رجحت يومية بوليتيكو الأميركية دوافع التراجع الأميركي إلى نفوذ الثنائي المتشدد مستشار الأمن القومي، جون بولتون، ووزير الخارجية مايك بومبيو؛ اللذين تسلما مهما منصبيهما حديثاً. بيد أن دور نائب الرئيس المتعصب ايضاً، مايك بينس، لم يجرِ تسليط الضوء عليه بما يستحقه؛ ليس في مدى نفوذه...
في غضون ساعات معدودة، انقلب الموقف الأميركي الرسمي من "الغاء" لقاء القمة في سنغافورة، 12 حزيران/تموز المقبل، إلى "التريث" والإعراب عن الجهوزية لعقد اللقاء. تخلل ذلك اتهامات متبادلة بين الطرفين، بدءاً بالتهويل الأميركي بضرورة الاقتداء "بالنموذج الليبي،" للتخلي عن الترسانة النووية الكورية مرة واحدة، ورفض كوري شديد اللهجة لإثارة شروط تفاوضية لم يتم الإتفاق بشأنها.
سارع رئيس كوريا الجنوبية، مون جيه-إن، الذهاب لواشنطن ولقاء الرئيس ترامب سعياً لإنقاذ الموقف، توجته بيونغ يانغ ببيان رسمي "هاديء اللهجة،" وواكبه تصريح أميركي من البيت الأبيض معلناً عن نيته المضي بعقد اللقاء.
في خضم تلك التطورات المتسارعة، برزت أسئلة جوهرية حول حقيقة الجدل الداخلي في واشنطن والقوى المتنفذة وسعي البعض تقديم تفسيرات "مقنعة" لسبر أغوار إدارة تطبعها العنجهية والرعونة والغطرسة في التعامل مع أقرب حلفائها، ناهيك عن خصومها وأعدائها.
في ذات السياق، رجحت يومية بوليتيكو الأميركية دوافع التراجع الأميركي إلى نفوذ الثنائي المتشدد مستشار الأمن القومي، جون بولتون، ووزير الخارجية مايك بومبيو؛ اللذين تسلما مهما منصبيهما حديثاً. بيد أن دور نائب الرئيس المتعصب ايضاً، مايك بينس، لم يجرِ تسليط الضوء عليه بما يستحقه؛ ليس في مدى نفوذه التمثيلي لدوائر القرار الحقيقية في المؤسسة الحاكمة والإشراف على أداء الرئيس كمنصب ذو صلاحيات واسعة فحسب، بل كعنوان رئيس لتحالفات الإدارة في "المسيحية المتصهينة."
ومن ناحية ثانية، كان بينس مكلفاً رسميا باستمزاج أراء كوريا الشمالية إبان انعقاد الاولمبياد الشتوي، شباط 2018، في بيونغ تشانغ بكوريا الجنوبية، واللقاء بشقيقة رئيس كوريا الشمالية التي كانت ترأس بعثة بلادها الرياضية؛ والغاء اللقاء في اللحظة الأخيرة بمبادرة من رئيسة الوفد الكوري كما تردد. "الرد" الأميركي تأخر بعض الشيء لحين نضوج ظروف الصراعات الداخلية في مجلس الأمن القومي، متوجاً بتعيين "جون بولتون" في مركز بالغ الحساسية والتأثير والنفوذ، مدشناً حضوره الإعلامي يوم 29 نيسان/ابريل الماضي بتهديد كوريا الشمالية بالنموذج الليبي لنزع الأسلحة "النووية" دفعة واحدة.
كوريا الشمالية، في بيان رسمي لها، وصفت نائب الرئيس الأميركي بأنه "دمية سياسية" على خلفية ترداده لمفردات جون بولتون – النموذج الليبي.
جدير بالذكر أن البيت الأبيض "تريث بعض الشيء" قبل إعلان دعمه الضمني لموقف بولتون المذكور، يوم 16 أيار الجاري، بادعاء المتحدثة الرسمية باسم البيت الأبيض، ساندرا ساندرز، انها "لم تطلع" على فحوى التصريح! في اليوم التالي، سأل الرئيس ترامب حول المسألة مباشرة ولم يرد التنصل من مغزى "النموذج الليبي."
في التاريخ القريب للقاءات القمم الأميركية يجد المرء تكراراً لتراجع واشنطن عن اعلاناتها ووعودها. "اضطر" الرئيس الأسبق رونالد ريغان إلى التراجع عن لقاء نظيره السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، تشرين الأول/اكتوبر 1986، في ريكيافيك بايسلندا، على خلفية اعلان الاتحاد السوفياتي عن نيته التوصل لاتفاق للتخلص من الأسلحة النووية "الهجومية" خلال عقد من الزمن؛ في محادثات رفيعة المستوى بين الرئيس الأميركي الأسبق دوايت إيزنهاور مع الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، 16 ايار/مايو 1960، على خلفية هجوم لاذع للأخير على الولايات المتحدة في حادثة اسقاط طائرة التجسس الأميركية، يو-2. إيزنهاور، وفق الوفد المرافق له، كان قد "استشاط غضباً" من الزعيم السوفياتي لتهجمه اللاذع علناً على الولايات المتحدة.
محفزات التبدل الأميركي
توقيت الإعلان الأميركي "الدعائي" بالانسحاب جاء بعد ساعات معدودة من تنفيذ كوريا الشمالية تعهدها بتدمير "منشأة نووية،" من مباني وأنفاق بحضور بعثات صحافية من عدة دول؛ سبقه إطلاقها سراح ثلاثة أميركيين محتجزين لديها عادوا برفقة وزير الخارجية الأميركي الزائر، مايك بومبيو.
في تلك الأثناء، ومنذ الإعلان عن موافقة الطرفين اللقاء في سنغافورة ومسار اضفاء الحرارة على علاقة الكوريتين ببعضهما، أعلنت الشمالية عن "وقف" اللقاءات الرسمية رفيعة المستوى مع سيؤول احتجاجاً على مضي جارتها تنفيذ مناورات عسكرية مشتركة مع القوات الأميركية.
واكبه تصريح لنائبة وزير الشؤون الخارجية في كوريا الشمالية، تشوي سون هوي، بأنه لا ينبغي "ان نتعب أنفسنا.. باللقاء إذا كانوا يرفضون الجلوس معنا." واضافت «في حال أساءت الولايات المتحدة إلى نوايانا الحسنة وتمسكت بتصرفات غير قانونية ومشينة، سأتقدم باقتراح لقيادتنا العليا لإعادة النظر بالقمة بين جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية والولايات المتحدة».
في الشق الأميركي، ارتفعت أيضاً نبرة التصريحات الأميركية تهيئة "لموافقة كوريا الشمالية المسبق لنزع أسلحتها النووية." قلة من الخبراء الأميركيين، خارج المؤسسة الحاكمة، أكدوا عدم صحة تلك الادعاءات بل التأكيد على أن "الزعيم الكوري كيم لم يطرح تلك المسألة على بساط البحث،" وإنما استدراج أميركي بتشديد المطالب قبل اللقاء، وربما تهيئة الظرف لتقديم مبرر لإنسحاب أميركي من التزامات لم تكن صادقة في تنفيذها.
عند هذه النقطة الفاصلة، يجد المرء شبه إجماع في الدوائر الأميركية المتعددة بأن الرئيس ترامب كان يعول كثيراً على اللقاء لجملة دوافع ذاتية محضة وأبعاد سياسية داخلية، أولها انتقاداته الدائمة لسلفيه الرئيسين جورج بوش الإبن وباراك اوباما لفشلهما في "الحفاظ على المصالح الأميركية،" وما سيشكله نجاحه من تعزيز إرثه السياسي الهش وتعزيز هاجس صورته الذاتية بالقائد "الحازم والقوي. "
الأمر الذي يفسر جزئياً تداعي مصالح القوى المتشددة داخل المؤسسة الحاكمة بالتدخل ونزع زمام المبادرة من بين يديه، واضطراره للتناغم مع الشروط التقليدية "بعظمة أميركا العصية عن المساس؛" على الرغم من تحذير خبرائها في المجالين النووي التقني والسياسي الاستراتيجي لتداعيات الإلغاء كونه يوفر حجة إضافية للرئيس كيم جونغ اون لتشديد مطالبه وشروطه على كل من كوريا الجنوبية والطرف الأميركي على السواء، أبرزها النجاة من طوق العقوبات الإقتصادية.
في الخلفية - حقائق
تزامن "إفشال" واشنطن للقاء القمة مع كوريا الشمالية مع دورها النشط والمتجدد لأولوية التعامل مع "الورقة الإيرانية،" مما يعني موضوعيا "تراجع" البت بالمسألة الكورية لحين آخر ممثلاً بفشل واشنطن اخضاع إيران لشروطها؛ ومن ثم الوثوب مرة أخرى لإضفاء حرارة في الملف الكوري.
كما أسلفنا، استناداً إلى حصافة رأي عدد من الخبراء الأميركيين، أن الرئيس كيم جونغ أون لم يكن في نيته تحقيق مطالب واشنطن بنزع السلاح النووي، بصرف النظر عن جبل الدعاية الأميركية الهائل بعكس ذلك والتهويل بأن "براعة الرئيس ترامب التفاوضية" ستجبر نظيره الكوري الشمالي على الموافقة بالتخلي عن برامجه الصاروخية والنووية.
ومن بين الأسئلة البارزة على طاولة البحث إن كانت واشنطن والرئيس ترامب يخشيان انتهاء لقاء القمة دون الفوز بموقف من كوريا الشمالية يمكن صرفه كانتصار في الداخل الأميركي, عند إضافة البعد الاستراتيجي الإقليمي والدولي، وتحديدا عاملي الصين وروسيا، وإن بوتائر مختلفة، نستطيع القول أن واشنطن كانت تدرك، ولا زالت، استحالة تحقيق ما عجزت عنه بالتهديد العسكري مع قادة وقوى إقليمية متمرسة تتحلى بطول النفس.
أعلنت واشنطن، في فترة إعداد التقرير بين أيديكم، عن إرسالها بعثة رسمية لسنغافورة لاستكمال الترتيبات بعقد القمة في موعدها السابق، 12 حزيران/تموز المقبل.
اضف تعليق