكون معرضة للتلف وهدر المنتج وبالتالي استرجاع الشحنة بالكامل والخسارة الفادحة. وفرز المواد القابلة للتدوير بين القابل للتدوير فقط والمتحلل بيئيا منه أمر معقد ومكلف.

واستخدام البلاستيك المدوَّر أرخص من استخدام البلاستيك الجديد، بسبب ارتفاع أسعار النفط، إذ ينتج البلاستيك الجديد من النفط، فالطن من مادة PET البلاستيكية الجديدة يتكلف ألف جنيه إسترليني، بينما يتكلف الطن من نفس المادة المدورة الرائقة 158 جنيها فحسب.

وقد يظن المرء أن استخدام التعبئة القابلة للتحلل على نطاق واسع هو الحل الأمثل لأنها لا تترك مخلفات ضارة بالبيئة، ولكن أنتوني رايان، أستاذ الكيمياء ومدير مركز غرانتام للحلول المستقبلية المستدامة بجامعة شفيلد، يرى غير ذلك، إذ يقول إن المواد القابلة للتحلل "تعالج العرض لا المرض".

فلو كان المرض هو ثقافة رمي كل شيء، فإن إنتاج مخلفات تتحلل بيئيا سيشجع الناس على الرمي أكثر. وبدلا من ذلك سيشجع على إنتاج المزيد من البلاستيك، على أن يكون قويا ومتماسكا ويمكن بدلا من رميه استخدامه المرة تلو المرة من قبل المستهلك.

وهناك فعلا برامج تشجع على إعادة الاستخدام، ففي فنلندا وألمانيا والدنمارك وأستراليا يتم إعادة قوارير بلاستيكية مقابل الحصول على بعض المال، ومن ثم يتم إعدادها واستخدامها مجددا.

لكن بحثا للمفوضية الأوروبية وجد أن برامج إعادة الاستخدام تلك قد تكون في النهاية أغلى خمسة أضعاف من استخدام المرة الواحدة! وعلى الجانب الآخر، وجد المنتدى الاقتصادي الدولي أن الابتكار في إجراءات إعادة الاستخدام قد يقلل تكلفة التعبئة بما لا يقل عن ثمانية مليار دولار سنويا!

ومع استمرار البلدان في استصدار قوانين ترفع تكلفة الأكياس البلاستيك وتحظر تعبئة المرة الواحدة فقد تجتذب برامج إعادة الاستخدام المزيد من الحلول المبتكرة.

وبالنسبة لكلير والودا التي يتابع فريقها نفايات البلاستيك بجزيرة ساوث جورجيا، فلا بديل عن إيجاد حل.

وتقول والودا: "يؤسفنا ما نراه من إطعام طيور القطرس صغارها بالبلاستيك! وأيا كان ما يقلل تلك النفايات في البيئة فهو خطوة على درب صحيح".

http://www.bbc.com/arabic

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق